«وجوه» عبد الكريم الأزهر تفشي أسرارها

TT

تعرفت على الرسام عبد الكريم الأزهر منذ سنوات، باعدت بيننا الأيام، لكنه ظل حاضرا بقوة في حافظتي البصرية. فهو فنان لا يزور حاستك الفنية إلا ليقيم فيها إقامة الرحالة، الذي يترك وراءه أثر الحياة الأخرى، التي تفتن عيننا الثالثة. الأزهر لا يحب الطمأنينة الأبدية في تيه الأشكال؛ لذلك استطاع أن يمهر بيديه تجربة تشكيلية ما فتئت تؤسس هوية مغايرة في صيرورة الفن التشكيلي المغربي المعاصر.

تجربة عبد الكريم الأزهر العميقة نهلت رأسمالها الرمزي من مقاعد مدرسة تطوان العريقة وعجنته بخرائطية مدرستي «بروكسل» و«لييج» البلجيكيتين التشكيليتين؛ ثم حلقت عاليا في سماء التفرد، متخلصة من جعجعة الخطابات النظرية، التي تأتي على الأخضر واليابس في رؤوس التشكيليين العرب.

ابتدع عبد الكريم الأزهر صفاء قلما نجده عند تجار الصباغة الكثر، الذين قطر بهم السقف واغتنوا ببهارات «الخواء» الجمالي، صمته لا يعوضه سوى هذا الكلام الضاج بالمعنى/ اللامعنى الذي يخيط لوحاته ببصمة لا تحيد. فمتى لمست يد الملاك روح الرسام؟ بالتأكيد في مدينة أزمور الرائعة. مدينة التقاليد العتيقة والحياة البسيطة. «في المدرسة، كنت أميل إلى الرسم بالنقل على ورق الدفاتر المدرسية أو بالطباشير على «الأردواز». كانت تخلبني صور الجزار والخضار والإوزة وغيرها مما كان معلقا على جدران القسم، وكذا الصور التوضيحية في الكتاب المدرسي. أما في المنزل، فكنت أرسم خفية من الوالد، الذي كان يعتبر الفن مضيعة للوقت. لذلك كانت تتسم حياتي الأسرية، كباقي أبناء جيلي، بتربية قوامها الانضباط والصرامة»، يقول عبد الكريم مبتسما. تزهر في جرح الاسم الشخصي هذا هوية متحولة، مادتها النفيسة الموهبة، تبني سلطة مضادة لسلطة المحاكاة. يقف الفنان ويتقدم مستديرا ليرى أزمور، مدينة زرقة البحر المطلقة وزعفران تراب المدن العتيقة، بهيجة مضيئة يحرسها رجال ونساء برعوا في تحويل الحجر ذهبا. إن مدنا قليلة تختار مصيرها الرمزي، فتعج بعيون فنانين يرون ما لا يرى. أزمور والصويرة، مدينتان تنافستا في المغرب على ولادة الرسامين. لماذا وكيف؟ سؤال لن تقدر أيدينا على تطويعه. فما علاقة صاحبنا بأزمور؟ يضيف الأزهر: «وقعها لا يتصور على كينونتي. هي الأم الرؤوم، التي فتحت لي أسرارها وفتنة أمكنتها التي لا تتشابه ببساطتها وحسها الإنساني الرفيع». من قال أن الأمكنة تأخذنا إلى برزخ العلامات التي لا يتذوقها إلا من فتح له الله أبواب الحواس جميعها؟ تراب تلك الأمكنة وتلك الوجوه، اللذين يسكنان ببذخ في لوحات عبد الكريم الأزهر، هو ما يسحرنا اليوم ويخرجنا من رتابة العين الأحادية الممجوجة. لكن ما هي الأبواب التي يسلكها الأزهر ليبهرنا بغنى عوالمها الفريدة. تلك العوالم التي خدمها بدمه وعينه الثالثة ويده الضبطاء. يمين/ يسار. يسار/ يمين. فتخرج اللوحة من لجة العدم البهية...

«اتسمت تجربتي بثلاث مراحل. الأولى ابتدعت فيها إنسانا بدون ملامح هو أنا، أنت أو هو. إنسان خنثى: رجل/امرأة. هذا العالم غلب عليه السواد الذي خرجت منه شخوص تجري في مربعات عمودية وأفقية بإيقاعات سائلة من لون واحد هو الأسود. ثم شيئا فشيئا بدأت تظهر رموز مصاحبة كموسيقى داخلية وتتمثل في السهم والساعة. هذه الأخيرة كانت الجسر الذي عبرت به إلى أرضي الثانية، التي تميزت بغزارة الألوان وتدرجها في منحى السيولة والمحو، فانمحت الشخوص وبقيت الأرقام / الإنسان الرموز، ثم من الرقم انتقل الإنسان إلى الكتاب، وهنا اشتغلت على إيقاع التراص والتنضيد. أما لاحقا فوظفت العين التي ترمز دائما إلى الإنسان. والآن تحولت العيون في تركيبات مختلفة وسط مربعات/ نوافذ، فخلقت وجوها بحكم حركية التجاور والتنضيد. غير أن هذه الوجوه بدون ملامح تتغير أوضاعها بمنطق الطبيعة الميتة، ثم انضافت نبتة إلى جانب العين، الإنسان/الطبيعة. كاشفة لنا حيوات تجربة الأزهر التشكيلية دينامية الرؤيا للعالم النابعة من الجسد والمعرفة البصرية والرمزية والحدس الفني». وهي مسارات ضرورية لبناء طرائق جديدة للنظر، لا تكتفي بتكرار نفسها كما يحدث مع الكثير من الرواد المغاربة أو استنساخ تجارب الآخر. فدرس الرسام الجمالي هو ضرورة التأمل في جنون الزمن/الحركة، الذي يبتلع العين المعاصرة والإنسان الذي يحملها من دون مسح الغبار الذي يعيق رؤيته لنهاية الطريق». وإذا كان أغلب الرسامين يترفعون عن ذكر مرجعياتهم، فصاحبنا يتحدث عنها بصفاء النساك: «التأثير أفسره بالتجريد، لأنه اختزال للجماد والطبيعة، حتى لا يبقى منها سوى الجوهر. والفنان يعيش في حركية العالم شاء أم أبى. فأنا أتغذى بالمشاهدة اليومية الضرورية للتشكيل، إذ لا بد من تراكم ما تلتقطه العين لخلق لغة شخصية. وفي رؤيتي أستفيد من الرواد ومن جيلي وجيل الشباب أيضا؛ وهذا ليس عيبا». التعلم الدائم هو سر العمل الأساسي الذي يغير مسار العالم. هذه الرؤية مكنت عبد الكريم الأزهر من وشم اسمه الشخصي على راحة التشكيل المغربي المعاصر من دون أن يتنازل عن صرامته مع نفسه ولوحاته.