مدينة تستكين لفطرتها وبعدها عن دائرة الضوء

الشاعر الطبال والفنان الناشف يعيد اكتشاف شفشاون المغربية بالكلمة والصورة

TT

كاتالوغ "التراث وروح المجال: شفشاون" (أصدرته مديرية الهندسة المعمارية، بوزارة الإسكان المغربية)، هو السادس ضمن سلسلة إصدارات عن المدن المغربية العتيقة، بعد كتالوغات خصصت لمدن "الصويرة"، و"تازة" و"آزمور" و"تطوان". إلا أن ما يسترعي الانتباه في العمل الحالي هو طبيعة النصوص المرافقة للصور، التي جاءت عبارة عن قصائد باللغة العربية ترافق صور الأماكن والشخوص، بينما غلب على الكاتالوغات المغربية، سواء الخاصة بالأزياء والمنحوتات التقليدية، والفن التشكيلي، أو الشخصية، المتعلقة بنجوم السياسة والفن، أو كاتالوغات المدن والصحاري، من مثل تلك التي أنجزت عن مدن: "فاس" و"مراكش" و"الرباط" و"تافيلالت"، و"وارزازات"...، وكان أشهرها تلك التي أشرف عليها "العربي الصقلي" وحملت عوان (Sites & cités) وأصدرتها دار"نوفو ميديا" بالرباط.

يتكون هذا الكاتالوغ من واحد وأربعين صورة فوتوغرافية، لأحياء، ومساجد، ودروب، وبساتين، وأبواب تاريخية، ودور عتيقة، وعيون ماء، وشلالات، ومقابر، وسلالم حجرية، وأفران، ورحى، يرافقها العدد ذاته من النصوص الشعرية، تضاف إليها صور ثلاث لوحات مائية للتشكيلي "محمد حقون" ترافق فهرست الكتاب، وصورة للشاعر عبد الكريم الطبال في مفتتحه. أما غلاف الكتاب فتفصيل من لوحة زيتية بعنوان "ألف ليلة وليلة" للتشكيلي المغربي الراحل أحمد الورديغي (1928-1974).

ولقد أنجزت صور "الكاتالوغ" بالأبيض والأسود، للإيحاء بنوع من الوجود البرزخي بين الحقيقي والتمثيلي، فاللونان، اللذان لا ينغمران بالموضوعات الواقعية، ولا يصادرانها أيضا، يعكسان الإيهام الواقعي "مشخصنا"، باردا، ومحتويا قدرا من التنميط، يصله بذاكرة "فنية" من الهيئات والوجوه، والفضاءات القديمة، ثم لقدرة اللونين المرجعيين على تقليل احتمالات المخاتلة البصرية، وايحائهما بالبساطة والفطرية.

تجسد الصور عدة زوايا نظر، وتحفل بمضامين شخصية وفضائية غنية بالأبعاد، يوحدها موضوع المعمار والطبيعة، ويشكل حضور الإنساني فيها معبرا إلى استيحاء الثقافي والاجتماعي الراسم لهوية المكان. فعبر صور: "الصبية العابثين في بركة رأس الماء"، و"المرأة الحاملة لوح الخبز"، و"الطفلة المطلة من فناء البيت"، وصورة "اختلاف السابلة بساحة المسجد الأعظم"، تستثار تفاصيل الانتماء إلى ذاكرة المدينة، بتلقائية، وحميمية، وصمت موح، نافذ الأثر، مما يجعل من سجل الصور سردية بصرية، غير خطية، متعددة الأبعاد، عن مدينة تستكين لفطرتها وبعدها عن دائرة الضوء.

