جمهورية مستقلة خارج بغداد هرباً من البعث

علي الشوك يسرد أحوال العراق بعد انقلاب 1963 في «السراب الأحمر»

TT

اعتاد قارئ الباحث والكاتب العراقي علي الشوك قراءة دراساته في تاريخ الأسطورة وتبادل مواقعها لدى الشعوب، وتاريخ العلم وحاضره. وكان باكورة أعماله كتاب "الدادائية بين الأمس واليوم"(بغداد 1970)، وهي حركة فكرية أثارت نقاشاً وجدلاً في وقتها. ثم أصدر كتابه المثير "الأطروحة الفنتازية"(بغداد 1971). وبعدهما صدر له: "أقاليم اللغة والأسطورة"، و"أسرار الموسيقى"، و"الموسيقى بين الشرق والغرب"، و"التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب"، و"كيمياء الكلمات"، و"الثورة العلمية الحديثة وما بعدها". أما في الرواية فله "الأوبرا والكلب"، والراوية التي بين أيدينا "السراب الأحمر.. سيرة حياة هشام المقدادي"(دار المدى للثقافة والنشر 2007). إلا أن محور الأخيرة هو السيرة الذاتية، قصة حياة مؤلفها كاملة، وهي ثلاثية، سيصدر الجزءان الأخيران عن الدار نفسها تباعاً.

ويذكرنا عمل علي الشوك في هذه الرواية بعمل أبي حيان التوحيدي (ت 414هـ) حكاية أبي القاسم أحمد بن علي التميمي البغدادي "الرسالة البغدادية"، والاسم المستعار لمؤلفها هو أبو المطهر محمد بن أحمد الأزدي. وربما ستنازع بعد زمن طويل حول هشام المقدادي، مثلما تنازع قبل سنوات النقاد حول صاحب الحكاية: هل هو أبو القاسم البغدادي، أم أنه أبو حيان التوحيدي، الذي كانت قصته قصة لدينة بغداد ليوم وليلة واحدة، تمكن فيها التوحيدي من قول ما لايمكن قوله. ولتجاوز الحواجز كما يبدو، جعل علي الشوك، سيرته سيرة لشخص مستعار.

ليس لي الدخول في بناء الرواية، وفن كتابتها، فلا أتجاوز حدودي وأقفز إلى النقد الأدبي، الذي يتطلب دراية واختصاصاً لا أدعيه، لكني بعد قراءة الرواية، ولمعرفة قريبة من صاحبها، تجعلني أميل إلى ما فيها من تاريخ أحداث منسية، وزوايا وخبايا ما كان لها الكشف لولا حيوية ذاكرة علي الشوك، الذي أزال الموانع في التذكر والتأريخ لحقب مثيرة في حياته. وبطبيعة الحال قد يمتنع التذكر إذا كانت الكتابة مباشرة بأسماء وأماكن، وكان المتذكر أو الراوي يكتب سيرته بنفسه، لذلك تطلب العمل الروائي منه الاستعارة.

وبطبيعة الحال لا تقرأ الرواية قراءة المذكرات والسير الذاتية المباشرة، مع أنها جاءت محملة بالحوادث والمواقف، ذلك لما فيها من فن الرواية ومعالجاتها، ومَنْ يقترب من علي الشوك، ويعتاد على أسلوبه في الكتابة لا يجد حواجز أو اختلافاً بين كتابته لموضوع علمي أو شخصي صرف، وبين موضوع روائي. وهذا ما قرأناه له حول النظرية النسبية، وحول أصل اللغة والأسطورة، وفي "الأوبرا والكلب".

تبدأ الرواية بمرارة محو هامش الحريات، الذي بدأ لا يُطاق سنة 1978، ومحاولات فرض الانتماء الحزبي على مناحي الحياة كافة. كان الحوار مع عميد الكلية، التي يعمل فيها هشام المقدادي. كانت السلطة جادة بجعل مجال التعليم محتكراً للبعثيين، وانهيار شخص مثل المقدادي أمام هذه الضغوط لا تعني غير نهاية حياته، وهو بالنسبة للبعثيين صيد ثمين. وهنا يتضامن العميد القومي، وغير المرغوب به أيضاً، مع قلق المقدادي، ويساعده على تأجيل الانتماء على حزب البعث، مقترحاً عليه الخروج من العراق. ومن هنا تبدأ المعاناة، ويبدأ سرد السيرة عبر أحاديث وتقليب الأوجاع مع شلة مقربة من الأصدقاء، من الذين يجمعهم فكر واحد وماض مشترك.

