الرؤية النمطية للقارة السوداء تتغير بسرعة بفضل الصين

صاحب كتاب «إنجيل أفريقيا»:

TT

التقينا الكاتب جريل، أثناء زيارة قصيرة له إلى الخرطوم وسألناه عن ميزة مؤلفه فقال، إنه كتبه "من دون تحيز، إذ ليس لألمانيا تاريخ استعماري طويل في القارة الأفريقية. لذا فالكتاب إضافة للمكتبة الألمانية، ويترجم الى الإيطالية وليس من مشروع لترجمته للفرنسية والإنجليزية، لأن الإنجليز والفرنسيين لا يتقبلون أن يعرّفهم ألماني بأوضاع مستعمراتهم السابقة التي يفترضون ان معرفتهم بها كاملة".

وعن أسباب اهتمامه بالقارة الأفريقية يقول جريل "عشقت أفريقيا منذ صغري، وكان جدي يحكي لي عن المستعمرات القديمة القليلة لألمانيا هناك، مثل تنزانيا بالشرق وناميبيا بالغرب. وكانت له مكتبة كبيرة تحوي قصص المبشرين والمستعمرين والمستكشفين الأوائل للقارة، ويبدي جدي "الرومانسي" أسفه وحزنه عند كل حديث ويتساءل كيف يتخلى الألمان عن مستعمراتهم السابقة؟ فاستهوتني حكايا جدي والكتب التى قرأتها عنده، فكانت لبلدان مثل زنجبار وتمبكتو أثرها السحري عليَّ بأسمائها الموسيقية. وكانت أول رحلة لي لتنزانيا وأنا طالب في الخامسة عشرة. وعندما أصبحت صحافيا رأيت أن أكون مراسلا من أفريقيا، حيث لا يوجد بها مراسل واحد ولا تأتينا منها تقارير منتظمة. فلا أحد يهتم بما يدور بهذه القارة الميؤوس منها والمظلمة، في رأي الأوروبيين.

بدأت العمل فى جوهانسبيرج، حيث أنشأت مكتبا للصحيفة عام 1990، وأردت أن أكتب عن جوانب غير تلك الكارثية التي يركز عليها الإعلام، كالمجاعات والحروب والفيضانات والأيدز، مما يساعد على بقاء الصورة مظلمة. وكانت فترة التحول من نظام الفصل العنصري الى النظام الديمقراطي، وقمت بتغطية كل منطقة جنوب الصحراء وهذا يعد مستحيلا بالنسبة لفرد واحد. ولم أتوقع أن تمتد فترة عملي الى 13 عاما، سجلت في نهايتها ملاحظاتي في الكتاب عام 2003 وصار من اكثر الكتب مبيعا، وشكل مفاجأة لدار النشر، إذ لم يتصور أحد أن يصبح كتاب عن افريقيا رائجاً إلى هذا الحد.

احببت ان يعرف الغربيون بأن القارة الأفريقية ضخمة، فيها إثنيات ولغات تتعدى الألفي لغة وأديان وعقائد مختلفة ولا يصح رؤيتها ككتلة واحدة. كما أن الرؤية النمطية للقارة المستمرة حتى الآن، بأن شعوبها متخلفة رافضة للتطور وتعيش حياة أشبه بالعصر الحجري. هذه الرؤية النمطية تضر كثيرا بالقارة وتعد تهميشا لها، ولكنها تتغير بسرعة الآن، بسبب ظهور الصين. الصينيون الآن يملؤون الفراغ الذى تركه الأوروبيون بالقارة، وهذا تطور مهم جدا فى نظري.

