«كتّاب الضواحي» الجزائريون يكسرون عزلتهم بالتمرد والانترنت

كل ما هو خارج العاصمة لا يستحق الضوء

TT

طفح الكيل، على ما يبدو. وبعد سنوات من العزلة المفروضة على الكتاب الجزائريين الذين يعيشون خارج العاصمة، ها هو أحد كتاب الضواحي يصدر بياناً قاسياً، يذكّر فيه بأن الجميع سواء في المحنة، وان المركز هامشي بدوره وليس متناً، كما يعتقد البعض. الجزائر عاصمة للثقافة العربية هذه السنة، والمناسبة السعيدة لم تساعد في التئام الجرح بل زادته حدة.

في الجزائر قلمّا تجد كاتبا معروفا، تعود أصوله إلى مدينة الجزائر العاصمة صاحبة التاريخ الطويل وعدد السكان الكبير الذي يقارب الخمسة ملايين نسمة إلا في حالات استثنائية. ومع ذلك فكل المنابر الثقافية والإعلامية في هذا البلد وكل الجمعيات الفاعلة تقريبا موجودة في الجزائر العاصمة. ونتيجة لهذه المفارقة الغريبة، نشأ ما يمكن أن يسمى "أدب العاصمة" و"أدب الضواحي". هذا الأخير الذي يكتبه أدباء يعيشون خارج العاصمة وصخبها وحتى أضوائها الإعلامية.

أقيم في الفترة الأخيرة ملتقى أدبي بإحدى مدن الداخل الجزائري سمي "عرس الهامش"، كأول محاولة جادة من أجل إسماع صوت "الجزائر العميقة" كما تسمى كل المدن الجزائرية، ما عدا العاصمة التي تحولت إلى مركز كبير فيه كل وسائل الإعلام والدعاية الثقافية، بمقابل الهامش الذي لا يمتلك شيئا من تلك الأضواء وبقي كتّابه في ظل النسيان يكاد صوتهم لا يسمع حتى "ولو كتبوا الروائع الأدبية"، مثلما يؤكد بعض الملاحظين. وقد ظهر مصطلح "أدب الهامش" في الجزائر منذ سنين وكان يعني "أدب المهمشين" المتمردين على المنظومة الرسمية مثلما هو معروف في آداب وفنون الشعوب الأخرى. وكانت أول محاولة للاحتفاء بذلك الزخم سلسلة "نصوص الهامش" الشعرية التي أصدرتها "رابطة كتّاب الاختلاف" نهاية تسعينات القرن العشرين وصدر عنها الكثير من النصوص الشعرية لشعراء كانوا مهمشين في المنظومة الشعرية الرسمية قبل ذلك. لكن مفهوم الهامش تغيّر في نظر الكثير من الكتّاب، عندما حدثت تحولات في المشهد الأدبي، وانتزع هامشيو الجزائر العاصمة، مكانة لهم تحت الأضواء وتم الاعتراف بهم. وعندما وجدت فئة من كتّاب الضواحي الجزائرية نفسها بعيدة عن تلك الأضواء أصبحت تنسب نفسها إلى الهامش. ومن بين كتّاب الهامش المعروفين الشاعر رضا ديداني الذي ما زال لحد الآن يمتهن التعليم في إحدى المدن الصغيرة القريبة من مدينة عنابة بأقصى الشرق الجزائري. ورغم أن تجربته في الكتابة بدأت في ثمانينات القرن العشرين إلا أنه لم يتمكن من إصدار مجموعة شعرية إلا مع مطلع الألفية الجديدة، واختار لها عنوانا معبرا هو "هيبة الهامش". يعتبر رضا ديداني كتابة الضواحي فعلا "مهمشة جغرافيا"، ويؤكد صراحة أن "كتّاب الضواحي أصدق من كتّاب المركز لعدة اعتبارات، منها أنهم يعايشون الواقع الحقيقي، ويحتكون بشكل مباشر مع الأشياء الطبيعية، وأن الواقع اليومي في الضواحي أكثر واقعية ولا زيف فيه بعكس كتابة المركز". وفي الوقت الذي يؤكد فيه ديداني أنه استغنى عن العاصمة، واستطاع بسبب تواجده طويلا في الهامش الشعري وفي مدن الضواحي أن يرى "أصواتا أدبية مهمة جدا لم تستطع إسماع صوتها للمركز وللعالم لأن الأبواب مسدودة في وجهها ولم تجد أي منفذ للظهور".

