إما أن نهلك جميعاً أو ننجو جميعاً

أحداث هزّت العالم منذ غزو صدام للكويت حتى 11 سبتمبر في كتاب لرئيس وزراء فرنسا

TT

مؤلف هذا الكتاب هو وزير خارجية فرنسا السابق ورئيس وزرائها الحالي: دومينيك دوفيلبان. وكان قد نشر سابقا عدة كتب نذكر من بينها: «المائة يوم لنابليون»، و«سارقو النار» ويقصد بهم الشعراء. وهو كتاب عن الشعر الفرنسي حيث أثبت الرجل أنه ذوّاقة للشعر من الطراز الأول. ويبدو أنه يقرض الشعر أيضا في أوقات فراغه. ولكن شعره ضعيف لا يعتد به. والرجل هو من أقرب المقربين لجاك شيراك. وكتابه الجديد «سمك القرش والنورس البحري» مكرس لقضايا عصرنا. وهو يستعرض فيه مسيرة البشرية الأوروبية والعالمية منذ عصر النهضة وحتى يومنا هذا، كما يتحدث المؤلف عن الأحداث السياسية التي هزّت العالم منذ غزو صدام للكويت عام 1990 وحتى 11 سبتمبر عام 2001 وما تلا ذلك من غزو أفغانستان والعراق.

يرى دومينيك دوفيلبان في كتابه الجديد أننا نقف على مفترق طرق: فإما أن نهلك جميعا أو ننجو جميعا لاننا نركب في نفس الباخرة، باخرة الكوكب الارضي. ولهذا السبب فهو يدعو إلى عصر الإخاء الكوني بين الشرق والغرب، أو بين الشمال والجنوب، أو بين المتضادات عموما. فلن ينجو احد اذا ما غرق الاخرون.

وبالتالي فقد آن الأوان لكي تتصالح القوة مع الضعف، والسماء مع الأرض، والحوت المخيف الضخم الغاطس في الاعماق مع طائر النورس الجميل الذي يحوّم باستمرار فوق البحر. من هنا عنوان الكتاب. لقد آن الأوان لكي تتصالح البشرية مع نفسها بعد أن حاربت بعضها البعض على مدار التاريخ.

ويرى المؤلف أن أهم شيء نفعله هو أن نتصالح أولا مع أنفسنا، وبعدئذ نتصالح مع الآخر المختلف عنا دينا، وقومية، ولغة. وهذا يعني أنه يحق لكل واحد منا أن يعتزّ بهويته وتراثه ولكن بشرط ألا يتخذ ذلك كذريعة لنفي تراث الآخر وهويته أو الاعتداء عليهما. فالآخر له الحق أيضا في هويته التراثية والدينية والقومية.

ولكن الصراعات الدامية الجارية حاليا تهددها أيضا. وهنا يصل المؤلف إلى مشكلة الشرق الأوسط، والعراق، والإرهاب، والمحافظين الجدد، والأصوليات المتصارعة.

ثم يقول رئيس الوزراء الفرنسي بما معناه: لقد تغيرت الأولويات بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية بعد 11 سبتمبر. وكل ذلك حصل تحت التأثير المتزايد للمحافظين الجدد. وهؤلاء لا يؤمنون إلا بالقوة، ولم يعتقدوا بأن الأمم المتحدة قادرة على حل مشكلة صدام حسين. ولذلك بلوروا نظرية الحرب الوقائية وأقنعوا جورج دبليو بوش بها. ولكن هل كان سيقتنع بها لولا ضربة 11 سبتمبر؟ وبالتالي فبن لادن ساعد المحافظين الجدد على الوصول إلى قمة السلطة في واشنطن ووضع مخططاتهم موضع التنفيذ.

وهذا أكبر دليل على أن التطرف يدعم التطرف ويشدّ من أزره. يضاف إلى ذلك أن فشل مفاوضات السلام الإسرائيلية-الفلسطينية ساعد أيضا المحافظين الجدد على تغيير أولويات السياسة الخارجية الأمريكية. فقد قالوا لبوش ما معناه: لا تضيع وقتك مع ياسر عرفات كما فعل كلينتون في كامب دافيد. فقد وضع كل هيبته ورصيده كرئيس للولايات المتحدة في الميزان دون أن يصل إلى أي نتيجة. وهكذا فقد مصداقيته وأساء إلى الرئاسة الأمريكية التي تعتبر أكبر وأقوى منصب في العالم.

