الأميركيون يؤيدون «الوسطية» في الفكر ويحظرونها في السياسة

جمهوريون وديمقراطيون.. حكاية اللقاء الموعود

TT

يستغرب كثير من الاميركيين الطريقة التي تجرى بها انتخابات الرئاسة في فرنسا، ولا يفهمون ظواهر مثل: اجراء الانتخابات مرتين (حتى يحصل مرشح على اكثر من نصف الاصوات)، وترشيح ستة وثلاثين شخصا، ينتمي بعضهم الى احزاب صغيرة جدا (ثم انخفض العدد الى ثمانية)، واشتراك احزاب شيوعية متطرفة أو تقارب في طروحاتها النازية، في الانتخابات.

حتى اوصاف المرشحين الفرنسيين غريبة على الاذن الاميركية، مثل مرشحة «اشتراكية»، ومرشح «تقدمي». والسبب هو ان الاميركيين تعودوا، خلال مائة وخمسين سنة، على حزبين فقط: الديمقراطي، والجمهوري. اذا اراد الاميركيون مزيدا من التفاصيل، يستعملون اوصافا مثل «ديمقراطي معتدل» او «جمهوري محافظ». لكن، حتى هذه اوصاف عابرة، تعتمد على آراء سياسيين يظهرون ثم يختفون. لا توجد داخل الحزبين جماعات مثل: «الجناح اليساري» او «الكتلة المحافظة». ولا توجد في القاموس السياسي الاميركي عقائد مثل «الاشتراكية» و«السندكالية»، ولا يوجد في الانتخابات «مرشح رجال الاعمال» او «مرشح نقابات العمال».

حتى الاوصاف الجديدة التي ظهرت خلال العشرين سنة الاخيرة، لا يبدو انها ستدوم، لأنها لا تملك جذورا عقائدية، مثل:

اولا، «اليمين المسيحي» الذي سيطر تقريبا على الحزب الجمهوري، وينتمي اليه الرئيس بوش. لكن، مع بداية هذه السنة، بدأ الرئيسان السابقان، كارتر وكلنتون، حملة لتقوية «الوسط المسيحي»، واقناع قادة اليمين المسيحي بالاعتدال (وعدم المبالغة في تأييد بوش، كما عدم المبالغة في تأييد اسرائيل).

ثانيا، «التقدميون» داخل الحزب الديمقراطي، وهم نشطون ومنظمون. لكن، فاز الحزب في انتخابات السنة الماضية (وسيطر على الكونغرس) بدون الاعتماد عليهم، بل بالتبرؤ منهم. وصار مطلوبا منهم التأقلم مع هذه الظروف الواقعية، وعدم التطرف (مثلا في موضوع «الامبيتشمنت»، اي محاكمة الرئيس بوش).

لن يؤيد الحزب الديمقراطي «الامبتشمنت» الا اذا ايدته اغلبية الشعب الاميركي (حتى الآن، لا تؤيد، رغم الغضب من الورطة التي ادخلهم فيها بوش في العراق). ولن يؤيد كذلك، الحزب الجمهوري الاعفاء عن ملايين المكسيكيين الذين دخلوا اميركا بطرق غير قانونية، الا اذا ايدت ذلك اغلبية الشعب الاميركي (حتى الآن لا تؤيد، رغم ان الرئيس بوش مع الاعفاء).

يوضح هذا ثلاثة اشياء: ان الشعب الاميركي هو الذي يرسم الفكر السياسي السائد، غالباً، لا قادة الاحزاب، أو أساتذة الجامعات، أو خبراء معاهد البحث. وان آراء الشعب الاميركي تتغير ببطء وخلال عقود، وينعكس ذلك على الحزبين: الديمقراطي والجمهوري. اما الأمر الثالث، فهو ما دام الحزبان يقدران على التأقلم مع تغيرات المزاج الاميركي، فإن احتمالات ظهور حزب ثالث في الوسط، تتضاءل باستمرار.

