فيلم 300 الذي أغضب ايران مجرد حلقة في سلسلة هوليوودية محكمة

واشنطن: محمد علي صالح

TT

* الفنون تحارب أيضا

* وللمبدعين في ما يعشقون مذاهب وكمائن

حين تحضر الحرب يصير الكلام على السلام في الفنون عسيراً ومصطنعاً. في هذا تتساوى أميركا مع السودان وفرنسا مع لبنان؛ فالفنانون والكتاب ينهلون مما حولهم، لكن يبقى الاختلاف في الأدوات والحساسيات والرؤى والأمنيات. هنا تحقيقان أحدهما حول العلاقة الحميمة بين هوليوود والحروب الأميركية، والآخر حول انغماس الفنانين والكتاب السودانيين، شماليين وجنوبيين، في أوجاع الحرب الأهلية التي نهشت الأبرياء... نعم انها الحرب، لكن ثمة من يرى ان الفن خطط واستراتيجيات (اميركا) وهناك من يتعاطى مع الإبداع برومانسية وعلى انه بعض من وجع الذات (السودان).

مع بداية الشهر الماضي، بدأ عرض فيلم «300» في دور السينما الاميركية، وهو فيلم شبه تاريخي. وزاد اقبال الاميركيين، كبارا وصغارا، عليه لأن فيه تمجيداً للقتل، والقتل البشع، الذي اصبح ظاهرة جديدة في الافلام الاميركية، ويحبها الاميركيون لدرجة تدعو للاستغراب.

يتلخص الفيلم في هزيمة جيش غربي لجيش شرقي، ويجعل المشاهد يربط ذلك بالوقت الحاضر الذي يشهد حروبا بين جيوش غربية وشرقية.

ففي حوالي سنة 600 ق.م. كانت الامبراطورية الاخمينية (ايران) في قمتها، وغزا قورش الاكبر الاناضول (تركيا)، وكنعان (الشام)، وبابل (العراق). وبعد ذلك غزا قمبيز، ابن قورش، مصر. وبعد خمسين سنة اخرى، حاول حفيده داريوس غزو اليونان، لكن اليونانيين انتصروا عليه في معركة "ماراثون". وبعد خمسين سنة اخرى، كرر المحاولة قورش الصغير، ابن داريوس، ونجح هذه المرة، واحتل اثينا واسبارطة، لكن لسنوات قليلة.

وقبل ان يحتل جيش قورش اليونان، انهزم امام ملك اسبارطة في معركة صغيرة في "ثيرموفلي" سنة 480 قبل الميلاد. كانت هزيمة مؤقتة، لكنها اشتهرت لان هيرودوتس، مؤرخ يوناني، كتب تفاصيلها، ومنها ان 300 جندي يوناني فقط هزموا عشرات الآلاف من الجنود الايرانيين.

ركز الفيلم على هذه المعركة تحديداً، ومن هنا جاء اسم الفيلم: "300". وهو ما اثار حفيظة الإيرانيين الذين رأوا ان العمل يشوه تاريخ ايران ويعطي صورة همجية عن شعبها.

والحقيقة ان الفيلم ينطوي على اخطاء عديدة، منها: ان هذه المعركة الصغيرة لم توقف زحف الايرانيين نحو اليونان. ثانيا، صور الفيلم قورش عملاقا اسود، علق خرزا وعقودا على انفه واذنيه. ثالثا، ركز الفيلم على الصراع وكأنه "صراع حضارات"، وبين جيش ابيض ومنظم، وسود وسمر فوضيين وبدائيين.

كتب البرت سكوت، محرر اخبار السينما في جريدة "نيويورك تايمز": "لا بد ان نلاحظ ان الابطال كانوا بيضا، وان الاعداء كانوا سودا وسمرا." وكتب كينيث توران، محرر اخبار السينما في جريدة "لوس انجلوس تايمز": "ظهر امبراطور الفرس، وهي واحدة من اقوى امبراطوريات التاريخ، وكأنه حارس ناد ليلي". وكتبت جريدة "تانيا" اليونانية: "يريد الفيلم الربط بين تهديد الفرس لليونان، والمشكلة الحالية بين اميركا وايران، كما يريد استغلال الكراهية العرقية المدفونة في عقول الاميركيين والاوروبيين".