ثم يردف دوفيلبان قائلا: لن تعرف إسرائيل السلام او الامان قبل أن ينال الفلسطينيون حقوقهم المهضومة والمشروعة. ولن تعرفه قبل أن توقع اتفاقا مع سوريا ولبنان وإيران والسعودية وعشرين دولة عربية أخرى لا تزال تناصبها العداء. وبالتالي فمعاهدة السلام مع الفلسطينيين وحدهم لا تكفي. السلام ينبغي أن يكون شاملا أو لا يكون. ويمكن القول بأنه إذا ما وافقت سوريا على توقيع اتفاق مع إسرائيل فسوف تقلّدها دول عديدة أخرى بحسب رأي المؤلف.

والفلسطينيون لن يعرفوا السلام والأمان قبل أن تعترف بهم إسرائيل ومجمل الدول العربية ككيان خصوصي مستقل. وينبغي أيضا أن تحصل المصالحة التاريخية بين الأردن وفلسطين. فذكرى سبتمبر الأسود عام 1970 لم تندمل جراحها بعد. والثقة الحقيقية بين الطرفين غير موجودة.

ولكي نعطي للشرق الأوسط المكانة التي يستحقها على المسرح الدولي، لكي نحبّذ نموه وتطوره الاقتصادي والسياسي ينبغي علينا أن نحارب أولا ظاهرة الإرهاب. فلا شيء يبرر هذه الايديولوجيا المتطرفة، إيديولوجيا الموت والانتحار.

ويضيف المؤلف: محاربتنا للإرهاب لا تعني صراع الحضارات أو أن حضارتنا تحارب الحضارة العربية الإسلامية. وإنما يعني أن الحضارة الغربية والعربية الاسلامية في جهة، والبربرية والهمجية في جهة اخرى. وأول رد مباشر على الإرهاب ينبغي أن يستخدم أسلحة ردع فعالة من عسكرية، وبوليسية، ومخابراتية، هذا الشيء إجباري لا مندوحة عنه. ولكن لا ينبغي أن نكتفي بذلك. وإنما ينبغي أن نحارب الأسباب العميقة للإرهاب، أي الأسباب التي تغذيه وتنمّيه: كالجهل، والفقر، وانسداد آفاق التقدم والتطور في العالم الإسلامي. فهذه الأسباب هي التي تحبّذ انتشار الإيديولوجيات المتطرفة.

وإرهاب "القاعدة"، أي حركة أسامة بن لادن، نشأ وازدهر على أرضية الايديولوجيا المتزمتة جدا. وهي إيديولوجيا قائمة على التفسير الحرفي الجامد للنصوص، وترفض كل أشكال التنوير والحداثة. بل وتحاول استئصالها من المجتمعات الإسلامية لأنها رجس من عمل الشيطان بحسب رأيها.. وبالتالي فالحوار مع القاعدة أو ممثليها مستحيل لأنه لا توجد أية أرضية للحوار. والواقع أن القاعدة أصبحت تستهدف المجتمعات الإسلامية بالدرجة الأولى وتحاول تهييج شعوبها ضد الأنظمة الحاكمة من أجل قلبها والحلول محلها.

ولكي نواجه إرهاب "القاعدة" ينبغي علينا نحن الغربيين أن نجد حلولا للصراعات الإقليمية المحلية وبخاصة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فحل هذا الصراع يهدئ النفوس في منطقة الشرق الأوسط ويجعل الشعوب هناك أقل حقدا على الغرب. وبالتالي فتجفيف ينابيع الارهاب يتطلب منا بالدرجة الأولى مكافحة الأسباب التي تدفع إليه دفعا. ولكن للاسف فان المحافظين الجدد لا يفهمون الأمور بهذه الطريقة.

ثم ينبغي علينا بعدئذ تشجيع الإصلاحات الداخلية ومساعدة دول المنطقة على السير نحو الديمقراطية وتبنّي القيم الكونية للحضارة كحقوق الإنسان والمواطن، والاعتراف بمشروعية التعددية الروحية أو الدينية، وكذلك الاعتراف بالتعددية السياسية والصحفية والفكرية والتناوب على الحكم بين السلطة والمعارضة. ولكن هذه أشياء لا يمكن أن تحصل بسرعة وإنما يلزمها وقت طويل. وما حققه الغرب خلال ثلاثة قرون لا يمكن ان يحققه العرب خلال ثلاثة عقود.

ثم يتحدث رئيس وزراء فرنسا عن العراق ويقول بما معناه: ينبغي أن نفهم تركيبة هذا البلد لكي نعرف ماذا يجري فيه بالضبط. ينبغي العلم بأن ثلثي السكان تقريبا هم من الطائفة الشيعية. وهذا التشيّع عائد في قسم منه إلى رد فعل ضد الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر وحتى العشرين. فالكثيرون كانوا سنّة ثم أصبحوا شيعة وبخاصة بين القبائل البدوية في الجنوب. ولكن العراق يبقى المهد التاريخي للتشيع على أي حال.

