صحوة الليبرالية في أميركا

بعد ربع قرن من سيطرة الفكر المحافظ

TT

مؤخراً، نشرت جريدة «واشنطن بوست» العنوان الآتي في صفحتها الأولى: «ادواردز يركز على الفكر الليبرالي بدلا من نفسه»، اشارة الى السيناتور جون ادواردز، الذي رشح نفسه لرئاسة الجمهورية باسم الحزب الديمقراطي. وهذا تطور تاريخي كبير في أميركا، فمنذ سنوات كثيرة، لم تبرز هذه الجريدة الليبرالية، خبرا رئيسيا يسعد الليبراليين مثل هذا الخبر. فعندما ترشح ادواردز لنفس المنصب قبل أربع سنوات (وسقط) ركز على شخصيته المرحة ووجهه التلفزيوني، لكنه فضل المبدأ هذه المرة، شجعه على ذلك ان الليبرالية تشهد «صحوة» في أميركا بعد ربع قرن تقريبا من سيطرة الفكر المحافظ.

الليبرالية هي افكار، وفلسفات، وتقاليد سياسية تركز على حرية الانسان ليفكر، ويتكلم، ويعمل. اصل الكلمة هو "ليبر" اللاتينية ومعناها "حر، غير عبد".

كانت الليبرالية مرحلة طبيعية من مراحل التقدم في اوروبا الذي بدأ قبل اكثر من خمسمائة سنة (بعد نهاية عصر الاقطاع، وعصر الملوك المقدسين). وفي أميركا ظهر اكثر من فكر ليبرالي واحد. ظهر "الليبراليون الجدد" الداعون الى الآتي: حق الإنسان في أن يعيش بسلام ورخاء، ومنع التفرقة بسبب الدين، والعرق، واللون، ووضع ضرائب تصاعدية (تزيد كلما زاد دخل الشخص او الشركة).

وظهر "الليبراليون التقليديون" (الكلاسيكيون)، وهم اقل تطرفا، ودعوا الى تحويل المؤسسات الحكومية الى القطاع الخاص، وتخفيض سيطرة الحكومة على الشركات، ومساعدة المحتاجين مع دفعهم لمساعدة انفسهم. ولكن اين يقف المحافظون من هؤلاء؟ وما الذي يريدونه:

أولا، اضافة حق الثراء الى حقوق الانسان الطبيعية.

ثانيا، مساعدة الحكومة "للمحتاجين الحقيقيين"، ووقف مساعدة غيرهم.

ثالثا، تخفيض الضرائب على الاغنياء (لتشجيعهم على الاستثمار لزيادة الانتاج الاقتصادي، الذي سيستفيد منه الفقراء).

وضع عصر التنوير اسس الليبرالية: انتخابات حرة، حكومة نزيهة، قضاء مستقل، نظام وقانون، سوق حرة. ومثلما تطورت الليبرالية (فكرة الحرية)، تطورت الديموقراطية (ممارسة الحرية)، وساعدت على ذلك ثلاث ثورات: في فرنسا، وبريطانيا، واميركا. وتفوق الاميركيون على الفرنسيين والبريطانيين لأنهم كتبوا بعض اعظم وثائق الحرية في التاريخ: وثيقة حقوق الانسان، واعلان الاستقلال، والدستور. وكتب توماس جفرسون، صاحب اعلان الاستقلال (ثم صار ثالث رئيس) اول جملة فيه تقول: "انها حقيقة بديهية ان كل الناس خلقوا متساوين، وان خالقهم عطف عليهم بحقوق اساسية". وهكذا، جمع جفرسون في هذه الجملة ركني الحرية الاساسيين: الاول، انها فضل رباني والثاني، انها حق طبيعي.

ويعتبر الليبراليون الاميركيون وصف "الديمقراطية الليبرالية" تحصيل حاصل، لأن الديمقراطية لابد ان تكون ليبرالية، ولا يفهمون اوصافا مثل: "ديمقراطية شعبية" و"ديمقراطية اشتراكية" و"ديمقراطية مسيحية" (او اسلامية). يقولون "الانسان اما ليبرالي (حر) او غير ليبرالي (غير حر)". خلال نفس الفترة التي تطور وتأسس فيها الفكر الليبرالي، تطور وتأسس الفكر الرأسمالي. ليس الثاني نقيضا للأول، لكنه جزء منه، لأن الحرية الاقتصادية جزء من الحرية الشاملة. ونقطة الخلاف هي العلاقة بين الغني والفقير (وبين القوي والضعيف). ولهذا صار العدل هو الخطوة الثانية بعد الحرية، ولهذا تأتي الحرية الاقتصادية في المرتبة الثانية. وفي هذا قال جفرسون، ابو الليبرالية الاميركية: "صديقي الكسندر يريدنا امة يحكمها التجار والاقطاعيون".

