النحت في خشب الزيتون مهدد في فلسطين

TT

عرف النحت في خشب الزيتون، كأحد الصناعات التقليدية، التي ميزت بعض المدن الفلسطينية، خصوصا القدس وبيت لحم، والتي تتناول بشكل خاص قصصا من الكتاب المقدس، أو تجسد مشاهد دينية في الأرض المقدسة، مثل الحرم القدسي الشريف، وكنيسة القيامة، وكنيسة المهد، والحرم الإبراهيمي وغيرها. وحققت هذه الصناعة اليدوية، التي ادخلها فنانو العصر الصليبي الى فلسطين، شهرة عالمية، لكنها تواجه منذ سنوات أزمات عديدة، منها شح خشب الزيتون، نتيجة الحصار وإغلاق الحقول، وإقامة المستوطنات، التي أدت إلى اقتلاع آلاف أشجار الزيتون.

في أجواء هذه الصناعة، نشأ الفنان خليل جورج سعادة (56) عاما، في كنف والده الفنان الذي عرف بتطويعه لخشب الزيتون، وتتلمذ على يديه.

تخرج والده من كلية الفنون الجميلة في القاهرة الملكية، وعاد إلى فلسطين ومعه زوجة مصرية من اصل شامي، من أقارب البطل السوري جول جمال، الذي استشهد في حرب السويس.

جورج سعادة ترك المدرسة بعد المرحلة الإعدادية، وانضم إلى مشغل والده، راغباً في اختصار الوقت وتشرب هذا الفن من والده، بدلا من الالتحاق بكلية فنية.

يعتبر خليل، والده أستاذه الأول، ويقول بأنه تعلم منه تشكيل ونحث القطع الفنية، من خامات كالزجاج، والحجر، والبرونز وخشب الزيتون. ويشعر خليل بارتباط كبير بينه وبين شجرة الزيتون، وفي مدخل مشغله وضع شجرة زيتون، عمرها لا يقل عن 1500 عام، هي بمثابة قطعة فنية، شكلتها الطبيعة خلال مئات الأعوام، ويتخذها شعارا له.

ولا يعدم خليل، أسبابا لتعلقه، بشجرة الزيتون، بسبب مكانتها لدى الفلسطينيين حتى أصبحت رمزا لهم، ومكانتها في الكتب السماوية الثلاثة، ولارتباطه الشخصي بها كونه تربى في ظلال الزيتون.

وعن اختياره للخامات التي يعمل بها، من خشب الزيتون، يقول خليل بان الأفضل للنحت، هو الخشب الناشف، منوها إلى أن من مميزات خشب الزيتون الليونة، وألوانه المتدرجة من الغامض إلى الفاتح، ويتعلق ذلك بمدى قدم الشجرة التي يؤخذ منها الخشب. وعن ذلك يقول "كلما تقدمت شجرة الزيتون في العمر، زادت ألوانها عمقا، وظهرت بشكل أوضح، ونطلق على مدى اللون ونوعيته وتدرجاته اسم (الجوهر)، وهو مزيج من تداخل اللون الأسود والابيض الفاتح".

وينوه إلى رائحة خشب الزيتون، التي يعتبرها زكية وجميلة، ويشكو الان من عدم توفر الخامات، بسبب الصعوبات الاحتلالية التي يلاقيها المزارعون للدخول إلى حقولهم، وتشذيب شجر الزيتون، وقصها. ويأخذ العمل في أية قطعة، وقتا طويلا منه، يصل إلى اكثر من عام أحيانا، لكن حبه لفنه، كما يقول، هو ما يمده بعوامل الاستمرارية، رغم الصعوبات، ومن بينها الصعوبات المالية.

ولا يكتفي خليل، بالنحت في خشب الزيتون، لكنه أيضا يستخدم خامات أخرى مثل البرونز والحجر. ويقول خليل، إن الفكرة تأتيه أولا، ثم يختار الخامة المناسبة، ويبدأ التنفيذ، والموضوعات التي تشغله كفنان لها مناح سياسية واجتماعية وعاطفية، وأخرى يبرز فيها التأثير الديني، المسيحي والإسلامي.

ومن بين منحوتاته التي يعرضها في مشغله، منحوتة بعنوان "المصالحة" عن رجل وامرأة على هودج جمل، يبدو الجفاء واضحا من المرأة، بينما يحاول الرجل استرضاءها، ويظهر الجمل سائرا، غير عابئ بخلافات العشاق. ومن البرونز أنجز منحوتة "الأمومة" وتظهر التصاقا للطفل بصدر أمه، يمثل الالتحام الذي تجسده الأمومة.

ومن المنحوتات التي يمكن الإشارة إلى أنها مستوحاة من الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي "صراع البقاء"، رغم أن خليل لا يفضل حصرها في قضية معينة، وهي من خشب الزيتون وتمثل أفعى من النوع الضخم، تبتلع غزالا، يظهر مقاومة.

وفي منحوتة "الجنة الضائعة" يعود خليل إلى أحد المواضيع المفضلة لدى نحاتي العالم، وهو قصة آدم وحواء، ويتناولها بطريقة مختلفة، وعن ذلك يقول "تجنبت تناول الموضوع بشكل تقليدي، وركزت على فكرة جديدة كليا، حيث يجلس الشيطان على قمة الشجرة، وبجانبه تفاحة مغرية جدا حجمها كبير، وهو يفكر ماذا يصنع بها، فأرسل أفعى تهمس في أذن آدم بالغواية". اجمل أيام حياته، أمضاها خليل في مدينة القدس، ولكنه الان، وبموجب القوانين الإسرائيلية العسكرية يعتبر غريبا عنها، ولا يسمح بدخوله إليها. وتعبيرا عن مكانة القدس لديه، أنجز منحوتة، تظهر المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، في اعادة قراءة جديدة للمكانين، حيث لا يظهران كما هما على ارض الواقع. ويقول عن هذه المنحوتة "في سنوات طفولتي، نشأت في اكناف المسجد الأقصى، وكنت وزملائي المسلمين، ندخل إلى المسجد، نخلع أحذيتنا، ونجلس في اطمئنان، طوال ساعات، وكنت أجد كل ترحيب، وما زال شعوري بالأمان في ذلك المكان، يعيش معي حتى الان". ويضيف "تعبيرا عن كل ذلك أنجزت هذه المنحوتة عن الأقصى والقيامة، من ذاكرة الطفولة، وعن اجمل أيام حياتي".

ومن المنحوتات المحببة إليه، منحوتة تحمل اسم (الولادة)، تمثل امرأة حامل في مرحلة مخاض، يقول خليل انه أنجزها تأثرا بزوجته وهي حامل، واستخدم لذلك حجراً معروفاً محليا باسم "الحجر الملكي" ويمتاز بصفاء لونه الأبيض الجميل، ثم عمل نسخة منها بالبرونز.

ومن المنحوتات التي يفخر بإنجازها خليل برونزية تمثل أذناً بشرية بداخلها جنين، أطلق عليها اسم "الرحم" ومنحوتة أخرى أطلق عليها اسم "الحياة" وهي من البرونز أيضا، لكن عشقه الأول والأبدي كما يقول، يبقى خشب الزيتون.