وقد كان الشيعة مضطهدين على مدار التاريخ ومستبعدين من دوائر السلطة والنفوذ السياسي والاقتصادي. فمنذ سيطرة الإمبراطورية العثمانية، أي قبل خمسة قرون وحتى سيطرة الانجليز والانتداب، كانت السلطة في يد السنّة الذين يرفضون أن يشاركهم أحد فيها. ثم بعد الاستقلال وحتى نهاية عهد صدام حسين فان السلطة ظلت أيضا محتكرة من قبل الطائفة السنية إلى حد كبير. بل وحتى قبل الإمبراطورية العثمانية فان الشيعة كانوا منبوذين ومحرومين من السلطة لمدة خمسمائة سنة أخرى: أي منذ عهد الأمويين والعباسيين والسلاجقة الأتراك وحتى بدايات السلطنة العثمانية. وهذا يعني انهم كانوا خارج التاريخ لألف سنة متواصلة! من هنا مرارة ورعب ما يحصل الآن في العراق، من هنا ضخامة الانفجار الذي لا يكاد يصدق والذي تجاوز في عنفه كل الحدود.

فالسنة ينتفضون الآن بكل قوة لأنهم يخشون أن تفلت السلطة من أيديهم لأول مرة في تاريخ العراق. يضاف الى ذلك أنهم كانوا دائما يخشون من أن يحاول الجار الإيراني القوي الاستعانة بالطائفة الشيعية لمدّ نفوذه والهيمنة على البلاد. وبالتالي فسوف تحصل تطورات كبيرة في العراق، وينبغي أن نأخذ هذه العوامل السياسية وكذلك عوامل الظلم والقهر التاريخي بعين الاعتبار لكي نفهمها. فالأمور معقدة أكثر مما نتصور. ولن تستقيم الأمور في العراق قبل ان ينتقم التاريخ لنفسه ويحصل نوع من العدل في اقتسام السلطة السياسية والاقتصادية ويعود الى كل ذي حق حقه وتأخذ كل فئة المكانة التي تستحقها. فالعراق ينفجر الآن بالمكبوت التاريخي المتكدس في أعماق أعماقه ولن تهدأ الأمور قبل ان يشبع انفجارا..بعدئذ يمكن ان تتصالح كافة الفئات مع بعضها البعض وتنظم أمورها على اسس جديدة غير السابقة: أي على أساس الحرية والشفافية والديمقراطية. ولكن قبل التوصل إلى ذلك سوف يدفع شعب العراق الثمن باهظا. وهذا ما يحصل حاليا كل يوم تقريبا.

ولكن يوجد في العراق أيضا مسيحيون من طوائف شتى. ويقدر عددهم ب000 600 نسمة. وأما اليهود فكانوا قبل تأسيس دولة إسرائيل عدة مئات من الألوف أيضا. ولكنهم لا يتجاوزون الان حفنة من الرجال.

وينبغي أن نضيف إلى كل ذلك الأكراد والقومية الكردية التي تشكل ربع سكان العراق. وأخيرا ينبغي القول بأن 11% من احتياطي النفط العالمي موجود في العراق. وبالتالي فهو البلد الثاني بعد السعودية من حيث الأهمية النفطية. ولكنه يتفوق على السعودية من حيث كونه بلدا زراعيا خصبا مليئا بالمياه والخيرات والإمكانات البشرية وغير البشرية وليس فقط بلدا بتروليا. وكل هذا يزيد من شدة الصراع عليه.

لقد حصل اختلاف بين أوروبا وأمريكا على الطريقة التي ينبغي اتباعها لحل المشكلة العراقية. فأوروبا كانت تؤيد الحل القائم على الأمم المتحدة والقانون الدولي، وأمريكا كانت تعتقد أن قوة السلاح أقوى من قوة القانون. فالطغاة الدمويون في رأيها لا يفهمون إلا لغة القوة.

والواقع أن الأمور انقلبت تماما بين الطرفين. ففي الماضي كانت أوروبا، أي فرنسا وانجلترا تحديدا، لا تؤمن إلا بلغة القوة والاستعمار والهيمنة على العالم. وكانت أمريكا على يد رئيسها ويلسون مثالية لا تؤمن إلا بقوة القانون والأسلوب الإنساني والحضاري. وأما الآن فقد أصبحت الأدوار معكوسة. فأوروبا تريد أن تكفّر عن ذنوبها الاستعمارية وما اقترفته يداها أثناء الحرب العالمية الثانية. ولذلك أصبحت من أشد المؤيدين للغة القانون الدولي والابتعاد عن لغة القوة والحرب ما أمكن