علاقة بين رجلين انعكست فيها انقسامات القرن العشرين

كتاب فرنسي يعود إلى القطيعة الشهيرة بين سارتر وكامي

TT

اقتحم الكتاب المكان الراكد، فبلبله تماما، خاصة قطاع المثقفين، (كل من أعرفهم من المثقفين العرب، ومن أجيال مختلفة ذكروا لي أنهم قرأوا الكتاب) إذ قد لا نجد في الفكر العربي كتابا يتتبع، مثلما فعل مؤلف الكتاب «رونالد ارونسون» أو يتحقق، من المسيرة الفكرية لأي كاتب أو مفكر عربي، في ارتباط تلك المسيرة، أو تفاعلها مع حاضرها.

كنا نظن أن المسافة بيننا وبين سارتر، والبير كامي، أضحت بعيدة جدا، لا من حيث الزمن وحسب، بل من حيث المناحي الفكرية التي اختار كل كاتب منهما، أن ينتهجها في حياته. وكان كل منهما قد ترك أثرا عميقا في دائرته الصغرى فرنسا، وفي النطاق العالمي كله، بحيث لم ينج مثقف في الخمسينات من القرن العشرين، من أن يتأثر بمبادئهما، أو يجري حوارا بالسلب، أو بالإيجاب، مع، أو ضد تلك المبادئ.

غير أن صدور كتاب " كامي وسارتر" مترجما إلى اللغة العربية ( سلسلة عالم المعرفة الكويتية العدد 334) كشف من جديد أن الكثير من القضايا التي انخرطا في نشرها، أو تأويلها، أو نقضها، لا تزال راهنة وحية وفاعلة، لا على الصعد الفكرية، والثقافية، والسياسية وحدها، وإنما على صعيد الحياة اليومية التي تحكم تفاصيل الحياة المحيطة بنا.

ليس مهما اليوم الأسباب التي أدت إلى القطيعة بين كامي وسارتر، التي أفضت إلى تحطم صداقة عميقة، بين رجلين مثلهما، وهو أمر لم يكن يعني المؤلف كثيرا، وإن كان قد تستر وراءه.المهم هو الكيفية، التي حدث فيها ما حدث، فقد انعكست فيها أحداث القرن العشرين بكاملها تقريبا، منذ أن اتجه كل واحد منهما في الاتجاه المعاكس للآخر، محتميا بالنظريات الكبرى السائدة، أو مؤسسا لنظريته، معلنا بلا مواربة، وبكثير من الضجيج، والصخب، والعنف أيضا، صحة ووجاهة، وإنسانية، خطه واختياره الفكريين.

وأخطر ما في ذلك الخلاف، هو الانشقاق الذي أدى إلى قسمة العالم إلى ثنائيات الخير والشر، النور والظلام، الأبيض والأسود، منطق مانوي جعل سارتر يرى الشر متجسدا في الرأسمالية، والخير كامنا في الاشتراكية، يقابله كامي الذي يرى العكس تماما. التفاصيل لم تعد مهمة اليوم، وليس من الضروري تعداد الوقائع التي انصب الخلاف حولها. فالمهم هو النهج، أو الطريقة، التي كفت عن أن تكون صفة لهما وحدهما، وهما متشابهان فيها إلى حد التطابق، بل باتت الشكل الذي وسم العصر بكامله. كأن تلك القسمة، الجائرة، قدر غشي ثقافة القرن العشرين، وربما جميع مناحيه، ومن النادر أن تجد مثقفا كبيرا، في الشرق أو الغرب، استطاع أن يرى غير ظله. ليس بينهم سوى الانقسام، والخلافات غير القابلة للحوار. وهي انقسامات تشير إلى الخارجي، إلى الآخر، الذي تضعه في المرمى، أو لا ترى فيه أكثر من دريئة، جاهزة من أن أجل ِأن نطلق عليها. لم يلتفت المثقفون إلى الداخل الإنساني العميق، ليعترفوا أن بوسع المرء أن يتعدد، وأن يكون له أكثر من ظل، ومدى للرؤية، وبضعة آفاق يستطيع من خلالها أن يدرك أن العالم من حوله من الغنى، والتنوع، أكثر بكثير من الخط الوحيد المفرد الذي حبس نفسه فيه، وادعى صحته.