وعلى ما يبدو فإن تسلسل اللقطات بانسيابية أخاذة، بين حومات المدينة، تـم دون إخلال بالوظائف الإيهامية للتصوير الضوئي، بما يكتنفه من تقطيع نوعي، هو الأصل في جعل التعبير الفوتوغرافي يكتسب بعدا إشكاليا في نقل الوقائع الدنيوية واختزالها وتشذيرها في آن، حيث روعيت قدرة الموضوعات على الحضور ضمن إطار تمثيلي يستثير اللحظة المنفلتة للذاكرة، ويحوله إلى قيمة رمزية دالة على هوية المكان وثقافته، على نحو يرتقي بالمرجعي إلى مرتبة الأثر الفني ويكسب الحياتي مضامين تخيلية، ويحول الاعتيادي إلى مخبر للأسرار. ومن ثم كانت الصور الملتقطة لـ: "ساحة وطاء الحمام" و"عقبة الغرناطي" و"حي العنصر" و"باب النقبة" و"دار التليدي" مثلا، تبدو من حيث هي كناية عن قول مضمر، وتشخيص لفعل تأملي، ستنهض نصوص عبد الكريم الطبال الشعرية باستيضاح عوالمه.

والحق أنه يمكن الوقوف على ثلاثة أنواع من خطط المصاحبة والعطف بين الصور والنصوص الشعرية المرافقة لها، الأولى تتسم بنزوع النصوص إلى الظهور بصفة المعلول القولي للأثر البصري، بحيث تكشف المقاطع الشعرية الكنه المبهم للصور الضوئية الصامتة، وتفسر آلياتها في نقل الوقائع، وتخييل المصادر الغائبة، وتبسط مضمونها الحكمي والفني. مثال ذلك ما نجده في النص المصاحب لصورة "ساحة الهوتة"، عندما يصل تلاعب الأضواء والظلال، لحظة الزوال، ذروته، بين الدروب وأسقف المنازل الحانية؛ وتبرز في الصورة امرأة بجلبابها المغربي تمشي في محاذاة الحائط، الناصع البياض، بينما تنعكس على أرضية البلاط الصخري الظلال المتشابكة للجدران والنوافذ المجاورة. يقول الشاعر:

«حورية/ تنزل من شرفاتها/ في كل صبح/ لتلعب هنا / لعبة الظل والضياء/ ولا تمل/ حتى إذا حل المساء/ تعود مسرعة/ إلى السماء"(ص 48).

لعل أصل غواية الفوتوغرافيا أنها تحول أثر الضياء المؤقت، إلى شيء خالد، وتفرغ الزمني العابر في المكاني المقيم، وسرعان ما يتجلى سحر الصورة مبهما، لشبهه الشديد بالحقيقة، ولذا فإن النص الشعري المصاحب يسعى إلى التخفيف من غلواء تلك الشفافية المبهرة، وشرح محمولها الذهني. بيد أنه في كثير من الأحيان ما يجد الشاعر نفسه في مواجهة معنى مكتمل القيمة قد يخل به الشرح أو يزيغ بمقصوده. وهنا نقف على النوع الثاني من العلاقة بين الصور والنصوص المرافقة لها في الكتاب، قوامها المحاكاة وإعادة تخليق المعنى الصوري بتكوين شعري جديد، وهو ما يتضح في القصائد التي تصاحب صور الفناءات الفارغة، والدروب المعتمة، والأسقف القرميدية الخرساء. ومن أبلغها تلك التي يترجم فيها الشاعر المغزى الغامض الذي تستثيره صورة داخلية لفناء مفتوح لحظة انحسار أشعة الشمس؛ تُـلتقط الصورة عند مدخل قوس واسع ينفتح على ردهة صغيرة تنتهي ببابين منفرجين باطنهما سواد حالك، بينما تبدو الجدران وأرضية الفناء مشرقة ببياضها الجيري، وتنمو من المفارقة الضوئية كل معاني الوجود البرزخي لساكنة "شفشاون": بين "الفرح" و"الشقاوة"، "الكفاف" و"صبوة العيش"، "البياض" و"الانغمار بالحلكة". يقول الشاعر بصدد هذه الصورة الموغلة في الالتباس: "هنا بين الشقوق/ في العتمة الكثيفة/ في باطن التراب/ في ظلال غائمات/ في الأعماق/ يسأل العقل/ عن حقيقته"(ص30). وكأنما تطفر من باطن البياض رحلة الأبدية، حيث يرى الشاعر فيها إطلالة على العالم الآخر، اللحد، حيث البياض يغطي هالة السواد الغميقة، في العمق الخفي.

