الشاعر ناظم حكمت بطل سينمائي عنيد لكنه يخرّ ضعيفاً أمام النساء

«عملاق العينين الزرقاوين» يدير سجناً فريداً

TT

يخيل للمشاهد أن الشاعر التركي ناظم حكمت، أثناء فترة سجنه الطويلة، جمع عشرات السجناء العاديين وتلاعب بهم وسيّرهم على مزاجه من خلال فرضه نظاماً داخلياً تعاونياً يتقاسم فيه الجميع المهام والأدوار. ويفهم المشاهد أيضاً أن حكمت حاول مدللا، مغنجا، مدعوما من قبل إدارة سجن "بورصة" حيث أمضى مدة عقوبته، تطبيق اشتراكيته وشيوعيته المثالية. ولم يتوقف المخرج بيكت الهان عند هذا الحد بل بالغ كثيرا بتحويله سجن "بورصة" الى قاعدة بإدارة شاعرنا، اكثر من ان تكون تحت اشراف مدير السجن هناك، فجعل جانبا منه معملا للحياكة، وجانبا آخر حوله الى قاعة رسم، وهناك مكان تدريب وتدرج لطلبة حكمت، بل وتحت تصرفه غرفة الادارة نفسها يقابل فيها الزوجة والعشيقة على السواء كلما اراد. مبالغة السيناريو الذي كتبه متين بلغين كانت واضحة عندما قدم لنا سجنا فريدا من نوعه في العالم بلا ابواب تقفل، وسجناء يتحركون كيفما يشاءون ومتى ما يشاءون.

سنوات طويلة من الاستعدادات والتحضيرات لإنتاج هذا العمل، لكنه جاء محدودا ضيق الابعاد والتطلعات. فشل اولا في تعريف المشاهد بشخصية هذا الشاعر العالمي، وفشل ثانيا في نقل وقول ما يريد، فتركنا امام جملة من المشاهد والأحداث المبعثرة مخيبا آمال الكثيرين من أمثالنا الذين كانوا يعدون النفس للتلذذ بخدمة تقدم لهم، وتعرفهم بقيمة ناظم حكمت الشعرية والفكرية. أهم ما قيل لنا في هذا الفيلم هو ان حكمت العنيد المتحدي لسجانه، رغم احتماله كل أنواع القهر المادي والمعنوي، كان في غاية الضعف امام النساء حيث خر راكعا امام الزوجة والحبيبة اكثر من مرة طالبا العفو والمغفرة. فيلم "عملاق العينين الزرقاوين" لم يقل لنا الكثير حول ما لا نعرف عن حكمت، بل على العكس هو تركنا امام حالة من التناقض حول صوابية ما نعرفه. فالجميع في الفيلم كانوا على عجلة من امرهم: سيناريو مضغوط وممثلون يريدون قول شيء ما والانسحاب، ومخرج يتلاعب بنا كيفما يشاء. فهو اخطأ منذ البداية حين اشترط علينا ان نكون نعرف كل شيء عن حكمت وان ما سيفعله هو فقط تذكيرنا ببعض الاحداث.

لم يعكس هذا العمل السينمائي سيرة حياة هذا الشاعر الذي امضى قسما كبيرا منها في السجن وقسما اخر فارا خارج البلاد. وهو اختار منذ البداية ان يعرفنا بروح التمرد عند حكمت على حساب اهمال جانب التحدي في شخصيته. حتى ان عصفور حكمت كان عجيبا غريبا بالمقارنة مع عصفور الفنان اللبناني مارسيل خليفة الذي حطم اجنحته وقدميه قبل ان يحطم قفصه لانتزاع الحرية، اما عصفور شاعرنا التركي فهو تخلى بكل ارادته عن حريته وعاد ادراجه الى داخل السجن لأن حياة الخارج لم تعجبه. لم يحدثنا احد خلال هذا الفيلم عن حكمت الذي هرب اكثر من مرة الى موسكو، حيث امضى سنوات طويلة بعيدا عن الوطن، وغادره اخر مرة بعدما فقد الامل في تحقيق رغباته واحلامه. ولم يقل الفيلم اي شيء عن قبره في العاصمة الروسية التي فتحت الابواب مشرعة امامه، رغم انه انتقد بعنف رجل الثورة ستالين الذي خيب اماله. واصحاب الفيلم اختاروا ايضا ان لا يقولوا لنا الكثير عن شاعر الجوائز العالمية وشخصيته وحياته المتقلبة المترددة وقلقه الدائم على مدار الساعة.

هكذا اهدرت اول فرصة سينمائية تركية حول حياة الشاعر ناظم حكمت. فموسيقى الفيلم المختارة بعناية والشعر المقروء بكفاءة عالية والجهود التي بذلها بطل الفيلم الممثل يتكين ديكنجلر للتشبه بناظم حكمت ومحاكاة شخصيته بالكثير من الامانة، حاصرها دائما ضعف السيناريو وضيق رقعة المكان، والفترة الزمنية القصيرة التي انجز خلالها الفيلم، بموازنة متواضعة جدا لم تمنع الكثيرين من انتقاد عمل كان ينتظر ان يتناسب مستواه وحياة شخصيته التي طرحها للمعالجة. فيلم طغت فيه "انا" ناظم حكمت في اكثر المشاهد والمواقف، فجاء متناقضا مع روح "نحن" و"معا" التي حملها ودافع عنها الشاعر لسنوات طويلة في افكاره وطروحاته رغم فشله الذريع في الجمع بين معادلة الابعاد والابداع.

وهكذا يكون "عملاق العينين الزرقاوين" مر من هنا دون اية ضجة او استثارة او اشعال اي حوار فني جاد رغم اختيار ناظم حكمت احد اهم كتاب شعر الحداثة التركية. اما الفيلم فقد بقي مجرد "محاولة" لقول شيء ما في حق حكمت لم يغن او يسمن من جوع.