خزفيات بيكاسو وثيرانه تخلب أبصار عشاقه في طنجة

رؤوس ماعز ووجوه آدمية تستقبل الزوار

TT

شهدت الساحة التشكيلية المغربية قدرا مهما من الحركية خلال السنة الحالية، لكن يبقى أحد اهم أحداث ربيعها على المستوى الفني، هو المعرض الذي شهدته أخيراً طنجة لمجموعة من الاعمال الخزفية الأصلية للفنان الاسباني بابلو بيكاسو. ويشكل المعرض سابقة، سواء من حيث قيمة القطع المعروضة، أو لكونه الأول الذي يستضيفه المغرب لهذا الفنان الاسباني الكبير، مؤسس التكعيبية، ومسجل مجموعة من التحولات العميقة في الساحة الفنية العالمية. بيكاسو هذه المرة يقدم نفسه من خلال خزفياته بشكل أساسي، ومن هنا ربما يشعر الزائر انه يكتشف وجهاً آخر للرسام الشهير.

يشمل المعرض مجموعة فنية مكونة من 53 قطعة، منها 39 قطعة خزف ولوحات محفورة، اضافة الى عدد من اغلفة الكتب واللوحات التي انجزها الفنان لتستعمل برفقة نصوص ادبية عالمية.

وتم جلب القطع من كبريات المتاحف الاسبانية، بشكل يمكّن الزائر من تكوين فكرة متكاملة عن اعمال الرجل الذي غيّر وجه الفن في منتصف القرن العشرين، والتأثيرات التي كمنت وراء عبقريته، خاصة في ميدان الخزفيات. ومعروف ان ولع بيكاسو بهذا الميدان انما ورثه من طفولته وشبابه اليافع، بسبب كونه ولد تربى في مدينة مالقة المعروفة بصناعة الخزف والسيراميك منذ الوجود الاسلامي بالأندلس. ولعل النتيجة الحتمية لهذا التأثر هي التي دفعته لتحويل أواني الفخار الهشة الى فضاء فني يحتضن تنويعاته التشخيصية في كثير من الاحيان: طبيعة ميتة، طيور مختلفة، وجوه نساء، وتجريدية في أحيان أخرى، حين تتحول الوجوه نفسها الى حزمات ضوء والوان وتداخلات هندسية شفافة على خلفيات صحون ومزهريات وقلل مياه.

وهكذا، يعمد بيكاسو إلى الجمع بين العناصر: النار والماء والتراب في عمل فني واحد، بعد مزج كل الخلطة بهشاشة المادة الأولية المستخدمة، وبالحساسية الإبداعية المرتفعة، للتعبير عن الأحاسيس الدفينة التي يختزلها الفنان في الذاكرة. وحول ذلك يقول بيكاسو، ملخصا مذهبه: «اشتغلت دائما وفق ما يمليه علي زمني. لم اكترث أبدا بروح البحث. انا اعبّر فقط عما أراه». وهي المقولة التي تفسر البساطة المعجزة التي ميزت مساره وسمحت له بزعزعة أركان النظريات الفنية السابقة له.

ذلك ما يمكن ان نلاحظه من طريقة تعامله مع الموروث الفني الشعبي في فن الخزف، الذي لم يستعمله الفنان لمجرد انبهاره العابر بمادة عريقة الأصول، بل للعودة الى العناصر الاولى وتجريب بعدها اللعبي في تشكيل حياة طافحة بالدعابة والحرية.

ويقول محمد الاشعري وزير الثقافة المغربي الذي انتقل الى طنجة لافتتاح المعرض: «ان بيكاسو لا يفرّط في أي تفصيل تقني مرتبط بمعالجة المادة ولا يتنازل، في نفس الوقت، عن رؤيته الخاصة في ترويض هذه المادة وابتكار أشكال جديدة لوجودها. لذا فهو يفاجئنا عندما يربك علاقتنا مع المألوف ويكشف ما يكمن في كل مادة من إمكانيات غير محدودة لخلق جديد». ويتجلى ذلك فعلا في اختيار بيكاسو المتعمد للأطباق والمزهريات وقلل المياه، وغيرها من أدوات الحياة اليومية لتحويلها الى دعامة فنية وفضاء للابتكار.

فالاشتغال على الخزف مكّن بيكاسو من المزاوجة بين التعبير عن قدراته في الرسم بالفرشاة وصناعة الأشكال، ما يقود الى مزج العمل النحتي بالتصويري، وملاءمة تعرجات المادة مع تدرجات الألوان والأشكال، من خلال ملامح مجموعة من المخلوقات التي اقتنصت عين الفنان فرصة التعبير بواسطتها: رؤوس الماعز (ترمز لآلهة الريف عند الرومان)، مشاهد مصارعة الثيران، الطيور والوجوه الآدمية.

أما الموضوع الذي تناولته اغلب اللوحات المحفورة القليلة الموجودة في المعرض فهو مصارعة الثيران. مشاهد تختزل كل العنف اللا فنّي الموجود في الحياة، والذي دأب بيكاسو على تصويره ببرود يقصي منه لون الدم، ويحصره في لون واحد (الاسود والازرق المائل للسواد)، كما لو ان هذا العنف الذي يكتسي صيغة حفلة رياضية مبهجة عند الجمهور في السياق الاسباني، عاجز عن الخروج من قوقعة وحدة اللون ومن الطابع الكامد والموحش لجمهور بلا أوجه يصوّره الفنان بعيدا مندمجا مع ألوان الحيوانات، بلا هوية تقريبا.

بل ان الامر يصل الى حد تحويل الحيوان (الثور) الى بؤرة لتوتر اللوحة بدلا من المكون البشري الذي يتحرك على هوامشها. مع الاشارة الى ان ولع بيكاسو بالثيران لا يقف عند حدود اللوحات المحفورة، بل يتعداه الى الخزفيات، حيث نجد ثيران قلل الماء متوثبة، ذات تعابير وجه دقيقة موحية بمشاعر تكاد تؤنسن الحيوان. فيما تتحول تقاطيع الوجوه البشرية في بعض المزهريات الى حزم من الاشكال الأولية التي تحاكي في «تبسيطيتها» وجمود تعابيرها عجمة الحيوان.

من جهة اخرى، يلحظ الزائر المكانة المتميزة التي تحتلها الطيور بين المخلوقات التي اختار بيكاسو ان يرسمها على مجموعة كبيرة من خزفياته الطينية. وكأن الفنان اختار ان يدخل البعد السماوي الى قلب الطين المصهور بالنار والماء، في عملية خلط ذكية للعناصر الأساسية الأربعة. الامر يتعلق بعملية إضفاء بعد خارجي على مجموعة من الاواني المنزلية التي لا تغادر اماكن السكن الى الفضاء الخارجي عادة، بادخال الخارج الى الداخل، وجعل الوعد بالتحليق واستلهام نظرة الطير العلوية الشمولية الى تفاصيل الخزفيات المقصية والمركونة في مناطق الظل. ولعل هذا البحث الدؤوب عن خلخلة ثوابت النظر ومسلمات الذوق هو ما جعل الفنان المالقي الكبير، يحدث الدوّي الذي أثاره في عالم الفن منذ شبابه الذي قضى جزءا منه باسبانيا بعد ولادته بها في 1881، الى يوم وفاته في مدينة موجان بفرنسا سنة 1973.