فرقة من الصم والبكم أمام الجمهور العريض تجربة هي الأولى عربياَ

«عالم بلا صوت» هدية المسرح إلى لبنان

TT

بمناسبة يوم المسرح العالمي، الذي احتفل به العالم في السابع والعشرين من مارس (آذار) الماضي، وقف المخرج المسرحي اللبناني عصام بوخالد على خشبة «مسرح دوار الشمس» في بيروت مخاطباً الحضور، مستعيناً باللسان ولغة الإشارة معاً، ليقول لهم: ما نطلبه منكم هو ان تشاهدوا عرضاً مسرحياً، متناسين تماماً انكم امام أناس لا يسمعون أو لا يتكلمون، الذين سترونهم هم مجموعة من الممثلين الموهوبين، وعلى هذا الأساس على الجميع ان يتعاملوا معهم، وليس على اي أساس آخر».

المسرحية التي استطاعت ان تطلق ضحكات الجمهور بسبب طرافتها، يقول بوخالد انها رسالة مختلفة من نوعها، وستعرض في بيروت كأي مسرحية أخرى، للتأكيد على الا حدود للتعبير، الذي هو حق للجميع بصرف النظر عن الدين او اللون او السوية البدنية. والمهم هو تأمين التواصل بين الناس أجمعين. نحن إذاً في مسرح وأمام عمل يطالب بمعاملته على وجه المساواة النقدية مع الأعمال المسرحية الأخرى، بدون أدنى مهادنة او مسايرة.

تطلّ على المسرح امرأة حامل يداهمها الطلق، بينما هي تنظف منزلها. كل محاولات الزوج لإدخالها في السيارة، تبوء بالفشل، وتصل إلى المستشفى وقد حملته على ظهرها بدل ان يحملها. مشاهد سريعة وحيوية، والايماء مع الأصوات المعبرة التي تخرج من أفواه الممثلين كافية لإيصال الرسالة، عدا المشهدية البسيطة والبليغة التي اعتمدت ادوات غاية في التقشف. لوح من الخشب وضع كعازل عليه شرشف ابيض انتفخ بشكل كاريكاتوري بسبب بطن المرأة، ومن الجانب العلوي نرى رأس الحامل، ومن الجهة السفلى نرى دمية تظهر وتختفي بحسب ضغط الطبيب على بطن المرأة. لحظات ويكون الجنين قد ابصر الحياة.

لا مفاجأة كبيرة في القصة المطروحة. فالوليد اصم كوالديه اللذين يرفضانه ويتخلصان منه برميه في مكب للقمامة، ويأتي أحدهم ليأخذه ويجعل منه طفلا متسولا على الطرقات، إلى ان يأتي من ينتشله من مستنقعه ويذهب به إلى مدرسة تعنى به وبحالته الخاصة، وتعلمه لغة الصم والبكم، ويتخرج ويقع في حب صبية مثله.

بهذا المعنى فإن الممثلين الذي شاركوا في وضع القصة يحكون معاناتهم الخاصة، في الوقت الذي يريدون فيه من المتفرج ان ينسى خصوصيتهم، وهنا كانت مفارقة المسرحية. لكن المخرج عصام بوخالد يرد على هذا النقد بالقول: انها التجربة الأولى لهم، وهم بحاجة لأن يعبروا عن معاناتهم، وهم افضل من يستطيع ان يروي المحن، التي يتعرض لها الأصم الأبكم في مجتمعاتنا.

لكن المفاجأة الفعلية للعرض تجلت في أداء الممثلين، وفي قدرة المخرج على صنع مشاهد غنية بأدوات محدودة، وبناء مواقف فكاهية، رغم الموضوع الحزين الذي يعالجه.

ومع ان القصة بقيت تدور في فلك المولود الأصم الأبكم، وتطورات حياته، إلا ان تداخل حكايات الحب والبغض والخيانة والطموح انقذت العمل، وجاءت بعض المشاهد شديدة البلاغة، بحيث كان المتفرج ينسى تماماً انه أمام مجموعة من الصم والبكم، مثل مشهد العرس، حيث غنت المجموعة على طريقتها، ورقصت وهللت وزغردت وتناغمت مع بعضها، بطريقة بدت استثنائية في حيويتها. كما مشهد سيارة الأجرة التي تشكلت من خمسة كراسي تسلقها الممثلون الأربعة عشر دفعة واحدة، في نقد مباشر لحال سيارات الأجرة المكتظة في لبنان، من دون مراعاة لأمان أو سلامة.

وإمعاناً في الاعتماد على موهبة الممثلين والأصوات، حتى المبهم منها، التي بمقدورهم إصدارها، فإن اي نوع من الموسيقى لم يعتمده العمل، وبقي الصمت جزءاً تعبيرياً مهماً في عملية التواصل مع الجمهور.

ورغم ان المخرج المسرحي عصام بوخالد نادراً ما يدافع عن أعماله، ويفضل ان يلتزم الصمت امام التعليقات عليها، إلا انه هذه المرة، يقول ان أحداً لا يستطيع تخيل صعوبة تحريك ممثلين لا يسمعون الأصوات، في تناغم مع بعضهم البعض على المسرح، إذ كيف لممثل ان يعرف متى عليه ان يبدأ الكلام وهو لا يسمع رفيقه حين ينتهي من إغلاق باب السيارة مثلاً، كما تكرر ذلك في مشاهد عدة من المسرحية.

«عالم بلا صوت» افتتحت عروضها يوم الاثنين الماضي، وهي مستمرة كل مساء اثنين على «مسرح دوار الشمس»، وحسب مخرجها ما هي إلا بداية، لـ«فرقة البيان»، التي قد تطلق على نفسها اسماً اكثر فنية في المرحلة المقبلة.

والمخرج عصام بوخالد الحائز عدة جوائز، يدرّس المسرح للصم والبكم منذ ست سنوات، وكان قد عمل مع تلامذته على عروض صغيرة عدة. وهي المرة الأولى التي يطلق فيها فرقته أمام الجمهور العريض، متمنياً للتجربة ان تنمو: «فهذه إحدى بواباتنا المهمة في لبنان للاعتراف بالآخر... المختلف».