خلال سنوات الثورة الاميركية على الاحتلال البريطاني، وتأسيس الولايات المتحدة، اثر ثلاثة من «الفاوندنغ فاثرز» (الآباء المؤسسون) على الفكر السياسي الاميركي، كما نراه في الوقت الحاضر:

اولا، توماس جفرسون الذي صار ثالث رئيس لأميركا، وهو ابو الفكر الليبرالي، ويتمثل الآن في الحزب الديمقراطي.

ثانيا، الكسندر هاملتون الذي كان اول وزير مالية. هو ابو الفكر الرأسمالي، ويتمثل الآن في الحزب الجمهوري.

ثالثا، توماس بين، وهو من اقترح اسم «الولايات المتحدة الاميركية». ويعتبر هذا الرجل انه ابو الفكر الوسطي الذي لم يتطور الى حزب سياسي.

كتب توماس بين، عدة كتب شارحاً افكاره، منها «القانون الطبيعي»، الذي اعتبره اساس كل القوانين. لم يكفر الرجل بالله، لكنه قال ان التأمل في الطبيعة، وليس الانجيل، يقود الى الله. وقال ان «الوسطية فطرية»، وهي اساس القانون الطبيعي الذي يدعو الى «الموازنة والتنسيق».

بعد نجاح الثورة الاميركية، سافر توماس الى فرنسا، واشترك في الثورة هناك (نجحت بعد 13 سنة من الثورة الاميركية). وصار عضوا في البرلمان، لكنه اعتقل وحكم بالسجن بعد ان كتب «عصر المنطق»، لأنه قال فيه انه آمن بالله بالفطرة الطبيعية، لا بالانجيل. ثم اعتقل وحكم بالسجن، مرة ثانية، بعد ان كتب «العدالة الزراعية»، وانتقد نابليون بونابرت، قائلا انه «المنافق المثالي الذي لم يوجد منافق مثالي مثله». لكن، لحسن حظه، صار زميله توماس جفرسون رئيسا لأميركا، ودعاه للعودة، حيث توفي في نيويورك سنة 1802. ويمكن تلخيص فلسفة فكر الوسط، حسب آراء توماس بين، في الآتي: اولا، الطبيعة (الفطرة) اكثر قوة من المنطق. ثانيا، العاقل لا يحتاج لاقناع غيره بالقوة.

ثالثا، الفكر الاميركي فكر لكل العالم.

رابعا، الحرب ضد قانون الطبيعة الذي يعتمد على التعايش السلمي.

بعد ان فشل توماس بين في تأسيس حزب وسطي، اختفت الفكرة من الساحة السياسية، لكنها استمرت نظرية في الكتب والابحاث الاكاديمية. ولم ينجح، ايضا، الحزب الشيوعي، ولا الحزب الاشتراكي، على مواجهة الحزبين العملاقيين: الديمقراطي والجمهوري اللذين نجحا في التلون حسب مزاج الشعب الاميركي (وصار هذا سر قوتهما). لم تنجح الوسطية سياسيا، لكنها نجحت فكريا. وشجعت البحث عن ما وراء اليمين واليسار، وما وراء الرأسمالية والشيوعية، وما وراء السياسات الخارجية والمصالح الاستراتيجية.

ولهذا، اتفقت اغلبية فلاسفة «الوسط» او «الطريق الثالث» على اضفاء صبغة اخلاقية على الفكرة، واتفقت على الصفات الآتية: اولا، الاهتمام. ثانيا، الابداع، ثالثا، الفضول. رابعا، النزاهة. خامسا، التواضع. سادسا، التأدب. سابعا، الاخلاص. ثامنا، الحكمة (ثمانية من 20 صفة).

