حينما يتخلى مبتكرو اللعبة عن قواعد لعبها

القانون الدولي.. تغيرات خلال العقود السبعة الأخيرة

TT

يكرس بروفسور القانون الدولي ساندر الفصل الأول لتقديم نبذة معمقة ومكثفة عن تاريخ ظهور وتشكل القانون الدولي وتنظيمه للعلاقات الدولية، في الوقت نفسه يوضح ذلك الفصل النجاحات والاخفاقات في تنفيذها، كذلك تسليط الضوء على نقاط الضعف والقوة فيها.

وإذا كان ميثاق الأمم المتحدة الذي صاغته الولايات المتحدة وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، قد لعب دورا إيجابيا في إيجاد أرضية للتفاهم والتعايش بين الدول، فإن هناك نقاطا ظلت غامضة فيه مثل تحديد دور الامم المتحدة أمام عدوان دولة على أخرى، فالمادة 51 من الميثاق تقول:"ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات في الدفاع عن نفسها إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الامم المتحدة"، وبذلك ترك الباب مفتوحا لأي دولة أن تفسر هذه الفقرة بالشكل المناسب لها. أو كما هو الحال في الفقرة 41 من الميثاق نفسه حيث تجيز لمجلس الأمن الدولي أن "يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه". لكن الحرب الباردة التي أعقبت نشوء الامم المتحدة منعت مجلس الأمن الدولي من ممارسة صلاحياته العسكرية: فالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي قالا إنهما سيستخدمان حق النقض ضد أي مشروع قرار في مجلس الأمن يكون ضد مصلحة أي منهما، كما يحق لهما في قواعد المنظمة الدولية.

مع ذلك، ظلت الولايات المتحدة حريصة حتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي وإلى حد ما إلى الترويج لحقوق الانسان، وتدعيم الاتفاقات الدولية الهادفة إلى التخفيف من حدة التوترات الدولية. ففي العام 1963 قادت الولايات المتحدة مفاوضات اتفاقية فيينا ولعبت دورا حاسما في إدخال قوانين حقوق الانسان الأساسية إلى مضمار القانون الدولي. أما بريطانيا، فكانت الأكثر التزاما في تطبيق الاتفاقيات والمعاهدات باعتبارها تجسيدا للقانون الدولي المتفق عليه عبر الامم المتحدة. وفي عام 1983، حينما كان الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان على وشك غزو غرينادا في منطقة الكاريبي، كتبت رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارغريت تاتشر رسالة تقريع له يقتبسها المؤلف لنا: "هذا العمل سوف يجري اعتباره كتدخل لدولة غربية في الشؤون الداخلية لبلد صغير ومستقل مهما كان نظامه مدعاة للنفور. انني أطلب منك التفكير في هذا الأمر في سياق علاقات الشرق والغرب الاوسع وفي ضوء حقيقة أننا خلال الأيام المقبلة سنقدم إلى برلماننا وشعبنا نشر صواريخ كروز في هذا البلد، ولا أستطيع أن أخفي شعوري بالانزعاج العميق من جراء رسالتكم الأخيرة».

لكن هذه القواعد والضوابط الدولية، على نواقصها وعيوبها، راحت تتقلص، خلال التسعينات من القرن الماضي، مع انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، وبروز الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم. مع ذلك جاءت أزمة احتلال صدام حسين للكويت في أغسطس 1990، أول اختبار لمدى التزام الولايات المتحدة بالقانون الدولي مع انتهاء الحرب الباردة.

يؤكد المؤلف في الفصل المكرس لحرب 2003 ضد العراق، الذي يحمل عنوان: "ركل المؤخرات في العراق"، التزام إدارة بوش الأب وحكومة جون ميجور البريطانية بقراري مجلس الأمن الدولي: 678 و687، حيث اكتفت قوات التحالف بإخراج القوات العراقية الغازية من الكويت تنفيذا للإرادة الدولية ومن دون الانجرار إلى إغراء السعي لإسقاط نظام صدام حسين. وهذا ما حدا بجون ميجور رئيس الوزراء البريطاني الأسبق أن يؤكد: "كان تفويضنا من الامم المتحدة هو إجلاء العراقيين من الكويت لا إطاحة النظام العراقي، لقد خضنا الحرب لرفع راية القانون الدولي وتجاوزنا لتفويضنا كان من شأنه أن يخرق القانون الدولي وليس هناك غموض ولا إبهام في هذا القول".