قمت بوصف ما يدور هناك وأسباب الأزمات التي تنشأ في عدد من الدول. وكانت فترة صعبة فى "الكونغو-الصومال-رواندا-بورندي"، وأرى أن اسباب التخلف هناك تعود لعوامل داخلية وخارجية. فهناك استغلال تاريخي لموارد القارة وتجارة العبيد، ثم الفترة الاستعمارية، والاستعمار الجديد عن طريق البنك الدولي وظلم النظام الاقتصادي العالمي ومعركة التحديث. فقد تبنت بعض الدول أثناء الحرب الباردة النموذجين الشرقي بقيادة موسكو وبكين، والغربي بقيادة واشنطن وباريس ولندن، وكلاهما فشل كما فى أثيوبيا والكونغو!

أما الأسباب الداخلية، فأهمها النخب السياسية الحاكمة التي تقود الفساد وهي مسؤولة عن سوء الإدارة. ففي الماضي كان هناك "أسياد بيض" والآن "أسياد سود"، وحكمهم مشابه للاستعمار وايديولوجيته. وأتفق مع بعض المثقفين الأفارقة أن القارة تحتاج لثورة تحرر ثانية ضد النخب الحاكمة، وأرى أن على الغرب أن يساعد بتقديم الاستشارة فقط وتغيير النظام الاقتصادي العالمي".

وفي سؤالنا له عن أن البعض يرجع تخلف القارة الى الاستعمار؟ يجيب جريل قائلا: "هناك استراتيجيات مختلفة للاستعمار علينا أن نفرّق بينها، فالاستعمار البلجيكي مثلا، مارس أقصى درجات الاستغلال وترك الكونغو حطاما! هذا يختلف عن الاستعمار البرتغالي والفرنسي والبريطاني الذي ساعد على خلق طبقة مثقفة من المواطنين بواسطة البعثات التعليمية. وعدد كبير من قادة التحرير الأفارقة تلقوا تعليمهم عبر تلك المدارس والبعثات، ككاوندا ولوممبا وجوكوكنياتا وفليكس بواتنيه.

وماذا بشأن المطالبة بالتعويضات التي تتصاعد من أفارقة، عن تجارة العبيد والفترة الاستعمارية لبلدانهم أسوة باليهود الذين قامت دول غربية وأولهم المانيا بتعويضهم عن الفترة النازية؟

"أعتقد ان هناك اختلافا كبيرا. فاليهود الذين عانوا النازية ما زالوا على قيد الحياة، بينما ضحايا تجارة العبيد والاستعمار كلهم ماتوا. هناك مشاكل تصاحب التعويضات، فإذا ما أخذنا ناميبيا التي كانت مستعمرة سابقة لألمانيا، فقد طالبت مجموعة إثنية هناك تسمى بالهوارو بتعويضات عن مذبحة ارتكبها الألمان ضد ثورة قاموا بها فى الزمن الماضي، فما كان من الحكومة الناميبية إلا أن قالت لهم، انتظروا هناك مجموعات أخرى تضررت من الاستعمار وتطالب بتعويضات ايضا. فالمشكلة ستكون من تأذى حقيقة ومن يحتاج لتعويض، ومن سيستلم المال ومن سيوزعه ومن جدير بأخذه، وهذه مشكلة قد تخلق حروبا أهلية في حد ذاتها، ولا ننسي أن الدول الغربية قدمت مساعدات جمة لتلك الدول، قد تكون بمثابة "تعويضات".

أعتقد أن تاريخ البشرية مليء بالمظالم، لقد قام السويديون قبل 300 عام باحتلال ألمانيا وحرقوا القرى وقتلوا من قتلوا ولم يطالبهم أحد بتعويض، أعتقد أن أهم ما يجب أن نستفيده من التاريخ ليس التعويضات، بل أن نتعلم دروسه، وألا نكرر الأخطاء التي ارتكبها أجدادنا.

يذكر أن جريل أثناء عمله التقى بعدد من السياسيين الأفارقة وأهم لقاء له كما يقول، كان مع نلسون مانديلا، فهو بالنسبة له أشبه بتحقيق حلم جميل. ويذكر أنه جلس أمام مانديلا وأخذ ينظر إليه، بل ونسي سؤاله الأول الذي أعده، فما كان من مانديلا إلا أن بدأ بتوجيه الأسئلة إليه!