مقطع من رواية «أعراس البحر» الحائزة أكبر الجوائز الهولندية

TT

> «بما أن النساء الحوامل في المنطقة كنّ متعوّدات على أن يجتمعن مائة مرة في اليوم بالقرب من النبع، كي يتحادثن ويُثرْثرن ويهذرن ويلبسن ويَهْذين، الواحدة بعد الأخرى، وبشكل جماعي، ربما بعضُ هذه الثرثرات المختلطة بخرير الماء تسربَّت إليها إلى حد الجوف بُطونٌ حاملةٌ. هكذا فقبل أن يرى أدنى ومضة، كان "لاَمَاراَت" يمتلك نظرة واضحة عن العالَم: يتطلب الأمر، في البدء، تجميع أقدر قدر ممكن من قارورات الماء من النبع على سلال الحمير، ثم ثانيا اتخاذ القرار إمّا بالبقاء أو الرحيل. ثم ان هناك مشكلة لا تقل أهمية: كيف يتوجب أن يكون عليه لباس الأب قبل السفر، لأنه من خلال مقارنة ثياب السفر يمكن تقييم وضعيته لدى عودته». ملاحظة سديدةٌ وحقيقية. الحقيقة المطلقة. إذن فإن الأب، الذي كان أبا قادما ـ في بطن أُمِّه كان طفلهُ يُنصت إلى النساء وهن يثرثرن حول «الرجل ـ الآذان» ويتحدثن عن محتوى الطبق الذي سيكون عليه العشاء ـ، غادر وهو لابسٌ ألبسة عادية، كما لو أنّهُ، ذات بعد ظهيرة وبمزاج سيئ، نهض فجأةً في وسط حقول البصل في تلك المنطقة قال لنفسه: هيا، أقوم بجولة صغيرة في ألمانيا. ولكن أباه صاح فيه: «إن هذا ليس بدلة، مظهرك يشبه مظهر شحاذّ، ما الذي ستقوله عنك نساءُ تاوريرت!»، «ما الجدوى من الملابس، ما الجدوى من تدخين المارلبورو بدل كازا سبورت؟ إنها بالنسبة لي لحظة السفر، وانتهى الأمر». قال من سيصبح أباً (فَكَّر، العجوز الغبيّ، بنفس وقاحة «لامارات»، لاحقا، حين بعث به الأبُ ليبحث عن عمه الهارب).

غادر الأب «تاوريرت»، محملا فقط بحقيبة صغيرة. أما زوجتهُ، التي كانت مشعة بسعادة جديدة ومنهوكة من الغثيانات، فقد غادرها بصفة بعيدة عن اللياقة، حاملا ومفلسة، كما يقالُ في المناطق المتميزة. لم يُقبِّلْها قبلة الوداع ولكنه تركها في المطبخ مع حماتها. سقط من «تاوريرت» مُحاذياً جبل السكر في اتجاه الطريق الإسفلتية المتعرجة حيث أوقف سيارة تاكسي. سأل السائقُ: «إلى أين أنت ذاهب؟» أجابه: «إلى ألمانيا، أكسب لقمة العيش».

هل تعرف أننا نعيش في ظروف جيدة، هناك، في «الغرب». كان الأب يقولُ حين يُسألُ في رقّة، دون أن يظهر ذلك: «هل تعرفُ كيف كانت عليه الحالُ في تلك الفترة؟». «كانت النساءُ البيضُ يُرحِّبْنَ بنا، لأننا، باستثناء بعض الإسبانيين والإيطاليين، كنّا قلائل». الحقيقة هي كالتالي: بسبب عزلته الكبيرة في هولندا، واعتماده على وسائله الخاصة، كان الأبُ يحسّ بأنه يشبه أعزبَ أبديا، على الرغم من أنه كان لا يتوقع أن يقيم طويلا. (في الفترة التي كان لا يزال فيها يعتقد بحكاية الجنيات، قال للأُمّ: «عزيزتي، هذا هو مخططي: سأبقى هناك ما بين ستة أو ثمانية أشهر، لا أكثر، إلى أن أمتلك ما يكفي من المال يقيني من وُجوب غرز مِعْزَقَة في الأرض. أشتري مقهى، وأضع فيه بعض منصّات للّعب وأقضي حياتي في إعداد الشاي وفي بيع قليل من حشيشة الكيف». بعد هذه الكلمات عانق الأمّ وأحبَّهَا بحرارة كي يُثبِّتَ تعهده المتبجِّح، لأنه كما يعرف «لامارات» أيضا، فالأمرُ سيَجْري بشكل آخر».

في منطقة إيووجين تنزل درجة الحرارة في الصيف، عموما، إلى ما تحت ثلاثين درجة أثناء النهار. وفي الشتاء يقول المرءُ إن الأرض مغمورةٌ، إلى الأبد، بسحاب مليء بِوابل من المطر.