اشار بعض هؤلاء الصحافيين الى ان زاك شنايدر، مخرج الفيلم، يهودي صهيوني، وربط بعضهم بين الفيلم، والمشكلة بين ايران من جهة، واميركا واسرائيل من جهة أخرى.

رغم معركة "300"، هزم الفرس اليونان. وبعد الفي سنة، هزم الاتراك المسلمون اليونان ايضا. واحتلوها لثلاثمائة سنة. لكن، ربما لن يصدر ابدا فيلم اميركي عن ذلك.

هذه هي هوليوود

جاء فيلم «300» متأخرا للاشتراك في منافسات "الاوسكار". لكن، جاء فيلم "ابوكالبتو" (انتاج وبطولة ميل جبسون) قبل "الاوسكار"، واشترك فيه. وركز الفيلمان على العنف والقتل المتوحش، واساءا معاً الى شعوب العالم الثالث. تتخلص قصة "ابوكالبتو" في حرب بين قبائل الهنود الحمر في اميركا الوسطي (المكسيك الآن) قبل اكتشاف الاوروبيين لأميركا. وصور الفيلم حضارة "المايا" التي بنت اهرامات مثل اهرامات الفراعنة، وتركت مدنا لا تزال بقاياها موجودة حتى اليوم. شمل كل الفيلم، تقريبا، مناظر دموية بشعة لا تقل عن المناظر الدموية في فيلم "300". وكان واضحا ان الفيلم يصور الهنود الحمر كشعب بدائي. ثم، خلال الخمس دقائق الاخيرة للفيلم، ظهر مبشرون مسيحيون، وكان واضحا انهم جاءوا ليس فقط لتنصير الهنود الحمر، ولكن، ايضا، لتطويرهم.

ومثلما حرف فيلم "300" التاريخ، حرفه ايضا فيلم "ابوكالبتو". إذ لم يكتشف الاوربيون اميركا الا بعد مائتي سنة، ولم يذهب المبشرون المسيحيون الى المكسيك الا بعد ذلك بمائة سنة.

استعجل جبسون (الذي انتج فيلم "آلام المسيح"، وكان بطله) وصول المبشرين المسيحيين الى اميركا ليؤكد رأيه بأن المسيحية هي رائدة الحضارة. ودافع عن رأيه هذا في مقابلة مع جريدة "صنداي تايمز" البريطانية، قال فيها: "تقولون ان الفيلم فيه عنف واساءة الى المايا، بالعكس، انا قللت من ذلك. هل تعلمون ان المايا كانوا يقيمون احتفالات دينية يقتلون فيها الف شخص كل يوم؟ هل تعلمون ان رجال الدين كانوا يقدمون قلوب الرجال ونهود النساء تضرعا الى الاله، بعد ان يقطعوها بسكاكين امام الامبراطور؟ هل تعلمون انهم كانوا يخصون الاسرى الرجال، ويجهضون الاسيرات النساء؟ هل تعلمون انهم كانوا متوحشين حقيقة؟ هل تعلمون انني حاولت تخفيض درجة العنف؟".

قال ستيفن هنتر، كاتب اخبار السينما في جريدة "واشنطن بوست": "جبسون ليس ذكيا، لكنه اخرج قصة ممتعة". وكتب ميتلاند ماكدونوغ، كاتب اخبار السينما في "تي في": "عنف بلا حدود، يربط الماضي بالحاضر". لكن، كان مكسيكي في جريدة "لابرنسا" المكسيكية، اقل دبلوماسية، وقال: "هذا فيلم اميركي عن شعب مكسيكي قديم، واذا كان الاميركيون لا يحترموننا نحن الآن، كيف يحترمون اجدادنا؟".

هناك ثلاث نقاط يدور حولها النقاش الآن:

اولا، ربما ان الوضع المثالي هو ان تنتج هوليوود افلاما تاريخية فيها شعوب متوحشة وبدائية، بدون التركيز على شعوب العالم الثالث (لأن كل الشعوب كانت كذلك). لكن، تثير هوليوود غضب شعوب العالم الثالث لانها لا تفعل ذلك.

