خليل النعيمي مهنته كجرّاح لم تمنعه من أن يكون روائيا ويفوز بأدب الرحلة

مؤسسة السويدي الإماراتية تمنحه جائزتها

TT

فاز الدكتور والروائي السوري المقيم في باريس خليل النعيمي أخيرا، بجائزة الرحلة المعاصرة عن كتاب «قراءة العالم.. رحلات في كوبا وريو دي جانيرو ومالي ولشبونة والهند الأوسط»، التي تمنحها مؤسسة السويدي في الإمارات العربية المتحدة. وسيقام حفل منح الجائزة في شهر يونيو (حزيران) في الجزائر العاصمة، باعتبارها عاصمة للثقافة العربية لسنة 2007.

لكن خليل النعيمي ليس فقط كاتبا للرحلة، ولكنه روائيّ، ومُساجل من الطراز الرفيع، بالإضافة إلى أنه جرّاح مشهورٌ في أحد أكبر مستشفيات الضاحية الباريسية.

اللقاء مع خليل النعيمي دائما يفتح الباب أمام تنوع المجالات التي يمكن أن يطالها الحديث. كان قد عاد للتوّ من المستشفى، بعد أن أجرى عمليات بالغة التعقيد. «أحيانا قد تدوم العملية أكثر من خمس ساعات». ولكنه سرعان ما يتخلّص من جوّ العمليات الضاغط والمثير للأعصاب. ومن هنا يأتي الأدب، من قراءة وكتابة، كفرصة لنسيان مؤقت لجوّ العمل، وولوج عوالم أخرى وارتياد آفاق لم تًُفتح بعد. يقول ضاحكا: «من كان يتنبأ لابن بادية سورية، الذي خبر الصحراء وشظف العيش، وتعايش مع مفاهيم الرجولة والشرف البدويين، أن يجد نفسه، وجها لوجه، إزاء مدينة أنيقة وأنثى مثل باريس». ولكنّ الوصول إلى باريس، وكما يحكيه لم يكن مخمليا، «إذْ أنني لم أُخْلق وفي فمي ملعقة من ذهب». هي مراحل طويلة وقاسية، تتطلب صبرا وجلدا أسطوريين. من الصحراء إلى الشام، حيث الجامعة والخدمة العسكرية، التي ترد بعض الإشارات منها في روايته الأخيرة «مديح الهرب» الصادرة عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2005)، يكتب في الصفحة 271 من هذه الرواية:

«صرت أشعر بالخجل من التاريخ، من تاريخ بلا أجنحة. تاريخ حياة مكتفة مثل بقرة معدة للتضحية. لماذا يقاوم الكائن قدره، إن لم يكن من أجل قهره، فتحسينه؟ ولماذا تراه لا يتورع عن الانغماس في مصاعب الإغراء، إغراء الحياة، إن لم يكن ينتظر من هذه الحياة أن تكون سعيدة. عندما دخلت الجيش كان ذلك بدافع من الفقر الذي لا يقاوم. يومها سحرتني فكرة بسيطة: أريد أن أتعلم. وكان لا بد لي من النقود. كنت أريد، إضافة إلى ذلك، أن أصير خادما للوطن»، مرورا بالهزيمة العربية الكبرى في 1967، التي كرّس لها رواية «دمشق 67»، ثم الوصول إلى مدريد وبعدها الوصول إلى باريس فالدراسة فالعمل والكتابة.

من يعرف الكاتب النعيمي يلاحظ أنه أمام كاتب له موقف إزاء كل القضايا الكبرى، بالوصف البريشتي (برتولد بريشت) الشهير «في كل مسألة اتخذْ موقفا»، ولكنه لا يسقط في كتابة سياسوية إسقاطية، إذ أن «الأدب، كي يكون أدبا، مجاله مختلف، بالضرورة، عن مجال السياسة».

يقترب الكاتب النعيمي من تعريف الراحل إدوارد سعيد للمثقف، وهو أنه يجب أن يكون منشقا أو مُعارضاً باستمرار. ولكنه على الرغم من هذه النظرة الساخرة للكائن (للروائي خليل النعيمي رواية مثيرة تحمل عنوان «تفريغ الكائن»)، فهو حريص على أن يسمو بكائناته إلى مستوى تكون فيه قادرة على أن تقرر مصائرها بنفسها. ومن هنا تأتي نصوصه في أدب الرحلة. «ما أن تتاح لي فترة استراحة قصيرة، حتى أفكر في السفر وأسافر..». وكلما سافر إلى بلد ما كتب عنه. وفي جعبته الآن نصوص وكتب عديدة منها: «مخيلة الأمكنة» و«كتاب الهند» وغيرهما. كلما سافر انخرط في معرفة البلد وكائناته: «تاركا لعينيّ حرية الحركة ولقلبي متسعا من الوقت، ولعقلي مطلق الإحساس. أريد أن أتمثل هذا العالم الذي لم أكن أعرفه منذ قليل..».

يقول لي وكأنما استشعر عدم استيعابي الكامل لعشقه للسفر: «أول ما يتوجب على الحكومات العربية أن تفعله إزاء مواطنيها، كي تنخرط في الديمقراطية الحقيقية، هو أن تأذن لهم بالسفر، أن تشجعهم عليه..».

لا يفاضل النعيمي بين كتابة الرحلة والرواية، إذ أن كل جنس أدبي له خصوصياته ومتعته الخاصة به، بل هو يعتبرهما متكاملين معا، إذ أن كتابة الرحلة تتميز بقدرة كبيرة على التصريح، في حين تظل قوة الرواية التلميحية هي الشيء البارز. يروق للدكتور النعيمي، في ذمّ الرواية السياسية المباشرة، أن يستشهد بمقالة لميلان كانديرا عن كاواباتا الياباني وموقفه من الاحتلال الأميركي لبلده بعد الحرب الكونية الثانية. معارضة كاواباتا للاحتلال الأميركي وردت في قصة صغيرة تصف حافلة غاصة بمسافرين تتوقف ويصعد إليها بعض الجنود، لا يعرف القارئ جنسيتهم. يأمر أحد الجنود مواطنا بنزع ثيابه كلها. بعد تردد يرضخ الراكب. بعد فترة تتوقف الحافلة، ينزل الجنود، وما أن يتواروا حتى ينقضّ باقي الرُكّاب على الراكب / الضحية ويشبعونه ضربا لأنه لم يدافع عن كرامته. يعلق كونديرا على النصّ بالقول إن كاواباتا، الذي عبّر عن رفضه للوجود الأميركي، لم يكن مضطرا لأن يستخدم في نصه كلمة أميركي.

أسأل خليل النعيمي، الذي يستعد للسفر إلى بلد آخر، عن سبب تأخر كتابته لرواية تصوّر عوالم التشريح والطب، من الداخل، وهو سؤال يبدو أنه يطرح عليه باستمرار، ولكن إجابته كانت تتضمن الكثير من الدهاء: «حتى أتوقف عن ممارسة التشريح. هذا يقودنا دائما إلى مسألة العلاقة بين الحدث السياسي الفوري والتعبير الأدبي عنه. إنّ أفْضَلَ التعبيرات الأدبية، من شعر وغيره، عن حدث سياسي ما، هي ليست التي أعقبته مباشرة. المبدع يحتاج دائما إلى وقت إضافي».