وهروباً من أجواء بغداد، التي أصبحت تضيق على ساكنيها، فأصبح حتى الاستقلال بالدار بل وبغرفة النوم أمراً عسيراً، فكر الأصدقاء في تأسيس جمهورية مستقلة في منأى عن العاصمة. جاءت الفكرة من الصديق المقاول وشقيقه طبيب الأمراض النسائية، عندما حصل الأول على مقاولة لشق طريق بمنطقة ديالى، وهناك على النهر تأسست الجمهورية، التي حظي سكانها بحرية كاملة، وعبره تكونت لصاحب السيرة صلات عاطفية، أسفرت عن تعويضه خسارة زوجته الأمريكية، التي توفيت، وزوجته الثانية التي أحالت حياته إلى جحيم. كانت أيام الكامب، أو المعتزل، مرحلة توديع العراق بالكامل.

توقفت الرواية كثيراً عند أحداث صعبة عاشها صاحب السيرة، بل وعاشها العراق قاطبة، وهي الفترة التي تلت انقلاب شباط 1963، حين تحولت بغداد إلى سجن كبير، تجول فيها قطاعات الحرس القومي، من الشباب النزق. وكان على المقدادي الاختفاء، فما ينتظره لا يعني سوى الموت. وآخر المطاف ألقي القبض عليه بدسيسة من أحد الأقرباء، وهو يتهيأ لترك الوكر إلى وكر آخر، ربما أكثر أماناً. ومن حينها تبدأ معاناته ومعاناة زوجته الأمريكية اليسارية، التي رافقته، بعد انتهاء دراسته بجامعة كاليفورنيا، إلى بغداد. وبعد أن تسلكت الأمريكية على حياة البيت الشرقي، وتجاوزت معاناته من استخدام الحمام والتواليت إلى استساغة المجاملة الشرقية، وتمكنها من اللهجة العراقية، أخذت تواجه اعتقال زوجها، والبحث عنه من معتقل إلى آخر بصحبة والدته، التي أحبتها وتعلقت بها.

في المعتقل واجه رفاق له الموت مهشمي الرؤوس والأعضاء، ومشهد الدم المسيل، ومع ذلك كان الاعتراف على مَنْ فلت من قبضة الحرس القومي أقسى من الموت نفسه، وهذا سر صمود العديدين أمام وسائل العذاب القاسية. كان صاحبنا يعشق الموسيقى، ويحلم بالعزف على البيانو. كان معتاداً على الحياة الأرستقراطية، رغم أنه يساري وأحد كوادر الحزب الشيوعي. إلا أن الحزب نفسه كان لا يورطه بعمل جماهيري يأنف من ممارسته. شاهد في المعتقل جانباً من معاناة عالم الفيزياء عبد الجبار عبد الله (ت 1969)، رئيس جامعة بغداد، وهو يلوب ألماً وحرجاً من نوبة إسهال، وقد منع من استخدام المرحاض، حتى اضطر إلى قضاء حاجته في إناء، وستره المعتقلون ببطانية. هناك تفاصيل ما زالت مخفية على الكثيرين، تحدثت عنها رواية "السراب الأحمر" وهو عنوان بحد ذاته يشي بهروب الحلم، الذي أعتقل بسببه المقدادي، وها قد أصبح سراباً بعد سقوط الكتلة الشرقية.

هاجر صاحبنا كثيراً، من أجل الدراسة، لكن هذه الهجرة تبدو أبدية. لذا حاول أخفاء القرار عن والدته، التي ستتألم كثيراً لفراقه، ومن خلال شباك الدار العتيقة أطل على أحداث الطفولة، وطبقية العلاقات بالأسر الأرستقراطية، التي تبدو مفارقة لانتمائه الفكري والحزبي. كانت أسرته على صلة بآل عبد المحسن السعدون (انتخر 1929)، رئيس وزراء العراق المشهور بقولته: "الشعب يريد والإنجليز يرفضون"، وبحادث انتحاره. وعلى صلة أيضاً بأسرة جعفر أبي التمن (ت 1945)، وهو الوجيه العراقي المعروف في مجالس بغداد، وفي السياسة العراقية عموماً، وببطولته في تحدي الاحتلال البريطاني، وكانت والدته ابنة عمته. وبهذه الصلة فكر بأوراق جعفر أبي التمن، لصياغة مذكراته، إلا أنها سلمت إلى شخص أخفاها، فلم يكتبها، ولم يُرجعها إلى زوجته.