هذه اشارة الى نقاش فلسفي، خلال مرحلة كتابة الدستور الاميركي، مع زميله الكسندر هاملتون. اسس جفرسون الحزب الجمهوري (كان حزبا ليبراليا في ذلك الوقت)، واسس هاملتون الحزب الفيدرالي (تحول فيما بعد الى الحزب الديمقراطي، وكان محافظا في ذلك الوقت، مثل الحزب الجمهوري اليوم). مال هاملتون نحو الليبرالية البريطانية المحافظة، ومال جفرسون نحو الليبرالية الفرنسية التقدمية (كان سفيرا هناك، وتأثر بالثورة الفرنسية قبل ان يصبح رئيسا للجمهورية).

رجحت كفة جفرسون، وفاز برئاسة الجمهورية مرتين. لم يقدر هاملتون على ذلك (لكنه كان رجل اعمال ناجح). انتصر جفرسون عليه ليس فقط لأسباب سياسية، ولكن، ايضا، لانه كان بطل فضيحة خيانة زوجية مع ماريا رينولند (زوجة بطل عصابات). كانت تلك اول فضيحة جنسية في تاريخ اميركا. واستغلها جفرسون لتأكيد ان الليبرالية الحقيقية هي الليبرالية الاخلاقية. خلال نفس تلك الفترة، كتب آدم سميث كتاب "ثروة الامم" (1776 سنة استقلال اميركا). ملخص الكتاب هو ان الحرية الاقتصادية لا تقل عن الحرية السياسية، وان طبيعة الانسان ليكون غنيا (وقويا) لا تقل عن طبيعته ليكون حرا. وسأل: "هل تعتقدون ان الذين يبيعون لنا اللحم، والخبز، والبيرة يفعلون ذلك لأنهم يحبوننا؟ اذا قلتم نعم، انتم لا تعرفون ما تقولون. ايها الاغبياء، انهم يفعلون ذلك ليخدموا مصالحهم الخاصة". استفاد هاملتون من هذه الآراء خلال مناقشاته مع جفرسون. وكرر هذه الجملة مرات كثيرة. لكن، رغم المنافسة بين الاثنين، برهنت المائتا سنة التالية على ان الاثنين انتصرا، وساهما، كل بطريقته، في تأسيس اميركا كما نراها اليوم:

في جانب، انتصر الفكر الليبرالي (ابوه جفرسون)، طور الحرية الاميركية، وعتق الرقيق، وعدل الدستور مرات كثيرة لزيادة الحرية والعدل، وشجع نقابات العمال، وحرر المرأة، وساوى السود بالبيض، وانصف المهاجرين، واعترف (مؤخرا) بحقوق المثليين الجنسيين. وفي الجانب الثاني، انتصر الفكر الراسمالي المحافظ (ابوه هاملتون)، وشجع "الرأسماليين المؤسسين": آل روكفلر الذين اخرجوا البترول، وآل ميلون الذين اسسوا البنوك، وآل كارنغي الذين اسسوا مصانع الصلب، وآل فاندربلت الذين بنوا خطوط السكة الحديدية، وآل بروكنغز الذين أسسوا المتاجر والمراكز التجارية، وآل هيرست الذين اسسوا امبراطورية صحافية، وآل مورغان الذين اسسوا "جنرال الكتريك"، وآل فورد الذين أسسوا "فورد".

لكن، مع بداية القرن العشرين، صار واضحا ان طمع الاغنياء والشركات يكاد يتغلب على نزاهة الليبرالية. وهزت اميركا فضائح "البارونات"، وظهر "آل كابون"، ثم، يوم 28-10-1929 (الثلاثاء الاسود) انهار كل النظام الاقتصادي.

