«رياح من الشرق» تهب على هلسنكي

آسيا البعيدة حين تستعرض تجليات حياتها المعاصرة

TT

كل شيء في المعرض يبدو مشدودا الى فضاءات تعبيرية بعيدة وغامضة الابعاد يمتزج من خلالها الصوت بالصورة وبالحركة. هناك لافتة تتقدم المعرض كتب عليها ما ينبه المتلقي الى أنه سيواجه عالما تأمليا هو وليد امتزاج الفكر الفني بطريقة نادرة في توظيف الدين اجتماعيا وثقافيا. غير أن ذلك التحذير لا يكفي لكي يكون المتلقي مستعدا لمواجهة كل ذلك الاختلاف الذي طرحه المعرض. فبالرغم من أنني انتمي الى آسيا، مرت علي لحظات وانا اتجول بين الاعمال الفنية شعرت فيها بأني اشهق تلذذا بالسحر الذي يعيد هواؤه شكل المكان. اسئلة عميقة تتجاوز كل تفكير ممكن بأي نوع من الحداثة. فهي تنتمي الى عالم لم نتعرف عليه بعد: تقنيات تتعرض للترويض وآلة تؤنسن بتأثير رغبة عارمة في استحضار قوة الشرق العاصفة. الفنانون وهم ثمانية لا ينتمون الى الاجيال الفنية القديمة، لذلك فإن طريقتهم في التفكير التقني بالعمل الفني تكاد تكون مشابهة للطريقة التي يفكر بها اوربيو ما بعد الحداثة: أشياء جاهزة وانشاءات عملاقة وتصوير فوتوغرافي ومواد مختلفة وتركيبات محيرة وتسجيلات صوتية وأفلام فيديو. ولكن النتائج كلها تشير الى الشرق: صفاء تأملي حالم، يجعلنا نستحضر المائيات الصينية وطبعات الخشب الياباني وتماثيل بوذا التايلندية المسترسلة في رخائها المطمئن. في معظم الاعمال يكاد يكون شرق مختلف غير أنه ليس الشرق الذي يخون ذاته. عرض أحد الفنانين مجموعة من الاجهزة الالكترونية التي لا تكف عن العمل وهي تصدر أصواتا رتيبة عالية. هو عمل فني انتهاكي لا يرغب في الابهار (وهو مدهش فعلا) بقدر ما يسعى الى الازعاج من خلال التذكير. قيمة ذلك العمل تكمن في قدرته على أن يضعنا في قلب الحاضر: آسيا التي تغذي العالم بالاجهزة الدقيقة تعلن عن شغبها المختلف.

شان زهين (1955 ـ 2000) صيني اختار ان يهاجر الى باريس عام 1986 ليموت هناك. لم يترك مادة قطنية وحريرية في الحياة اليومية الصينية إلا واستعملها. كما لو أنه يريد لعمله أن يكون بيتا صينيا مركبا بطريقة اختزالية. وهو بذلك انما يستجيب لشروط حياة المنفيين الذين يشعرون أن بلادهم تختفي. زهين ابتكر شكلا لا ملامح له، مادته الثياب التي يتراكم بعضها فوق البعض الآخر، وهو على العموم يذكر بالتنين الصيني الذي يتماهى دائما مع حيوية الاستعراض الذي يستقبله. مع كل ثوب يضيفه زهين يحضر خيال مضاف فيحدث حضوره انحرافا في المسافة التي تفصل العمل الفني عن الفنان ومن ثم عن الجمهور. وكان لصوت الطفل الخائف الذي يصدر من أعماق تلك الكتلة الغرائبية التي انتهى اليها زهين تأثير مدهش. إن اعمالا من هذا النوع لا تتغير اثناء الاشتغال فنيا عليها فحسب بل انها تعيش تحولاتها اثناء النظر اليها أيضا. لقد شعرت أمام عمل شان زهين انني أنضم الى واحدة من قوافل طريق الحرير. فذلك العمل يحتفي بمتلقيه بصفته واحدا من صانعي خياله. في مكان آخر من المعرض تنتصب على منضدة عشرات البيوت الصغيرة المتلاصقة عشوائيا المصنوعة بالشموع. اقامها زهين، لا من اجل أن نتخيلها بيوتا صالحة للسكن بل من أجل أن يسلي نفسه بفكرة بيت لم يعد موجودا. بيت هو الآخر صار مفهوما حيث يحيلنا الفنان من خلال رسوم وضعت على الجدار المقابل الى معانيه المتخيلة عن طريق الكتابة. كل تقنيات الفن الجديد كانت حاضرة في المعرض، متخذة طابعا آسيويا، ذا خصوصية لافتة. التايلندية آريا راسديارمريرنسوك (1957) عرضت على أحد الجدران واحدا من أهم واجمل افلام الفيديو. يشعر المشاهد أن الفيلم عبارة عن لقطة ساكنة لنافذة تطل على سهل اخضر واسع. لوحة خلوية جذابة غير أن المرء ما ان يمعن النظر جيدا حتى يكتشف أن الستارة تتحرك بهدوء لا يكاد يحس. اكتشاف عابر من هذا النوع يجعل المرء اسيرا لما لم يتوقع حدوثه. هناك اذاً شيء ما يحدث. شيء يهب المرئيات معاني مختلفة. هناك ما يشق كل هذا السكون الأخاذ، ليأخذنا الى جهات أخرى من النظر لم تكن متوقعة. ريح هادئة وخفيفة تجعلنا نشعر كما لو أننا نمشي في احلامنا الراسخة في طمأننتها وفجأة نشعر أن هناك شيئاً ما يتحرك ليقلق كل ما نحن فيه. في أفلامها الثلاث التي عرضتها تحقق آريا شيئا من منطق قصيدة الـ (هايكو). تسهب في الوصف من أجل كلمة أخيرة، كانت موجودة لكنها تبدو كما لو أنها تحضر من جهة مجهولة. يبدو الاندونسي هيري دونو (1960) كما لو أنه قد خص السياسة بكل هذياناته التي تزخر بسخرية السورياليين السوداء. سخرية جارحة تقودنا أقنعة المهرجين من خلالها إلى المشاهد الدموية الساخنة التي تؤلف الجزء الأعظم من حضورنا الراهن. في نقده الصريح للسياسيين ينتمي دونو الى تيار الواقعية السحرية. وهو ما سعى الى استدراج معانيه الخفية الصيني هو يونغ (1959) في سلسلة صوره الفوتوغرافية (الحياة في شنغهاي). حيث تحضر تلك الحياة من جهة كونها نوعا من المتخيل الثقافي. كل صورة هي في حقيقتها وعد بحياة لم يعشها كائن في حد ذاته. نوع من الخيانة المضللة التي تهدف الى تصفية حسابات جمالية مع الواقع. صور يونغ هي شهادة لعالم متخيل، تكمن معجزته في قدرته على أن يكون موجودا، لكن من خلال الفن. وهي فكرة دأب فنانو المعرض على استجلاء تجلياتها من خلال مختلف التقنيات. لقد نجح منظمو المعرض في التعريف بروح آسيا الجديدة، تلك الروح التي تتزين بأناقة عصرية من غير أن تفارق جوهرها.