ثانيا، ربما الوضع المثالي هو ان تكون لكل دولة "هوليوود" خاصة بها، تنتج افلاما تعبر عن رأيها. لكن، في غياب ذلك، ستظل هوليوود الاميركية تؤثر على السينما العالمية تأثيرا كبيرا.

ثالثا، ربما الوضع المثالي هو الا تكون للشعوب آراء سلبية عن الشعوب الاخرى. لكن، ليس هذا ممكنا ما دامت شعوب تجهل شعوبا اخرى. والشعب الاميركي ربما اجهلها بغيره. وينعكس هذا على الافلام الاميركية.

لكن، مثل كل الشعوب، يجهل اميركيون اميركيين يعيشون معهم في بلدهم. وانعكس هذا على الافلام الاميركية. فقدم فيلم "ذهب مع الريح" (سنة 1939) الخادمة السوداء "مامي" التي صورت كل السوداوات وكأنهن خادمات في بيوت البيض. وقدم فيلم "شارلي شان" (سنة 1938) الصيني شارلي شان في دور خبيث ينتمي الى الصين اكثر من انتمائه الى اميركا. وقدم فيلم "اميقو" (سنة 1941) صور المكسيكي الكسلان، يجلس تحت ظل شجرة، ويضع قبعته الكبيرة على وجهه، ويشخر.

وبقيت الصورة العامة للمرأة السوداء هي انها خادمة، وللصيني هي عدم الولاء، وللمكسيكي هي الكسل. لكن، خلال نصف قرن ظهرت افلام جديدة اوضحت ان هناك صوراً ايجابية داخل الصورة السلبية العامة. سنة 1983، اصدر سبايك لي، مخرج اسود، فيلم "دكان الحلاق" عن الحياة في حي زنجي، يهتم فيه السود بنفس اهتمامات البيض: الحب، والجنس، والزواج، والاولاد، والاحفاد. وصدر بعد ذلك اكثر من عشرين فيلما، منها: "جنقل فيفر" (حمى الاحراش) عن علاقة "طبيعية" او "شبه طبيعية" بين رجل اسود وبنت بيضاء. وصدر فيلم "مالكوم اكس" عن الزعيم الزنجي المسلم.

وفي السنة الماضية، اصدر بدرو المودوفار، مخرج اميركي مكسيكي فيلم "فولفر" (العودة، باللغة الاسبانية) وهو عن عودة ممثلي وممثلات الفيلم (اسماؤهم كلها مكسيكية) الى التراث المسكيكي: جسمانيا وروحيا.

حتى الآن، لم يصدر اميركي صيني فيلما عن جوانب ايجابية للصيني الاميركي، مثل حرصه على التضامن العائلي، بدلا من صورة صاحب المطعم الصيني، وانجليزيته المكسرة، وابتسامته المبالغ فيها التي تجعل بعض الناس يشكون في نواياه.

يمكن تطبيق نفس هذا التحليل على الافلام الاميركية عن الشعوب الاخرى، وهي ان خمسين سنة غيرت جزءا صغيرا من الصورة العامة السلبية.

قبل اكثر من خمسين سنة، اصدرت هوليوود فيلم "كاليفورنيا القديمة" وفيه استهزاء وهجوم حاد على المكسيكيين الذين حكموا كاليفورنيا قبل هجرة الرجل الابيض. وصدر فيلم "روزفلت في افريقيا"، اعتمادا على زيارة الرئيس ثيودور روزفلت الى هناك (سنة 1909)، وفيه رجال ونساء قبيلة "الزولو" العرايا، واميركيون يصطادون اسودا وافيالا. وصدر فيلم "الشيخ" (بطله الايطالي رودلف فالنتينو) عن اغتصاب شيخ عربي لارستقراطية بريطانية. لكن، يلاحظ الذي ينظر الى قائمة الافلام التي فازت بجوائز "الاوسكار"، او ترشحت لها، خلال السنوات العشر الماضية، بعض التغيير. مثلا:

فيلم "بابل" عن سائحة اميركية في المغرب، اطلق عليها صبي مغربي النار خطأ، وليس لسبب ارهابي (رغم ان البنتاغون اعتقد ذلك). وفيلم "لآلئ الدم" عن استغلال شركات اوروبية لمناجم في سيراليون، وتمويلها للحرب الاهلية هناك. وفيلم "سقوط الصقر الاسود" عن مقاومة الصوماليين للقوات الاميركية، حتى اجبروها على الانسحاب (سنة 1993). وفيلم "ثلاثة ملوك"، عن دخول القوات الاميركية العراق بعد تحرير الكويت سنة 1992 والعلاقة المتوترة بين ثقافتين مختلفتين. وفيلم "سريانا" عن مؤامرات الاستخبارات المركزية الاميركية ضد حكام عرب تمردوا عليها.

