حلب تودع احتفالياتها كعاصمة للثقافة الإسلامية بأسئلة مؤرقة

تغييب فناني المدينة والرسميون منشغلون بالتقاط الصور

TT

بعد ساعات من اختتام نشاطات استمرت عاماً، وانطلقت في 26 مارس من العام الماضي، كان شعار «حلب عاصمة الثقافة الإسلامية للعام 2006» لا يزال مكتوباً على جميع أبواب المحلات المغلقة والجدران، وقريباً من ساحة سعد الله الجابري أضيئت الأنوار، وتوهجت الزينة بأشكال ورموز دينية إسلامية متنوعة، وعمال التنظيفات يرفعون مخلفات الاحتفال، في ما نحن نجول في المدينة، وعشرات الوسائل الإعلامية وصلت لتغطية المؤتمر الصحافي الذي سيعقد في اليوم التالي، لتقييم سنة من الأنشطة، فأي عام مرّ على حلب، ومن نجح، ومن هو الذي فشل في انتهاز المناسبة؟

سألنا مرافقنا عن الكرة المعدنية التي قيل انها نصبت في الساحة بداية الاحتفالية، وتم الترويج لها على أنها الأكبر في الشرق الأوسط، وخصصت كمكان لمسرح في الهواء الطلق. فقال إنه تمت إزالتها! وفهمنا لاحقاً أن هذا "الانجاز" تعرض لنقد لاذع، لا ندري إذا كان سبباً في تنازل المحافظة عن منجزها الأكبر على مستوى الشرق الأوسط، أم أنه التشويه الذي أحدثته في الساحة، وبحسب أحد المسؤولين: كانت الكرة "لفتح فراغ في الفضاء"! لكنها في الحقيقة قتلت جزءاً منه بعد ان حيرت بشكلها وحجمها وتكلفتها أهل حلب، فتمت إزالتها.

ساعات كانت تفصلنا عن المؤتمر الصحافي الختامي لوزير الثقافة رياض نعسان آغا ورئيس الأمانة العامة للاحتفالية محافظ حلب تامر الحجة ومدير الأمانة العامة محمد قجة، وكان متوقعاً أن يتحول اللقاء الى ما يشبه المحاكمة للنتائج التي خرجت بها الاحتفالية، لا سيما وأن العشرات من مندوبي وسائل الإعلام العربية والأجنبية حضروا لتغطية وقائع المؤتمر، إلا أن ما جرى لم يخرج عن مألوف هكذا مناسبات، فانبرى أحدهم بنثر الياسمين بكلمات شعرية جزلة، وآخر أشاد بهذا اللقاء في حلب المعشوقة المرشوقة، حتى كاد يتحول المؤتمر الى جلسة "عيلة فستق" يتبارى أبناؤها بمديح بعضهم بعضا. لم تطرح أية أسئلة عن أسباب غياب الثقافات الأخرى التي تزخر بها مدينة حلب تحت مظلة الثقافة الإسلامية، رغم تغني المسؤولين بالتنوع الشديد للتركيب الديموغرافي للمدينة وحالة التعايش والاندماج الفريدة بين مختلف الأعراق والأديان، كما لم يسأل أحد عن سبب غياب غالبية مثقفي حلب المعروفين عن الفعالية إن لم نقل مقاطعتها.

سبب عدم التساؤل، رده أحد الصحافيين المشاركين إلى عدم متابعته لأخبار الاحتفالية، وآخر عبر عن ملله من الاصطدام مع المعنيين والذي لا طائل منه سوى سوء السمعة والاستبعاد عن الدعوات القادمة. أما الثالث فقال انه جاء ليؤدي عملاً روتينياً ويكفيه ما يقوله المسؤولون من معلومات لتدبيج خبر سريع لا يشك بأن قراءه قلائل جداً، فمن يهتم أساساً بقراءة خبر ثقافي خال من "الأكشن" ؟ وهذا ما عابه وزير الثقافة على الإعلام العربي الذي لا يهتم بالثقافة إلا في حال وجود فتنة. وصرح معاتباً الأمة العربية والإسلامية التي لم تشارك في التغطية الإعلامية عبر قنواتها الفضائية وتجاهلت الدعوات التي وجهت الى الجميع. غياب التغطية الإعلامية، بحسب رأي الوزير أعطى انطباعاً بأن الاحتفالية لم تحقق أهدافه.

