قنديل أمّ هاشم

قراءة في كتاب قديم

TT

«قنديل أمّ هاشم»، معْلمٌ بارز في الأدب العربي. قصّةٌ آسرة. من آيات سحرها أنها تُرْجمت إلى لغاتٍ مختلفة. غرابتها أنها تتجدّد مع كلّ قراءة. كأنّها كُتِبت البارحة. القصّة العربية الحديثة تجاوزتها فنّياً،

مع ذلك ما زالت تتجدّد بعنفوان. بالإضافة إلى ذلك ثمّة ثغرات بنائية، لا يمكن إساغتها في أية قصّة أخرى، إلاّ أنّها من عناصر قوّتها.

تبدأ القصّة أولاً ًبزيارة القرية إلى المدينة. يظهر تباينهما على أشُدّه، بممارسة طقس ديني تؤدّيه القرية، وتتعالى عليه المدينة.

القرية تتمثّل بالشيخ رجب عبد الله يومَ كان صبيّاً. يزور مع رجال الأسرة، ونسائها مسجد السيدة زينب، و"يهوي على عتبته الرخاميّة بالقبلات"، مما يثير حفيظة رجال الدين، فيستعيذون "بالله من البدَع والشرك"، أما أغلبية الشعب فتبتسم لسذاجة هؤلاء القرويين".

بهذه المقدّمة التي تبدو عادية، صوّر يحيى حقي بفطنة، شرخاً حضاريّاً بين بيئتين بشريّتين، رغم أنهما تشتركان في بلدٍ جغرافي واحد. هل سيتوسّع هذا الشرخ؟ هل سيلتئم؟

بهذه الحيلة الفنّية أثارالمؤلّف فضول القارئ، وتحرّقّه.

نظراً لهذه النزعة الدينية، فإن الشيخ رجب عبد الله، حين هاجر إلى المدينة (القاهرة) طلباً للرزق، فإنّه اختار سَكَنَهُ بالقرب من المسجد. وحين نجح في متجره عزا ذلك إلى السيّدة زينب.

دخل إسماعيل المدارس الأميرية. ولأنّ تربيته دينية، وينحدر من أصلٍ قروي، فقد تفوّق على أقرانه أولاد "الأفندية" "المبتلين بالعجمة وعجز البيان". أمّا البيت فإنّه إنْ جلس للمذاكرة يرين فيه خشوع كامل. " حتى فاطمة النبويّة – بنت عمّه، اليتيمة أباً وأمّاً- تعلّمت كيف تكفّ عن ثرثرتها وتسكن أمامه في جلستها صامتة كأنها أمَةٌ وهو سيّدها. تعوّدت أن تسهر معه كأنّ الدرسَ درسُها، تتطلّع إليه بعيْنيْها المريضتيْن المحمرّتيْ الأجفان..."

بذر يحيى حفّي حتى هذا الحدّ بذرتيْن مهمّتين، وكأنّهما سقطتا من بين أصابعه عفواً. الأولى بذرة التباين والاختلاف بين القرية والمدينة، والثانية: فاطمة النبوية، وقد منحها المؤلف صفاتٍ تقرّبها إلى النفس. هي أوّلاً بنت عمّه. يتيمة الأب والأم. تسهر معه. عيناها محمرّتا الأجفان. ما الذي ستكون عليه هذه العلاقة البريئة الحميمة؟ وهل سيكون جفناها المريضتان إحدى حبكات القصّة؟

أكبر الظنّ انّ الكتّاب الموهوبين يجعلون الحوادث والأفكار كالبذور، تسقط من بين أصابعهم عفواً. ثمّ بعد سنوات تواجهها وقد أصبحت أشجاراً ملتفّة. هكذا نشأ "إسماعيل في حراسة الله ثمّ أمّ هاشم (السيّدة زينب) ".

