الرواية السعودية الأولى تعود إلى الأسواق بعد 72 سنة

«الانتقام» كتبها محمد الجوهري ونشرها على نفقته

TT

إنها أول رواية سعودية، هكذا يقول الناشران في تقديمهما لرواية «الانتقام» التي باتت في المكتبات، وبمقدور القراء أن يعودوا اليها. صحيح أنها نشرت للمرة الأولى عام 1935 على نفقة صاحبها، ولم يكتب لها الصخب والترويج الذي تلقاه الروايات السعودية الجديدة، في زمن الفضائيات والإنترنت، إلا أنها لولا هذا الجديد الذي يشغل النقاد والقراء معاً هذه الأيام، لما خرجت من ظلمتها، وبحث الناشرون عنها في الأقبية والمخابئ. كيف كانت الرواية السعودية منذ سبعين سنة؟ وما طبيعة هذا الرواية التي يصح ان نسميها أم الروايات السعودية؟

طريفة ومفيدة المقارنة بين عشرات الروايات السعودية التي تخرج من بطون المطابع في وقتنا الحاضر، ورواية «الانتقام» التي صدرت أخيراً عن «دار الانتشار العربي» في بيروت و«طوى للنشر والإعلام» وتصدّرتها عبارة «أول رواية سعودية».

هذه الرواية الصغيرة في 62 صفحة، التي كانت قد طبعت على نفقة صاحبها عام 1935، ويقدمها الناشران على انها باكورة النتاج الروائي السعودي (مع استبعاد كتاب «التوأمان»، الذي صدر عام 1930، لسببين: احدهما فني، والآخر لأن هذا التاريخ يسبق تأسيس المملكة، تفتح لقارئها باباً لا ينغلق من التساؤلات حول النقلة الأدبية والأسلوبية والاجتماعية التي شهدتها السعودية طوال الـ70 سنة الماضية. صاحب هذه الرواية، محمد الجوهري كتب مقدمة لا تقل أهمية عن الرواية نفسها، لما فيها من وصف لحالته النفسية وهو يطل على القارئ بفن جديد حينها، كان يتمنى لو ينير دربه إليه أي أحد: «لا أجد اللذة وهواية زائدة في فنون الكتابة الأدبية إلا في فن الرواية، وكم أنا شغوف به إلى أقصى درجات التشوق. وكنت أتمنى أن أجد مرشداً يسير في خطوة إثر خطوة نحو الكمال المنشد في هذا الفن الجميل» ويكمل هذا الأديب الطموح والمتواضع.. «وأخيراً عومت عوماً ـ توكلت معه على الله ـ على ان أكتب رواية صغيرة مراعياً في وضعها الشروط الروائية قدر الطاقة واقدمها مطبوعة إلى الأدباء الكرام، عسى أني أصادف من الجميع الإرشاد التام الصحيح والنقد العادل الصريح، فأتدرج بذين العاملين في تأليف الروايات إلى المستوى الكامل الرفيع».

وقارئ الرواية، يستطيع أن يلمس بوضوح كم ان الكاتب ينتقي كلماته ويشحذ أسلوبه، ويعتني بطريقة سرد حكايته، كي تأتي شيقة، رشيقة، ومفيدة، في زمن كان فيه الأديب يشعر بسمؤولية تجاه وطنه وشعبه وقرائه. وهو ما يفسر الجانب الأخلاقي في الكتاب. فالبطل أو الفتى نجيب الذي رحل عنه أهله وهو في سن مبكرة تاركين له ثروة كبيرة، سرعان ما يستنزفها، في لهو وعبث شديدين، ورفقة سوء، تتكشف له عن صديق، يسرقه، ويسحب آخر بساط من تحت رجليه ، ويفر هارباً إلى مصر.

القصة التي تبدأ في الطائف، ينتقل بطلها المحبط المنهك إلى مكة عله يبدأ حياة جديدة، سوية ومستقيمة، وهناك يلتقي بطبيب يؤكد له أنه عليل بسبب اكثر من مرض، فيعطيه ادوية وهمية محاولاً أن ينفذ إلى روحه السقيمة ويداويها، وينجح في ذلك ويزوجه بابنته. هذه القصة البسيطة، التي تحاول بشتى السبل ان تصالح الأدب الشيق مع الأخلاق والقيم الاجتماعية الصالحة، تنتهي بأمثولة لم يعد الأدب الروائي يستسيغها ولا القراء، على الأرجح، يتقبلونها. إذ يلتقي نجيب، في النهاية، بصديقه القديم سليمان الذي كان قد خدعه وسرق آخر امواله وهرب إلى مصر، في مستشفى يعالج فيه من مرض الزهري، الذي أصابه بسبب انحرافه وتهتكه. «الانتقام الطبعي» هو اسم الرواية الأصل، ونجد ترجمته في الرواية ونحن نتابع نجيب غير آبه بملاحقة أو معاقبة صديقه سليمان، او اي أحد ممن أساءوا اليه، لكن الحياة هي التي تعيد التوازن، وتقتص من الشر، وتفتح ابواب السعادة لذوي النيات الحسنة. الرواية السعودية الجديدة، لا تملك الثقة الكبيرة، بعدالة الحياة، التي تقوّم بمفردها ما اعوجّ، وتعيد لكل ذي حق حقة. انها رواية تملك من الأسئلة اكثر بكثير مما تعطي أجوبة، على طريقة محمد الجوهري. هي روايات مسكونة بهاجس البحث والتفتيش والتجريب، وكسر المحظورات، ونحر الممنوعات. وهو تماما عكس ما نجده في «الانتقام» حيث يملك الكاتب وضوح الرؤية، مع إجابات جلية وواضحة على أسئلة الحياة المعقدة.

وإن كان محمد الجوهري قد أظهر قلقاً شديداً في مقدمة روايته في ما يتعلق بالأسلوب والقص، وايصال قارئه إلى المتعة المتوخاة، فإن الكتاب الجدد من هذه الناحية، يشعرون بأنهم مسنودون إلى تجربة كبيرة في الرواية العربية، ورصيد من المغامرة الأسلوبية، يمكنهم من اختراق الساحة الإبداعية، بيسر لم يكن متوافراً للجوهري. هذا الرجل الذي أهمل وطواه النسيان والتجاهل، لا بد ان إعادة روايته إلى الحياة مرة ثانية، ووضعها بين يدي القراء، سيفسح في المجال، لا لمعرفة عمق المتغيرات التي أصابت الأدب الروائي السعودي فقط، ولكن ايضا لفهم الانقلابات المذهلة التي عصفت في المفاهيم والرؤى والقيم الاجتماعية. فبينما نجد الجوهري حريصا على بث روح الحفاظ على التقاليد والتمسك بالثوابت، فإن الأدب السعودي الجديد يراهن على نسف الموجود، وزعزة الثابت، وخلخلة كل ما يمكن خلخلته.

وبالتالي فإن قراءة «الانتقام» ليست فقط قراءة لرواية سعودية عمرها ثلاثة ارباع القرن، ولكن ايضاً تجد فيها متعة التعرف على الرواية الأم التي تناسل من بعدها هذا السيل الروائي السعودي الجامح.

++