أحد الحضور علق همساً على عتب الوزير: "العطل ليس من الغسالة، وإنما من المسحوق". لكن كيف السبيل لتبديل مسحوق الغسيل الإعلامي، إذا كانت هناك حساسية فائقة من نشر الغسيل وتعريضه للشمس، واعتبار أي نقد فتنة؟! فما بالنا بفتح جبهات لشن معارك ثقافية من لوازم تفعيل الحراك الثقافي، قبل أن يكون من أساسيات الترويج الدعائي في صياغة المواد الإعلامية. داخل هذا الإطار لن نجد أي خبر لافت في كل المعلومات التي تلاها محافظ حلب بنبرة تقريرية رتيبة على مسامع الحضور، كما يتلو نشيداً مدرسياً عن ظهر قلب، مبيناً ان الاحتفالية تضمنت 39 معرضا و174 محاضرة و60 أمسية شعرية و31 مهرجانا و53 ندوة و58 حفلا فنيا و16 مسرحية و10 مؤتمرات و21 نشاطا متنوعاً في ساحة سعد الله الجابري بالإضافة إلى إصدار 116 كتاباً، وبلغ اجمالي ما تم انفاقه على هذه الاحتفالية 450 مليون ليرة سورية، قسم منها كان عبارة عن تبرعات من أثرياء المدينة، ذهب أكثر من ثلثيها إلى تجديد البنى التحتية وأعمال الترميم. إذ تم البدء بترميم العديد من الأوابد التاريخية كقلعة حلب والجوامع وباب قنسرين والبيمارستان النوري، إضافة إلى إقامة الجسور وما زالت الأعمال متواصلة. معلومات لم تحمل جديداً، كون المحافظ دأب على تردادها، بل كررها عدة مرات خلال يومين، حتى أنه وفي مشهد غريب استثنائي من نوعه جلب الأنظار حين وقف على منبر الختام معيداً تلاوتها، شغّل أحدهم خراطيم الدخان الاصطناعي، فبدا وكأن حريقاً اندلع في الكواليس، فعلق أحد الخبثاء، هذا الدخان يعبر عن رأينا بهذه الإحصائيات. وكذا حال الثقافة عندما يتبناها المسؤولون فيختزلونها بأرقام تعبر عن انجازاتهم الخاصة، بحيث تفقد قيمتها وبالتالي تفقد أهميتها كخبر جاذب للتداول الإعلامي إلا إذا سئل المسؤولون عما إذا كانت معايير الإنجاز الثقافي تقاس بحجم المخصصات المالية، وبعدد الأنشطة، بغض النظر عن السوية والأهمية بالنسبة للجمهور الذي غاب عن غالبية الأنشطة التي تركزت على البحث الفكري والتاريخي الأكاديمي الجاف، وكانت أكثريتها اجتراراً للمحفوظات التاريخية عن الأماكن والأعلام التي تدور في فلك التركيز على كل ما هو إسلامي بالخالص، دون العناية اللازمة بالإسهامات الثقافية لأبناء الطوائف الأخرى في تشكيل هوية حلب الثقافية، والتي ظلت شاهداً لغاية اليوم على قدرة الإسلام على تقبل الثقافات الأخرى والاعتراف بها. وبدل أن تظهر الاحتفالية هذه الميزة لحلب، نراها وقعت في مطب التركيز عليها باللغو والتفاخر في حفلات الخطابة، دون تخصيص أنشطة لأبناء الأطياف الأخرى كي يقدموا ثقافتهم.

ولن نفترض أي سوء نية في ذلك، بل سنرده إلى ارتجالية التنظيم بسبب ضيق الوقت وذات اليد، والذي دفع ايضاً الى تغييب وجه حلب المعاصر الممثل بأجيال من الكتاب والفنانين والمطربين والموسيقيين لصالح طغيان التاريخي. فحتى حفل الختام الذي توقع الجمهور القادم من خارج حلب أن يستمتع فيه بباقة من الموسيقى والطرب الحلبي الأصيل المميز، تم فيه عرض مسرحية استعراضية غنائية تاريخية لفرقة "إنانا" الشامية، وعدا القصة التاريخية لا شيء في هذه المسرحية يمت لروح حلب، لا الرقص ولا الموسيقى ولا الأغاني، بل ان مسرحية "الملكة ضيفة خاتون" التاريخية طعمت بأغنية وديع الصافي "يا بني بلادك قلبك أعطيها" في عمل يصح فيه وصف "خليطة مليطة" لمشهدية تعتمد على الإبهار البصري عبر ألوان أزياء الراقصين، وحركات لياقة بدنية، إضاءة ملونة مزخرفة، دخان يندلع من أرجاء المسرح، زعيق وصراخ وأنين، وموسيقى مجلجلة رهيبة أقرب إلى قرع طبول لحرب تنبئ بالكوارث.