كان إسماعيل يقطع المسافة المحدودة بين الحيّ والميدان بسرعة، ولكنّها تطول إذا سار إلى جانب النهر أو إذا وقف على الجسر. وبعد انفضاض الغرباء والزوار لا يُسمع في هذه الحارّة، سوى "تنفّس خفيّ عميق، يجوب الميدان، لعلّه سيدي العتريس: بوّاب الستّ زينب".

حينما تلتفت إلى مصدر ذلك الشهيق والزفير ومصدره سيدي العتريس، ترى قبّة. هي :"لألاء من نور يطوف بها. يضعف ويقوى كومضات مصباح يلاعبه الهواء. هذا هو قنديل أمّ هاشم المعلّق فوق المقام".

بعد كلّ تلك الاحتفالية النهارية، والأجواء القدسيّة التي ترين على الحيّ والبيت، يظهر قنديل أمّ هاشم وكأنّه روح حانية مشعّة، بعد أن يخلو الحيّ من الغرباء والزوّار. لا يخلو تماماً، إذ سرعان ما يمتلئ ببشر جعلتهم الفاقة أشباحاً صفراً. من هذا الجوّ المشبع بالذبول والإنهاك والصمت تصعد أصوات الباعة. وعلى الرغم مما في هذه الحومة من روح قدسية، إلاّ أنها لا تخلو من "أن يكون الكيل مدلّساً والميزان مغشوشاً. كلّه بالبركة". ثُمّ بعد ذلك يشتدّ نداء الشحّاذين. "شابّة تنبت فجأة وسط الحارة عاريةً أو شبه عارية:- يا للي تكسي الولية يا مسلم، ربّنا ما يفضح لك ولية". " وهذا بائع الدقّة الأعمى الذي لا يبيعك إلاّ إذا بدأته بالسلام وأقرأك وراءه الصيغة الشرعية للبيع والشراء". ثمّ تأتي بعد ذلك أصوات السكارى وهم يتعرّضون للمارّة بتعليقات لا تخلو من ظرف.

في المرحلة الثانية، نتعرّف على إسماعيل مراهقاً، بعد أن تعرّفنا على أهمّ الترسّبات الدينية والثقافية في خلفيته الأولى. يمكن القول إنّ المرحلة الأولى تمثّل الإعداد الذهني والنفسي كمنهج لحياته في المستقبل. أمّا المرحلة الثانية فتمثّل الجسد في أعلى درجات غليانه، لا سيّما إذا كان تفجّره الطبيعي محرّماً. يقول راوية القصّة :"هو فريسة ممزّقة بين قُوىً دافعة، وأخرى جاذبة. يهرب من الناس ويكاد يجنّ لوحدته. بدأ يشعر بلذّة غريبة في أن يندسّ بين المترددات ولا سيّما وقت الزيارة. ربّما أدرك إسماعيل أنّ ثمّة منطقة رماديّة بين الحلال والحرام بين الاحتكاك بالملابس والاحتكاك العاري. تنمّرت عليه في هذه المرحلة حاسّة الشمّ. من خلالها كان يفرز حيوانيته، أو كما يقول راوية القصّة :"في وسط هذه الأجسام كان يشعر بلذّة المستحمّ في تيّارٍ جارٍ لا يبالي نقاء الماء.. روائح العرق لا تكربه، بل يتشمّمها بخيشوم الكلاب. حتى النساء كنّ يفدن إلى هذا المقام لتقديم شمعة. انتقلت العدوى لدى إسماعيل من حاسّة الشمّ إلى حاسّة البصر حيثُ نعيمة السمراء الجعدة الشعر، الرقيقة الشفتيْن..."

بعد البنات السائبات، يأتي خليط من الرجال والنساء لأخذ شيء من زيت قنديل أمّ هاشم لعلاج عيونهم. يُدعى الرجل الذي يدير هذه الحومة المزدحمة : درديري، وهو "وسطهنّ كالديك بين الدجاج". وعلى الرغم ممّا يدرّه عليه عمله من رزق، إلاّ أنّه لا تبدو عليه أيّة أمارة من أمارات الغنى. "الحقيقة إنّه كان مزواجاً لا يمرّ العام إلاّ ويبني ببكر جديدة". مع ذلك كان مؤمناً إيماناً أعمى وخرافيّاً بكلّ ما يتعلّق ببركات قنديل أمّ هاشم.