كتب مايكل لند، وهو خبير في مركز «نيو اميركا» في واشنطن، ومؤلف كتاب «الوسط الراديكالي» الكلام التالي: «عبر تاريخنا، ظهر الوسط واختفى في ظروف غريبة، حتى البليونير بيرو قاد حزبا وسطيا». هذه اشارة الى البليونير روس بيرو الذي اسس سنة 1992، حزب الاصلاح، وترشح باسمه لرئاسة الجمهورية، لكنه، طبعا، فشل. وانتقده قادة الحزب الجمهوري، وقالوا انه، في المرتين اللتين ترشح فيهما، اخذ اصواتا من مرشحي الحزب الجمهوري. (فاز، في المرتين، مرشح الحزب الديمقراطي الرئيس كلنتون. ترشح ضده، اول مرة، الرئيس بوش الاب، وترشح ضده، ثاني مرة، السناتور دول).

وواجه رالف نادر، مرشح حزب «الخضر»، نفس الاتهامات، ولكن من جانب قادة الحزب الديمقراطي. قالوا انه، في المرتين اللتين ترشح فيهما، اخذ اصواتا من مرشحي الحزب الديمقراطي. (فاز، في المرتين، الرئيس بوش الابن، مرشح الحزب الجمهوري. ترشح ضده، اول مرة، آل غور. وترشح ضده، ثاني مرة، السناتور كاري).

مع فشل الوسط السياسي، يزدهر الوسط الفكري، ويشترك مايكل لند، خبير مؤسسة «نيو اميركا» في واشنطن، ومؤلف كتاب «الوسط الراديكالي» في قيادته. بل ان مؤسسة «نيو اميركا»، التي تأسست قبل سبع سنوات فقط، صارت مركزا للفكر الوسطي في الوقت الحاضر، وترفع الشعار الآتي: «لسنا ضد الحزب الديمقراطي، ولسنا ضد الحزب الجمهوري. لكن، نريد منهما ان يلتقيا في الوسط». وتدعو المؤسسة للاتفاق على الآتي: التركيز على الحرية والعدل. وقف الهجوم الشخصي، والتخلص من نفوذ منظمات وهيئات الضغط (اللوبي). وانتقدت «نيو اميركا» ما وصفته بأنه: «استغلال نظامنا السياسي لتحقيق اهداف حزبية وشخصية، وتدهور تقاليدنا القديمة مثل العمل، والتعاون، والنزاهة، وتحويل الربح المالي الى هدف اساسي. هذا عدا زيادة الاعلانات المغرية لنأكل ونشرب ونمرح». وترى «نيو اميركا» ان «اميركا امة وسطية» (يعتبر هذا الرأي عودة الى توماس بين، وجذور الوسطية بأن الوسطية بديهية، وفطرية، وجزء من القانون الطبيعي).

تشترك في ادارة مؤسسة «نيو اميركا» شخصيات «وسطية»، مثل: كرستين تودمان، حاكمة سابقة لولاية نيوجيرسي (رغم انها من قادة الحزب الجمهوري)، وفرانسيس فوكوياما، مؤلف كتاب «نهاية التاريخ» (ايد، قبل اربع سنوات، غزو العراق، ثم غير رأيه قبل سنتين)، وجيمس فالو، كبير محرري مجلة «اتلانتك» (الليبرالية). وفريد زكريا، رئيس تحرير مجلة «نيوزويك العالمية» (اميركي ولد في الهند).

وهناك اريك شميث، رئيس مجلس ادارة شركة «غوغل» لخدمات الانترنت، الذي تربطه صلة قوية مع سيرجي برين، ولاري بيدج، مؤسسا شركة «غوغل» اليهوديان.

هل يسيطر اليهود على «نيو اميركا»، المركز الجديد للوسطية؟

اولا، لا يسيطر اليهود على المؤسسة، لكن وجودهم كبير.

ثانيا، لا يتحمس هؤلاء اليهود للدفاع كثيرا عن اسرائيل.

ورغم نفوذ اليهود الثلاثة الذين يقودون شركة «غوغل»، لا يمكن القول انهم يريدون للفكرة الوسطية ان تكون يهودية، بل هم لا يريدون ان تكون «غوغل» يهودية. ومؤخرا، اشتكت جريدة «جويش واتش» (المراقب اليهودي) الاميركية بأن «غوغل» فيها مواقع تشتم اليهود، وتسيء اليهم، ورد سيرجي برين: «نعم، انا، كيهودي، اعتبر ان بعض مواقع «غوغل» مسيئة، لكن نزاهة «غوغل» اهم من عواطفي».