خرج بعدها الحضور برؤوس منتفخة تطن بصدى صخب عظيم، في حين أن مطربين مثل عمر السرميني وميادة حناوي وميادة بسيليس، وغيرهم كثيرون من أبناء حلب لم يلمح لهم أثر. وهو ما لمسه الحضور في حفل اليوم الذي سبق الختام، الذي أحياه المطرب الحلبي الأصيل صباح فخري، في ليلة تعد من ليالي العمر لفرط متعتها وسحرها. فقد تمكن فخري بصوته الجميل وأدائه الرائع من محو عثرات الاحتفالية، حين شدا فأطرب واستولى على الحضور، ومالوا مع ميله، وذابوا مع إيماءات أصابعه، وكادوا أن يرقصوا الأرض من تحت أقدامهم وهم يتفاعلون مع صباح فخري، الذي كان يوجه كلامه وتعليقاته إليهم، قائلاً لهم: لقد "اثبتتم أن سميعة حلب يختلفون عن سميعة دمشق" المحتلين الطابق الأرضي من الصالة، والذين تأخروا في إظهار تفاعلهم مع الطرب والتطريب خاصة وأن بينهم عدداً كبيراً من الشخصيات الرسمية، ربما كابدت كثيراً لتحافظ على ثباتها، والمضحك أن أحد المسؤولين عن التنظيم أنب الشباب الحلبيين في اليوم الثاني على عدم ضبط النفس أمام الضيوف، فما كان من أحدهم إلا أن قال: "يا خيو كيف اسمع صباح فخري وأضبط حالي؟!!"

اللافت في حفلة تكريم المساهمين في احتفالية حلب التي سبقت غناء صباح فخري، أن مقاعد الحضور كانت شبه فارغة، ومن حضر كان منهمكاً في أحاديث جانبية، بينما المسؤولون على المسرح يكرمون بعضهم بعضاً. ومع أنه لم يبق "كبير ولا مقمط في السرير" من المسؤولين إلا وكرم مثنى وثلاث ورباع، هناك من قال ان المفتي العام للجمهورية انسحب من حفل اليوم الأخير لأن رئاسة الوزراء لم تكرمه على الجهود التي بذلها لانجاح الاحتفالية سواء من موقعه الديني والسياسي أو كونه ابن حلب البار، فيما رجح آخرون أن يكون الانسحاب بسبب المسرحية الراقصة.

ومشهد التكريم الذي سبق حفلة صباح فخري بدا كاريكاتوريا حيث كان المسؤولون يلتقطون الصور، وكأنهم في جزيرة معزولة عن جمهور انشغل بنفسه، لتصبح الصالة أشبه بحمام مقطوعة ماؤه، لكن ما إن دخل صباح فخري وبدأ الغناء حتى اكتظت الصالة، وسيطرت حالة حظر على الكلام، قال فيها أحد الزملاء من الدماشقة، "كي تسيطر على الحلبيين أطربهم". وهذا ما جرى في تلك الليلة التي بذلت فيها الكثير من الجهود المضنية، لجنود معظمهم مجهولين، لم يتم تكريمهم ولا التنويه بهم، لكنهم استمروا بالعمل بصمت ودأب في المكتب الإعلامي ومعهم شباب الهلال الأحمر، ناهيك عن الأهالي الذين رحبوا بالزوار، والمطاعم التي قدمت أطايب المأكولات الحلبية الشهيرة، كذلك الأسواق الزاخرة بالصناعات المحلية اليدوية، والأحياء المحافظة على انماط عمارتها المتنوعة وحجارتها البيضاء، والقلعة بسراديبها الموحشة، وشعر غزل يرجله حائك النول في خان الشونة. وليس من العسير أن نلمح في كل شيء تفصيلاً أغفله المسؤولون في لجة تلميع صورهم، بينما كان ظهور تقاسيم المدينة عفوياً بسيطاً وحياً، يعطي صورة حقيقية عن حلب عاصمة ليس للثقافة الإسلامية وحسب، بل للحضارة والإنسانية.