أثّرتْ حرارة جسد إسماعيل على ذهنه فجاءت نتيجة الامتحان مثبطة، فقرّر والده إرساله إلى بريطانيا لدراسة طبّ العيون رغم ضائقته الاقتصادية. في الوقت نفسه اتفق الوالدان على أن تكون فاطمة النبوية من حقّه وهو من حقّها. حين يقرأ إسماعيل الفاتحة إيذاناً بقبوله، وإنّه لكاذب... إذ أنكر أنّه جوعان إلى فتاته السمراء، إلى النساء جميعاً، لا سيّما أخيراً إلى نساء أوروبا".

يبدو أنّه حتى فاطمة النبوية تعرف أنّ " نساءأوروبا يسرْنَ شبه عاريات، وكلّهنّ بارعات في الفتنة والإغراء. فإذا سافر اسماعيل فلا تدري كيف يعود إنْ عاد". قبل وداعه ، "دار اسماعيل" حول المقام، فإذا بفتاته السمراء تلك تدعو وقد ألصقت جبينها على السور. عرف من دعائها أنّ رجلاً تركها، وأنّ جسدها أصبح ليس منها فما تشعر بالألم وهو ينهشها نهشاً. حاول إسماعيل أنْ يلحقها إلاّ أنّ قدميْه لم تتحرّكا. "أراد أنْ يُفضيَ لها بكلّ ما في نفسه... لماذا يهتزّ لمرآها دون سائر النساء؟ أوَاهمٌ هو؟". لم يجدْ إسماعيل مهرباً من حيرته هذه "إلاّ بالشيخ درديري، وحديثه الثرثار ينزل بلسماً على فؤاده".

سافرت الباخرة بعد وداع ضاجّ دامع. " ومرّت سبع سنوات، وعادت الباخرة". خلال هذه السنوات السبع حصل إسماعيل على شهادة طبّ العيون، وغوى وعربد ورقص. لكنّ الشيء الذي تعلّمه، ولم يخطر بباله أو بال عائلته أنّه "تعلّم كيف يتذوّق جمال الطبيعة ويتمتّع بغروب الشمس - كأنْ لم يكنْ في وطنه غروب لا يقلّ عنه جمالاً – ويلتذّ بلسعة برد الشمال". إلاّ أنّ (ماري) زميلته في الدراسة هي التي صنعت منه إنساناً متحضّراً "ففتحتْ له آفاقاً يجهلها من الجمال : في الفنّ، في الموسيقى، في الطبيعة، بل في الروح الإنسانيّة أيضاً". كانت مفرداته الحضارية تتوسّع يوماً بعد يوم. فإن أراد أن يضع لحياته برنامجاً ثابتاً، تقول له : "الحياة ليست برنامجاً ثابتاً، بل مجادلة متجدّدة". وإذا قال لها لنجلسْ، تقول له :"قمْ نَسِرْ". لا يحدّثها إلاّ عن الزواج ولا تحدّثه إلاّ عن الحبّ، وحين يسرح في المستقبل تعيده إلى الحاضر. يبحث في دينه وعبادته وتربيته وأصولها كمشجب، وهي تقول له : "إنّ مَنْ يلجأ إلى المشجب، يظلّ عمره أسيراً بجانبه يحرس معطفه".