ينقل علي الشوك، وهو يسرد حياة هشام المقدادي، حادثة مهمة في تاريخ العراق وعلاقته بمصر الناصرية، وتعكس مدى تدخل ذلك النظام في السياسة العراقية. حادثة يصعب العثور عليها في دفاتر المذكرات والسير، أو الأحداث السياسية، وكان نجل قريب والدته جعفر أبي التمن ضحيتها. ذلك عندما كانت مصر تخطط لقلب نظام الحكم، أيام عبد الكريم قاسم، فاتصلت شخصية قومية بعزيز أبو التمن تطلب منه الاشتراك في الانقلاب، أو اغتيال قاسم، وقد أفشى عزيز السر للحاكم العسكري والمدعي العام، وبدورهما طلبا منه الاستمرار في اللعبة. إلا إنه بعد خلاف حاد مع المحامي حسين جميل، وهو المحسوب على الجانب القومي، حاول غلق جريدة الحزب الشيوعي العراقي "اتحاد الشعب"، عندما كان الأخير وزيراً للإرشاد، اغتيل عزيز في داره، وأمام زوجته. وهنا يصبح حسين جميل نفسه تحت طائلة الشك!

ليست الرواية سيرة ذاتية لحياة هشام المقدادي، بل هي سيرة حياة مدينة، وجماعات، وأحزاب، ومرحلة ثقافية وفكرية. وهي تظهر لك الفروق بين الأنظمة من العهد الملكي إلى العهود الجمهورية. ويقف الراوي عند سؤال ملح، وهو مع إصرار البعثيين على تجنب تأميم النفط، من خلال أحاديث رئيسهم أحمد حسن البكر، إلا أن النفط أمم من دون شوشرة أمريكية، أو اعتراض من الشركات، بينما قامت الدنيا ولم تقعد عندما أمم عبد الكريم قاسم النفط. وعلى ما يبدو كانت هذه إشارة فاضحة لتعامل البعثيين مع الأميركيين في فترة ما، وحتى صعود صدام حسين.

أحداث قاهرة مرت على هذا البلد، وتزاحمت عليه في فترة وجيزة، فقد فيها الأمن والأمان حتى الساعة. فهناك صديق يسرد للمجموعة نجاته بالصدفة من حبل المشنقة، ولم يعلم السبب إلا بعد خمس سنوات من إطلاق سراحه من المعتقل الرهيب قصر النهاية. أعدموا شخصاً كان معه في الزنزانة، اسمه يدل على انحداره من المناطق الشعبية، فكلفه بنقل الخبر إلى زوجته، بأمارة كلمة السر: "الإبرة بالمخدة". أما نجاته من الإعدام، بتهمة إنه جاسوس لإسرائيل، فهي أن الضابط المكلف بالتحقيق معه شرب الخمر مع والده، وأخبره أنه سيعدم غداً شخصاً من العائلة الفلانية، فما كان من الأب إلا أن نهره، بالقول: يمكن هذا الشخص أن يكون شيوعياً أو أي شيء آخر إلا أنه من المحال أن يكون جاسوساً! وقد أعاد الضابط، تحت تأثير والده، التحقيق، وأُطلق سراح المتهم. عرف بخبر نجاته بعد أن واجه الضابط مصادفة، بعد خمس سنوات!

كانت المفارقة، التي ذكرها هشام المقدادي عن زوجة ابن عمه "في العهد الملكي كانوا يحاسبون الناس لتدخلهم في السياسة، أما اليوم فهم يلاحقونهم ويضايقونهم إذا لم يتدخلوا في السياسة". لكن، السياسة باتجاه واحد، وبما تخططه وتفكر به سلطة الحزب. جاءت الرواية مثقلة بالأحداث والأسماء، والمفارقات، حاول مؤلفها الانتقال من حدث إلى آخر عبر أسئلة واستفسارات متتالية، محاولاً الإيفاء بصفحات تلك الحقبة كاملة، وهي كثيرة التقلبات والمفاجآت. انتهى الجزء الأول من ثلاثية سيرة هشام المقدادي بترك العراق، ويبدو إلى الأبد، بعد عدم الحصول على "أقصى ما تمناه، هو أن يُترك وشأنه". وانتهى صارخاً: "أتركوني رجاءً"! وهذا هو المحال في السياسة العراقية، ولو بعد حين!