وهناك دانيال ليفي، يهودي وخبير في «نيو اميركا». القى، مؤخرا، محاضرة قال: «كل ما تريد اسرائيل، منذ خمسين سنة، هو ان تكون دولة مثل بقية الدول في المنطقة: تعترف بجيرانها ويعترفون بها، وتتاجر مع جيرانها ويتاجرون معها، مثل بقية دول العالم، لهذا، يجب الا تهمل اسرائيل المبادرة السعودية». وقال: «ترى اغلبية الاسرائيليين ان المبادرة السعودية فرصة يجب الا تضيع» واشار الى ان الامير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، كتب، مؤخرا، في جريدة «ديلي تلغراف» الآتي: «اذا رفضت اسرائيل المبادرة، ستؤكد انها لا تريد السلام، وسيصبح مستقبلها ليس في ايدي دعاة السلام، ولكن في ايدي دعاة الحرب». حتى مايكل لند لا يمكن ان يوصف وصفا سياسيا معينا.

عندما كان في الجامعة كان مع الحزب الديمقراطي، وبعدها انضم الى «النيوكوم» (المحافظون الجدد، وهو تحالف فيه المسيحيين المتطرفين والجمهوريين المحافظين واليهود الصهانية) الذي دعا الى غزو العراق. لكن، تخلى لند عن «النيوكون»، وانضم، مؤخرا، الى «نيو اميركا». وكتب، خلال عشرين سنة، بالاضافة الى كتاب «الوسط الراديكالي»، «الحاجة الى ثورة اميركية رابعة» و«التمرد على الفكر المحافظ» و«فيتنام: اعادة دراسة:اسوأ حرب في تاريخ اميركا» و«صنع في تكساس: جورج بوش وسيطرة الجنوبيين على السياسة الاميركية».

وفي السنة الماضية، نشر «الاستراتيجية على الطريقة الاميركية»، وفيه قال: «ظلت الحرية على الطريقة الاميركية هي مثلنا الاخلاقي الاول. لكن، منذ حرب الخليج الأولى، انحرفنا انحرافا خطيرا. وصارت الاستراتيجية على الطريقة الاميركية هي مثلنا الاعلى. استبدلنا الحرية بالمصالح، واستبدلنا القيم الاخلاقية بالقيم الرأسمالية». انتقد لند في كتابه بول وولفوتس، نائب وزير الدفاع سابقا، ومخطط غزو العراق، ومدير البنك الدولي حاليا، وقال: «الدعوة لسيطرة اميركا على العالم دعوة خطيرة جدا». ومما قاله لند ايضاً: «بالغنا في تصوير خطر منظمة القاعدة، حتى لم نعد نستمتع بالحرية التي ظللنا نتمتع بها منذ استقلالنا... وصارت اميركا قلعة لا هم لها سوى حماية نفسها».

واخيرا، ليس هناك امل في تأسيس حزب وسطي رئيسي في اميركا، وان كانت الأفكار موجودة.

في السنة الماضية، بعد ان فاز الحزب الديمقراطي في الانتخابات وسيطر على الكونغرس، كتبت مجلة «تايم» على غلافها موضوعا عن «الوسط الجديد»، ورسمت على الغلاف دائرتين كبيرتين: حمراء تمثل الحزب الجمهوري، وزرقاء تمثل الحزب الديمقراطي، وتشابكت الدائرتان في مساحة صغيرة.

معنى الغلاف هو ان «الوسط الجديد» ليس حزبا جديدا، ولكنه «وسطية شعبية» نابعة من مزاج الشعب الاميركي الذي يراقب، ويحلل، ويقرر بعقلانية، لا عاطفية، وببطء، شديد لا بتهور.