لاحظت (ماري) في شخصية إسماعيل شتى أنواع النفاق والمجاملة، يتخوف من حكم الناس عليه. "التعارف عنده اصطدام بين الشخصيات يخرج منها ظافراً أو خاسراً". أما هي " فتهيم بالناس جميعا، ولا تهتم بهم جميعا، التعارف عندها لقاء، والودّ متروك للمستقبل". ثم توالت نصائحها له حتى في ممارساته الطبية. تطلّب الأمر من إسماعيل استحالات كثيرة حتى بلغ مستوىًِِ من التعليم على يديها، لدرجة تمكّن معها أن يكون نداً لها بعد أن كان " يجلس بين يديها جلسة المريد أمام القطب". لكن حين تركته عن رضا " وجد نفسه فريسة حبّ جديد" ألا وهي حبّ مصر الذي " لم يكن يشعر به إلا شعوراً مبهماً"

في الواقع ما من علاقة مباشرة بين الحبين، ولا يمكن أن يعوّض حبّ الوطن عن حبّ بشري يختلط بالأنفاس واللحم والدم والصلب والرحم. يبدو أن راوية القصة لم يحسن تصوير الفراغ الذي خلفته (ماري) فأفاد من الوقت الفائض بين يديه بالتفكير في الوطن. لا عجب أن قال راوية القصة :" والظاهرة العجيبة التي لا استطيع تفسيرها هي أنّ إسماعيل أفاق من حبه لـ ( ماري ) فوجد نفسه فريسة حب جديد ، هل لأنّ القلب لا يعيش خاليا ؟ أم أنّ ( ماري) هي التي نبّهت غافلا في قلبه فاستيقظ وانتعش؟ "

الغرابة الثانية ـــ وهي لا تخلو من ارتباك المؤلف ـــ هي أن اسماعيل كلما ازداد حبه لمصر، زاد ضجره من المصريين " كان أبواه أول ضحايا ضجره. " فالأم كتلة من طيبة سلبية" و"الأب مشتعل شيباً". " البيت ضيق وأشد ظلمة " قطع الأثاث بالية .... حتى خطيبته فاطمة النبوية لم تسلم: "كل ما فيها وعليها يصرخ بأنها قروية من أعماق الريف. هل هذه هي الفتاة التي يتزوجها ؟ علم منذ اللحظة أنه سيخون وعده وينكث عهده " .

لا يمكن أن تتغير شخصية كشخصية اسماعيل القروية بعد سبع سنوات في الغربة، لا سيما وأن اعتماده اقتصادياً لم ينقطع في يوم ما. ربما أراد يحيى حقي بهذه الغرابات غير المعقولة أن يمهّد إلى ما سيقوم به اسماعيل من حماقات بشأن كسر قنديل أم هاشم، وهو بلا شك أمر جلل.يندم لعودته إلى " هذا الوطن المنكود، يكسر قنديل أم هاشم ، يطبب عيني فاطمة النبوية بأدوية أوروبا. تعمى بين يديه ولم ينفع معها كل دواء حديث".

يوازن الآن بين عقله الأوروبي وقلبه الشرقي" راح يفكر كيف يهرب إلى أوروبا من جديد، ولكنه في الليلة التالية يعدل عن فكرته". وفي شهر رمضان أحيتْ ليلة القدر فيه ماضيا جليلاّ.

تنتهي القصة بصدفة مبهجة رغم لا معقوليتها. مبهجة لأن بطل القصة عانى الأمرّين أمام أعيننا، كان خائبا أمام أعيننا، فلابدّ من إنقاذه بأية وسيلة حتى لو كانت صدفة لا علاقة لها بأي علم. من تلك الصدف مثلا، أنه سمع " زفيراً وشهيقاً يجوبان الميدان. هذا هو سيدي العتريس" . ثمّ إن المقام " يرقص عليه ضوء خمسين شمعة زيّنتْ جوانبه" كانت تلك شموع نعيمة "تلك الفتاة الطويلة السمراء، الجعدة الشعر". يأخذ إسماعيل شيئا من زيت القنديل، يقول لفاطمة لا تيأسي من الشفاء. فاطمة " تتقدم للشفاء على يديه يوما بعد يوم".