ظهر بعد الانهيار الاقتصادي شخصان وضعا اسس "الليبرالية الحديثة":

الاول، جون كينز، الاقتصادي البريطاني صاحب كتاب "نظرية العمل والربح والمال" (1936) وملخصه ان الحكومة يجب ان تتدخل لوضع حد لطمع الاغنياء. الثاني، فرانكلين روزفلت، مرشح الحزب الديمقراطي الذي صار رئيسا سنة 1933، واعلن "نيوديل" (المذهب الجديد) وزاد الضرائب على الاغنياء والشركات، وأسس ادارات للضمان الاجتماعي، والضمان الصحي، والاسهم (لمراقبة المستثمرين)، والتجارة الفيدرالية (لمراقبة الشركات)، وتأمين البنوك (لمنع افلاسها)، وقانون واغر (لحماية نقابات العمال).

ثم برهن روزفلت على ان الليبرالية تقدر على مواجهة النازية والفاشية، ليس فكريا فقط، ولكن عمليا، وذلك عندما ادخل اميركا الحرب العالمية الثانية وانتصرت على المانيا، وايطاليا، واليابان. وقال في ذلك الوقت، اسايا برلين، منظر ليبرالي: "لا حرية لأعداء الحرية. ستأكل حرية الذئاب حرية الخراف".

هل كان الرأسماليون سيقاومون النازية لو ترك لهم القرار؟ هذا سؤال نظري، لكن لم يخف بعض الرأسماليين الاميركيين (مثل هنري فورد) اعجابهم بهتلر، وتحدثوا عن "وصول القطارات في مواعيدها"، وكأن هذا يعوض عن غياب الحرية.

ظهرت "الرأسمالية الجديدة" بعد "الليبرالية الجديدة". وظهرت، مثلها، على كتفي رجلين: اقتصادي، وسياسي. الاقتصادي هو ملتون فريدمان (توفي السنة الماضية)، مؤلف كتاب "الرأسمالية والحرية". وملخصه ان الحكومة يجب ان تنسحب من النشاط الاقتصادي، وتتعاون مع الشركات والاغنياء لحل المشاكل الاجتماعية. أما السياسي فهو رونالد ريغان، مرشح الحزب الجمهوري الذي صار رئيسا سنة 1980. فاز لانه اشتكى من كثرة الضرائب على الشركات والاغنياء، ومن كثرة المساعدات الحكومية للفقراء والعاطلين، وبدأ "الثورة الريغانية".

وجاء بعد ريغان بوش الاب، وجاء بعد بوش الاب بوش الابن، الذي تحمس "للثورة الريغانية" اكثر من والده. ولم تهزم "الثورة الريغانية" الليبراليين في السياسة والاقتصاد فقط، ولكن، ايضا، شنت حملة دعائية ضد الفكر الليبرالي، وكأنها تريد القضاء عليه. هنا عناوين بعض الكتب التي اصدرها، خلال العشرين سنة الماضية، الجمهوريون والمحافظون ضد الفكر الليبرالي: "انقذيني يا امي: هناك ليبراليون تحت السرير" و"الناكرون لله: كنيسة الليبرالية" و "محافظون يردون على اكاذيب الليبراليين" و"الليبرالية حالة اضطراب عقلي" و"كيف تتحدث مع ليبرالي، اذا كان لا بد" و"الحقيقة المفزعة عن الليبراليين" و"سود ليبراليون وسود عنصريون" و"اشتر بندقية واقتل ليبراليا" و"الاعلام الليبرالي: انحياز الاخبار".

ثم جاء غزو العراق، والذي كان خلفه "النيوكون" (المحافظون الجدد، وهم تحالف جمهوريين محافظين ومسيحيين متطرفين ويهود صهاينة). تحدى هؤلاء اي ليبرالي ان يعارض الحرب، واتهموا كل من فعل ذلك بخيانة الوطن، والسير في ركب منظمة "القاعدة"، وخدمة اسامة بن لادن.

لكن، في الحقيقة، لم يعارض الحرب في بدايتها كثير من الليبراليين (ايدها ثمانون في المائة من الشعب الاميركي، بكل طوائفه). ولم يحدث التغيير الا بعد سنتين من الغزو عندما برهنت المقاومة العراقية على قدرتها على مواجهة الاحتلال الاميركي. على اي حال، ايقظت حرب العراق الليبراليين الاميركيين.