لكن، هل فيلم "آخر ملوك اسكتلندا" (عن عيدي امين، رئيس أوغندا لسبع سنوات، حتى سنة 1979) ايجابي او سلبي؟ ارسلت جريدة "واشنطن بوست" مراسلا الى اوغندا لحضور افتتاح الفيلم هناك، قال أحدهم: "هذا فيلم عن متوحش افريقي يأكل لحم الذين يعارضونه"، وقال آخر: "انا ضد الحكام الدكتاتوريين، في أوغندا وغير أوغندا". وقالت أوغندية: "كأفريقية، انا سعيدة لأن هوليوود بدأت تنتج افلاما غير سلبية عن افريقيا، يستطيع الاولاد في المدارس ان يشاهدوا الفيلم ويعرفوا جزءا من تاريخهم".

معنى هذا ان الشعوب الاخرى، في غياب افلامها التي تنتشر في العالم مثلما تنتشر الافلام الاميركية، لا تقدر غير ان تنتظر حتى يغير الاميركيون نظرتهم نحوها. لكن، يقول من يريدون انصاف الفيلم الاميركي انه، قبل خمسين سنة، كان يسيء كثيرا الى شعوب العالم الثالث، لكنه، تغير بعض الشيء الآن. ولهذا، يتوقع ان يتغير اكثر في المستقبل.

لا بد ان تنعكس معارضة الشعب الاميركي لحرب العراق على افلام المستقبل، ويكفي ان واحدا من هذه الافلام "11/9 فهرنهايت" الذي انتقد الرئيس بوش نقدا حادا، ابصر النور حتى قبل ان يغير الشعب الاميركي رأيه في الحرب. وعندما كان 80 في المائة من الاميركيين يؤيدون حرب العراق، لم نر فيلما واحدا يؤيدها. فما بالك ونسبة المؤيدين للحرب انخفضت الى 30 في المائة؟

لا يتوقع من يراقب الافلام الاميركية الجديدة ان تنتج هوليوود اي فيلم يشيد بالمقاومة العراقية. لكن ربما ستنتج افلاما تنتقد المغامرات العسكرية التي قام بها البنتاغون حسب اوامر الرئيس بوش. وربما ستفعل هوليوود مع حرب العراق مثلما فعلت مع حرب فيتنام: فمن جانب، انتجت سلسلة افلام "رامبو" عن جندي اميركي يقتل الفيتناميين بالعشرات، لكن اوضح الفيلم ان الجندي يعاني من مشاكل نفسية بسبب اشتراكه في الحرب. وانتجت فيلم "غرين بيريه" (القبعات الخضراء)، بطولة جون وين الذي اعتقد ان كل فيتنامي قتله كان شيوعيا ملحدا. لكن، من جانب آخر، انتجت هوليوود الفيلم الاستهزائي "صباح الخير يا فيتنام"، وانتجت الفيلم المعقول "بلاتون" (انتجه اوليفر ستون، الذي شاهدنا له فيلم "مركز التجارة العالمي" عن هجوم 11 سبتمبر، السنة الماضية، ويمكن القول بانه كان معقولا ايضا. ويتوقع ان ينتج فيلما معقولا عن حرب العراق).

لكن، حتى تنتج هوليوود افلاما معقولة، ستظل تنتج افلاما تسيء، مباشرة او مواربة، الى شعوب العالم الثالث. وستنتج افلاما مثل "300"، موضوعه المباشر هو انتصار جيش صغير على جيش عملاق في حرب دموية قذرة. لكن موضوعه غير المباشر هو ان عشرات الآلاف من الشرقيين يساوون اقل من 300 غربي.