«أنت تفهم ما أريد قولَهُ، أيها الأعرج؛ كل شيء أو لا شيء. الأمر هنا على هذا الشكل، الناس يريدون كل شيء، أو لا يريدون شيئا بالمطلق». كان يُعيدُ هذه الملاحظة بشكل كبير، وعلى مسامع كل أصدقائه الذين كانوا ينصرفون. أحدهم لأنه جرب حظه في الصيد البحري، والآخَرُ لأنه حاول الالتحاق بالشمال، والآخر، بكل بساطة، لأنه انصرف. إن مستخدم تعرّجات الطريق الإسفلتية لم يكن الوحيد الذي يمتلك سيارة في المنطقة، ولكنه كان الوحيد الذي وُُلِدَ في إيووجين. كان يعرف السكان من خلال أسمائهم الشخصية والعائلية وألقابهم. قال في نفسه: «إن سكان هذه المنطقة غريبو الأطوار، إنهم مخبولون بشكل كامل. إذا قُلنا لهُم بطاطس، قالوا: لا، فاصولياء؛ وإذا قيل لهم فاصولياء، يجيبون: لا، بصل، الأمرُ لا يُصَدَّق». ولكن حياته كانت متعلقة به، ولأجل هذا أمسك لسانه. مقابل خمسة دراهم لكل راكب كان يقودهم إلى النهاية، المدينة الحدودية «ف»، لم تكن الرخصة تتيح له أن يتجاوز أكثر. ينزل فيها الركاب، يقلب سيارته ويطفئ محركها وينتظر أن تمتلئ مقاعد سيارته بِراكبين جُدُد راغبين في التوجه إلى منطقة إيووجين.

«ف»، التي لم تكن خلال عشرات السنين سوى قرية حدودية، أصبحت، في غضون سنتين بالكاد، مدينة صغيرة حقيقية فيها مدارس ومقاه إلخ.. كانت «ف» تنفتح على ميليلار، وهي مستعمرة تابعة للتاج، أرض محصورة يقطنها العديد من الاسبانيين لا يعرفون اللغة العربية ولا يريدون تعلمها، والعديد من المغاربة الذين لا يريدون التحدث سوى باللغة الإسبانية. على بعد عشر كيلومترات تقع نابور، مدينة مهاجرين صغيرة، فيها منازل ومنازل ومنازل أخرى، وتوجد فيها مخبأة في الوسط، حوانيت تصوير فوتوغرافي ومصانع أثاث ودكاكين بقالة وبائعي دواجن. معظم سكان نابور والأماكن المجاورة، الذين كانوا قد توجهوا إلى «الغرب» شيّدوا مَنازلَهُم بفضل ما عندهم من فرنكات وبسيتات وكرونوات سويدية أو فلورينات هولندية قوية، مستفيدين من نِسَب الصرف المساعدة. ومن هنا الاتهامات المتعددة التي تأتي من قبل التجار ضد «السكان الأصليين الذي هاجروا»، «إذ أنهم متعجرفون ومُخادِعون ومتهيجون، إلى آخره من الأوصاف. لا أستطيع أن أطيقهم» قال ابن عم لامارات مينار، وهو طفل لطيف، خصوصا أنه يستطيع أن يقول له أين يوجد العمّ. «لا يوجد إلا مكان واحدٌ يستطيع أن يقوم فيه بأشيائه الصغيرة، إنه ميليلار». وَوَاصَل الحديث «هنا، في الصيف، لا يمكن أن نخطو خطوة واحدة في هدوء بسبب كل هؤلاء «الأجانب»، وفي الشتاء، يلعب الأطفالُ من دون مشاكل، وسط الطريق، إذ يَسْري هدوءٌ كاملٌ. ولكنْ هذا هو الأمر، لا شيء عندنا نقوله، هنا، إذ نحن عديمو القيمة، أنت تعرف المسألة جيدا، عزيزي لامارات». إلا أن سُكّان نابور يحبون جيدا هؤلاء «الأجانب» الذين يُحضرون الأموال، le doukou، وينظمون مأدبات العرس ويساعدون الشباب على الرحيل والفتيات الشابات على البقاء في مَنازلهنَّ إلى نهاية حياتهن، يقومون بتشييد المنازل ثم هدمها. إنهم يُشيّدون مَسَاجد ويكسونها بزرابي ويعلقون فيها سبورات سوداء، ويلدون أطفالا ويقومون بتزويجهم ويظلون، إلى نهاية حياتهم، أميين مائة في المائة. ولكن كل الناس تحبهم! وكم هو جميل الحبُّ حين يمكن شراؤه؛ أسألوا موسى حين سيتلقى ذات يوم ضربةً على أنفه. حين كان ابن العم مستقيماً، وحين كان على هذه الصفة حين استوجب الأمر ذلك، كان يقول بأن نابور ولدتْ في كنف «أجانب» ورضعتْ من حليبهم.

* ترجمة محمد الأيوبي ومحمد المزديوي،

تصدر قريبا عن «دار الجمل»