لم يكن كامي وسارتر يجهران باسميهما فقط، لا، كان نهجهما نهج قرن كامل، وأذكر أن الثقافة العربية قد أصيبت بتلك العدوى، خاصة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، فشطرت العالم من حولها أيضا إلى شطرين، شطر خير هو حصتها، أو قسمتها، وشطر شرير هو حصة الآخر، أو قسمته. ولم يكن يتردد أي مثقف، أو الغالبية العظمى من المثقفين، في استخدام شعار إما /أو في التفكير، أو في الحياة العملية. كان هذا حال الجميع في واقع الأمر، يسارا ويمينا ومن أهل الوسط، وقد استعذبوا تلك القسمة الثنائية الحاسمة، فكسد الحوار، وتلاشى الاختلاف، وإذا حدث أن قبل المثقف بالحوار مع آخر، فالغاية هي إقناعه أنه مخطئ، وإذا أقر أي مثقف بالمختلف، فالهدف هو البحث عن الوسيلة المناسبة لزعزعة الأرض التي يقف عليها، ونفيه من الوجود الفكري، أو المادي. عذوبة القسمة أنها كانت مدخلا للضرب، وترجمة ذلك هو أن عالم القرن العشرين المنقسم إلى إما/ أو، كما جسد ذلك كامي وسارتر في انشقاقهما، وصراعهما، بدأ يسوغ العنف، ضمنا أو جهرا، ناهيك عن الصفات التجميلية التي أخذ يلحقها كل فريق بمفردة العنف. والأدهى أن كل فريق من الفرقاء المتحاربين كان يدين عنف الآخر وحده. فكامي الذي أدان إعدام زعماء انتفاضة المجر، من قبل الجيش السوفييتي، لم ينطق بحرف واحد لشجب مذابح الجيش الفرنسي في الجزائر، أو في فيتنام، أما سارتر الذي رفع عقيرته ضد "عارنا في الجزائر" كما سمى حرب الإبادة الفرنسية للشعب الجزائري، فقد تغاضى عن ضحايا الستالينية في معسكرات الاعتقال. وقس على ذلك في كل ما يتعلق بأي حلف انتمى إليه كل من الكاتبين، أو كل من جاراهما، أو اتخذ مواقف مشابهة في قضايا القرن الفائت.

وكان من المأمول أن يغيب القرن الدموي خجلا من نفسه، غير أن المريع أن قسمة أما/ أو غير المشرفة التي فقد بسببها عشرات الملايين أرواحهم، أو التي سوغت إزهاق تلك الأرواح، تتنكر اليوم وراء قسمة جديدة هي مع/ ضد، تقودها قوى عظمى كالولايات المتحدة، أو قوى إقليمية كالأصوليات المتشددة. فأنت إما أن تكون معي أو ضدي، وصار العنف يتزيا بأردية الملائكة، ويقحم الإنسان شاء أم أبى في أي تقسيم، ومرة أخرى يلغى الاختلاف، وحق الاختلافو أو أو أووااااا (ودعك من التخرصات والأكاذيب التي يدعي أصحابها أنهم يحترمون حقك في الرأي، فهم لا يحترمون رأيك)، ويدان أصحاب الرأي الثالث، أو الرابع، أو أي رأي لآخر، ليس مع أو ضد، ليس إما، وليس أو.

ليس بين عصرنا وعصر كامي وسارتر أي مسافة إذن، ومن الجلي أن القرن الجديد ورث أفظع "بلاغة" جاء بها القرن العشرون، وهي بلاغة العنف، كما سماها الفيلسوف الإسباني "خوسه أورتغا إي غاسيت" ولكنها مع الأسف، هي أيضا مقبرة للوقائع البشرية.