ولئن رضي الشاعر رضا ديداني بالبقاء بعيدا عن أضواء العاصمة، فإن شاعرا آخرا نشأ في الهامش الشعري هو الطيب لسلوس، المحسوب على ما يسمى بـ "جيل التسعينيات الأدبي" وقد صدرت له مجموعته الشعرية الوحيدة "هيروغليفيا" منذ حوالي أربع سنوات، كان من ضحايا لعبة هامش الضواحي والمركز. فرغم تميّز صوته الشعري الحداثي وعمقه الفلسفي إلا أنه بقي في الظل لا يعرفه إلا القليل من المهتمين بالشأن الشعري الجزائري، مما اضطره للهجرة إلى العاصمة في ظروف صعبة جدا. وهكذا استطاع هذا الشاعر طباعة ديوانه الأول "هيروغليفيا" الذي صدر عن منشورات اتحاد الكتّاب الجزائريين سنة 2003، وأن يكون له اسم في المشهد الشعري الجزائري المعاصر. وقد نشر الكثير من النصوص والمقالات في منابر عربية معروفة انطلاقا من المركز العاصمي الذي جاءه مكرها. يقول الشاعر الطيب لسلوس لـ "الشرق الأوسط": "هناك إجحاف كبير فيما يخص كتّاب الضواحي، فالمعلومة هناك التي تتعلق بنشاط الساحة الثقافية تصل متأخرة، على عكس كتّاب المركز العاصمي الذين كثيرا ما تتاح لهم فرص غير متوفرة لغيرهم ويمتلكون سلاح المعلومة. فتحدث بالتالي انتقائية في اختيار الأسماء، وفي النهاية هم ضحايا العمل العصبوي.

فكاتب الضواحي قد يورطه كاتب آخر من المركز العاصمي بسبب نقص المعلومة بالنسبة للأول، ثم هناك نقص المنابر الأدبية في الضواحي التي تجعل ظهور كتّاب هناك شيئا صعبا. وكاتب الضواحي الذي تغيب عنه المعلومة، تغيب عنه بالتالي أدوات النشر وراهنية النشر. فقد يبقى كتابه في انتظار النشر أكثر من خمس سنوات مثلا ومع ذلك يعتقد بأن كتابه جديد. وكثير من كتّاب الضواحي تجاوزوا سن الأربعين ومع ذلك يحشرون في خانة الكتّاب الجدد الناشئين. ويعتقد لسلوس أنه على كاتب الضواحي أن يعمل على الحصول على المعلومة الصحيحة في حينها حتى يكون مواكبا للأحداث، وذلك قد يتم بالحضور المادي إلى المركز العاصمي (مثلما فعل هو) وقد يكون حضورا عن بعد بطرق أخرى.

مقابل تجربة الشاعر الطيب لسلوس الذي اختار الهجرة الجسدية إلى العاصمة من أجل فرض اسمه، هناك تجربة شعرية أخرى استطاعت رغم "حصار الضواحي" أن تصنع لها اسما مستعينة بسلاح الانترنت الذي مكنها من "اكتساح" الكثير من المواقع والمنتديات الشعرية وأصبح بإمكانها أن تقاوم "التهميش" كما تسميه وقد صدر لها ديوانها الأول منذ أكثر من سنة بعنوان "نوافذ الوجع" وتنتظر هذه الأيام صدور ديوانها الثاني الذي يليه الثالث في وقت قريب لاحق. تقول نواّرة في الموضوع: "كتابة الضواحي حتى ولو كانت من الروائع فهي محاصرة وقد تبقى في أدراج النسيان إلى الأبد. وفي المقابل هناك أضواء يستولي عليها كتّاب العاصمة حتى ولو كان مستوى بعضهم رديئا"، وعن تجربتها فهي تؤكد أن الانترنت أنقذتها فعلا من النسيان واستطاعت من خلالها أن تشكل حضورا معتبرا. وفي النهاية تؤكد نوّارة بأنها لا تحب الانتماء إلى الضواحي ولا إلى المركز العاصمي، ولا تؤمن بالحواجز الموجودة بين المركز والضواحي.

قبل أسابيع، أقيمت عكاظية الشعر العربي في الجزائر في إطار برامج "الجزائر عاصمة للثقافة العربية". ورغم حضور بعض شعراء الضواحي إلى جانب شعراء جاؤوا من البلدان العربية وآخرين من المركز العاصمي إلا أن بعض كتّاب الضواحي وجدوا أنفسهم مرة أخرى على الهامش.

وأصدر الكاتب شرف الدين شكري، وهو من منطقة بسكرة الواقعة في بوابة الصحراء الجزائرية، بيانا لخّص فيه لعبة الهامش والمركز تحت اسم "بيان غنائية الهامش" قال فيه: "سوف يواصل الشعر مرة أُخرى قول الكلام. وللمركز الجميل أن يتبارى في نسياننا، نحن المهمَّشمين، وللهامش التليد أن يتبارى في تقديم ضحاياه، الضحية تلو الضحية، وأن يبرع أكثر في اختلاق الكورس الندَّاب وأن يمتنع عن التفكير الذكي من أجل الدفاع أو من أجل إصلاح الأوضاع، فالارتقاء واحد: مركزٌ مهمَّش، وهامش مركزي، طالما أنَّ العملة المتداولة بين الطرفين ستظلُّ موحَّدة حدَّ الشَّبه: الكلام".