يقف البروفيسور ساندر عند مسار الأحداث التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر 2001 الانتحارية، وكيف استخدمت إدارة بوش الحالية هذه الأحداث للتخلص جملة وتفصيلا من قيود القانون الدولي الذي كانت الطرف الأساسي في صياغته. وما يثير الحيرة هو الموقف المؤيد والداعم لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير، للولايات المتحدة في هذا المسار. فهو لم يبد أي معارضة لمبدأ جديد أدخلته إدارة بوش في تفسير الفقرة 51 من ميثاق الامم المتحدة والذي يتيح لأي دولة الدفاع عن نفسها من الخطر الخارجي بتقديم ما سمته بالهجوم الاستباقي. وهو مبدأ يسمح لأي بلد بالهجوم على أي بلد آخر انطلاقا من النيات فقط وهذا تحول خطير في كسر قوانين اللعبة التي اختطتها الولايات المتحدة وبريطانيا في المقام الأول.

بعد صدور قرار 1441 عن مجلس الأمن الدولي في عام 2002، والذي يطالب العراق بالتعاون الكامل مع فرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل ويشير إلى عقوبات أخرى في حالة عدم تحقيقه لهذا الشرط، فسرت الولايات المتحدة وبريطانيا لاحقا أن ذلك تخويل لهما بشن الحرب على العراق من دون العودة إلى مجلس الأمن الدولي والحصول على قرار واضح مثلما حدث قبل بدء حرب الخليج الأولى عام 1991. فخوفا من أن تقف الدول الثلاث الدائمة العضوية: روسيا والصين وفرنسا، مع الدول غير الدائمة ضد قرار السماح بشن الحرب على العراق، فضلتا المضي لوحدهما في الحرب. وبذلك تخلت بريطانيا عن مبدأين كانا يحكمان عمل مجلس الأمن الدولي واللذين وضعتهما هي بنفسها في اربعينات القرن الماضي: قانون الأغلبية وقانون حق الفيتو.

يتحدث المؤلف عن غياب تقاليد في تدريس القانون الدولي بالولايات المتحدة، وكان هذا هو السبب وراء ضآلة النقاش الذي جرى قبل بدء الحرب ضد العراق داخل أميركا، على عكس الحال في بريطانيا. ينقل البروفيسور ساندر عبارة استخدمها الرئيس بوش حينما سئل حول القانون الدولي في مقابلة جرت معه في 11 ديسمبر 2003: "القانون الدولي؟ من الافضل الاتصال بمحامي الخاص.. أنا لا أعرف ما تعنيه بالقانون الدولي".

يتناول الكتاب في فصول أخرى جوانب مهمة مثل المعاملة التي جرت للمشتبه بقيامهم بأعمال إرهابية والمحتجزين في خليج غوانتانامو، إضافة إلى ما جرى للمعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب من خروقات رهيبة لحقوق الانسان ولاتفاقيات جنيف ومعاهدة فيينا لعام 1963 التي كانت الولايات المتحدة العقل المدبر لها.

يقدم الكتاب لحظات أساسية من تاريخنا المعاصر، على ضوء الموقف من القانون الدولي. كذلك يحمل رؤية عميقة للكيفية التي يمكن للعالم وفقها أن يتجاوز قانون الغاب إلى مجتمع أكثر عدلا وأمنا.

يمكن القول إن المترجم عثمان جعفر النصيري نجح في نقل النص بكفاءة عالية، على الرغم من وجود هنات لغوية هنا وهناك كانت تقتضي مراجعة مسبقة له. فهناك أخطاء قليلة في استخدام المذكر والمؤنث أحيانا أو استخدام مفردة "دع عنك" الحرفية لكلمة LET ALONE بدلا من كلمة "فما بالك و" أو "ناهيك بـ". مع ذلك لم تؤثر هذه الهنات الضئيلة من دقة وتدفق اللغة في نص قانوني كهذا. والاعتراض الوحيد عندي هو تلاعب المترجم بالعنوان الفرعي: فعنوان الكتاب الحرفي هو "عالم بلا قانون: إقامة القواعد الدولية وتجاوزها" بينما فضل المترجم النصيري عنوانا فرعيا يحمل موقفا سياسيا وله ظلال عاطفية غير مبرر لها: "عالم بلا قانون: كشف المستور حول الكيفية التي يفعل بها بوش وبلير بالقانون ما يشاءان».