في مقاطع أخرى يسعى الشاعر إلى صياغة علاقة من نوع ثالث مع الصور المقروءة، ستكون هي المهيمنة على خطة الكتاب، وهي أن تتحول النصوص المصاحبة إلى تعليق تأملي، ذي نفحة صوفية، أحيانا، ساخرة أحيانا أخرى، إنما بطعم حريف دائما، مع نبرة آسية، تتفاعل مع إحساس الانمحاء، وهروب الزمن، الذي تخلفه صور الأمكنة القديمة. فالفوتوغرافيا تفلح باستمرار في جعل الناظر يعتقد أن ما تم تصويره لم يعد له وجود، أو أنه "حُرف" وتم تشويهه، وفي جميع الحالات انتقل إلى حال الأسوأ، كما أن الأبيض والأسود هما المجاز الكبير لـ: "الزمن الجميل"، وطبيعي بعد ذلك أن تكون كل مشاهدة للصور لحظة خالصة لـرومانسية الماضي، والبحث عن التواؤم مع وجودنا الحاضر.

وفي تعليق الشاعر على صورة لعجوزين مرتديتين لباسا محليا (منديل مرقش يكسو الجسم من الخاصرة إلى أسفل القدمين، وعباءة بيضاء تلف الرأس وأعلى البدن) يرتقيان سلما محفورا بين المنازل المعلقة، وقد هدّهما العمر واطراد السعي؛ تنبجس رباعية تستقطر الإحساس المأساوي الذي تستثيره الصورة الفوتوغرافية: انسراب العمر، وتلاشي الجسد، وتضاؤل الأفق والمحيط،... يقول: "أيها المبطئ الخطى سوف يجري/ بك يوم وأنت تمهل سيرا/ غفلة العشب لا تأخر ريحا/ عن هبوب، ولا تؤجل قطرا"(ص36)

رباعية تستدعي إلى الذهن، إشراقات عمر الخيام، ممزوجة بهجائيات صلاح جاهين لأحوال الزمن وتقلبات المصير الإنساني، غير أن ما يجعل الصورة الشعرية الحالية تغتني بمدلولات المفارقة هو اقترانها بحال الطمأنينة التي توحي بها الصورة الضوئية، حيث إن ارتقاء المرأتين على السلم لا يوحي بعجلة ما، يسكنه إيقاع العادة، ورتابة المكان، وقدر العيش بين الجدران البيضاء، وكأنما تلك الأبواب والأسقف والنوافذ والثياب المنشورة على الأسطح ستواجه الزمن إلى ما لا نهاية، واضعة أفق المدينة على مشارف الخلد.

يعيد عبد الكريم الطبال، في الكتاب الحالي، اكتشاف المدينة، ويرتقي مدارج أخرى في تأويل صورها ومجازاتها، ويستجلي إيقاع الزمن في تفاصيل تحولات أمكنتها، غير أنه يكتب أيضا سيرته الشخصية بكثير من الحكمة، والقلق الوجودي، والسخرية السوداء، مستأنفا شغفه الأزلي بمزج الذات بالفضاء؛ عبر سياقات متفرقة ترتكز على تفاصيل نورانية، تتحول إلى صور ودلالات وقيم رمزية بالغة الرهافة والعمق والشفافية: عن البيت والحارة والساحات والمقاهي والمساجد، تعيد تكوين المرتع الشعري وتستعيد الماضي المنفلت مثلما الذرات في ساعة الرمل.