هل أصبحت الثقافة المطية العرجاء لمنظمات حقوق الإنسان؟

سلوى بكر: شعاراتهم ديكورات تجميلية تخفي أجندات جاهزة

TT

تعتمد منظمات حقوق الإنسان في مصر شعارات وأجندات سياسية، وكأن لا حقوق للإنسان في المعرفة والتعليم والعمل، يهمها أن تلتفت إليها أو تشملها برعايتها. ولكن هل يمكن أن يتحقق الدور السياسي الذي تنشده هذه المنظمات بمعزل عن الثقافة؟ كثيرون يعتبرون ان الانشطة الثقافية لهذه المنظمات هي مجرد وسيلة تستثمرها لغايات سياسية، وبالتالي فتهميشها للثقافة وإغفالها لها هو انعكاس طبيعي لأهدافها البعيدة. وعلى العكس من ذلك يرى المعنيون بمنظمات حقوق الإنسان أنه لا يوجد تعريف شامل للثقافة، ويتساءلون: أليس الدفاع عن حرية الفكر والتعبير، هو بحد ذاته عمل ثقافي. في هذا التحقيق نستطلع رأي الفريقين اللذين بدا كل منهما غاضباً من الرؤية التي ينظر من زاويتها الآخر.

الكاتبة سلوى بكر ترى ان هناك أجندة خاصة بهذه المنظمات موضوعة مسبقاً من قبل الممولين الذين يسعون لكشف وفضح النظم القمعية. وقد تستخدم الدول الكبرى ذلك كأوراق ضاغطة سياسيا، ضد الدول المتخلفة وغير الديمقراطية إذا لم تطبق هذه الأخيرة سياستها وتخضع لها. لذا فأجندة تلك المنظمات ـ في رأيها ـ مرتبطة بهذه الفكرة ومن هنا نجد ان الثقافة مهمشة وغائبة عن جدول أعمال هذه المنظمات التي ترفع شعار حقوق الإنسان كديكور. وتؤكد سلوى أن هذا هو التفسير الوحيد لتجاهل الثقافة من قبل هذه المنظمات فهؤلاء يختزلون نشاطاتهم في الحقوق السياسية، وكأنهم لا يدركون إن الإنسان الذي يدافعون عنه صاحب حقوق اجتماعية واقتصادية.

وتتساءل سلوى: «لماذا لا تقوم منظمات حقوق الإنسان بالدفاع عن حق الإنسان في التعلم، ما دامت الأمية تتفشى في المجتمع، مؤكدة إن هناك تقصيرا واضحا من قبل منظمات حقوق الإنسان في التعاطي مع الشأن الثقافي.

ويتفق د. وحيد عبد المجيد مع سلوى بكر قائلا: إننا نعيش عصر التخصص فلكل منظمة وجمعية اختصاصها، توجد جمعيات تعمل للتنمية، وأخرى للرعاية الاجتماعية. أما منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية فالطابع الغالب عليها هو سياسي بحت، وقد تهتم بنشر ثقافة حقوق الإنسان والدفاع عن المرأة، ولكن الدفاع عن حقوق الإنسان يجب ان يشمل الدفاع عن المثقفين وحقوق الإبداع. ويلفت عبد المجيد إلى أنه توجد منظمات تستغل الاهتمام العالمي بحقوق الإنسان وتتباهى بذلك وهي ليست مؤهلة لذلك، وما يهمها هو الحصول على «الكارنيه» والشهرة فقط. مشددا على انه: لا توجد جمعية أو منظمة تقوم بدورها بشكل حقيقي من دون أن يكون لها نشاط ثقافي، وبالتالي فمنظمات حقوق الإنسان مقصرة ومصابة بالخلل لأنها لا تهتم بهذا المجال. ويأخذ عبد المجيد على هذه المنظمات اتخاذها الثقافة كوسيلة وليست غاية أساسية ضمن أولوياتها.

وفي رأي الدكتور ميلاد حنا ان منظمات حقوق الإنسان تدافع عن الإنسان في مواجهة الانتهاكات والتعذيب والاعتقالات، فشغلها الشاغل إنساني في المقام الأول وهو نشاط أهلي له مريدوه، والناشطون في هذا المجال أمامهم مائدة كبيرة من النشاطات، جزء منها يرتبط بمجالات حقوق الإنسان. لكنني مع ذلك ـ والكلام للدكتور حنا ـ أرى قصورا في تعامل هذه المنظمات مع الشأن الثقافي، وهذا النشاط لا ينفصل عن مجمل النشاطات الأخرى في المجتمع، فلا سياسة بدون ثقافة والعكس صحيح. د. بهي الدين حسن، مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، يرد على هذه الاتهامات بالقول: إن قضية المنظمة هي ثقافة حقوق الإنسان في العالم العربي وكيفية نشرها والتغلب على المشاكل التي تواجهها، وتوجد مكتبة خاصة بالمركز فيها ما لا يقل عن 200 عنوان ومطبوعات فكرية وأدبية وفنية تتعلق بقضايا حقوق الإنسان. ونسعى لنشر الثقافة من خلال الإصدارات المختلفة وإعداد البحوث، بالإضافة إلى عقد دورات تثقيفية وتعليمية متخصصة في مجال حقوق الإنسان.

سألته، لكن مظاهر الاهتمام بالجانب الثقافي الذي تتحدثون عنه يفتقر إلى المبادرة، بل هي في الغالب الأعم مجرد رد فعل لأفعال سياسية تعوق حركة الفعل الثقافي كمصادرة الكتب والإبداع وغيرها.

أجاب بهي الدين: عنوان المركز يتعلق بحقوق الإنسان لكننا على تماس مع جوانب ثقافية وفكرية ودينية، ونهتم بالعادات والتقاليد والتاريخ والشعر والفنون والسينما، لكننا لسنا نقادا سينمائيين أو نقاد أدب إنما هناك منظمات وجمعيات متخصصة في هذه المجالات مثل اتحاد الكتاب ودار الكتب والهيئة العامة للكتاب. منظمات حقوق الإنسان تدرس الأدب والثقافة من منظور علاقتهما بقضايا حقوق الإنسان. وأنوه هنا أن المركز يصدر «رواق عربي»، وهي مجلة ثقافية تتناول موضوعات عديدة تتعلق بقضايا الحرية والفكر التنويري العربي. كما أصدر المركز مجموعة من الكتب المهمة في هذا السياق، منها «حقوق الطفل في الثقافة العربية الإسلامية» لهيثم مناع و«التجديد في الفكر الإسلامي» لعبد الله بولا. ولذلك لدينا رؤية شاملة لمنظومة حقوق الإنسان في المجتمع لا ينفصل فيها السياسي عن الثقافي والاجتماعي. لكننا ننظر إلى الثقافة من منظور قضايا حقوق الإنسان، وهذا حقنا وعملنا.

لكن هل تهدف منظمات حقوق الإنسان بالفعل إلى نشر الثقافة في المجتمع؟

يقول د. احمد سميح، مدير مركز الأندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف: منظمات حقوق الإنسان تهدف لنشر الثقافة في المجتمع بعدة صور منها الدفاع عن حرية الرأي والفكر والعقيدة والاعتقاد، مؤكدا أن جزءا أساسيا من نشاطات المركز هو توفير بيئة مؤاتية للمثقفين للعمل في مناخ أكثر حرية، وخاصة أن المجتمع لا يتقبل كل ما يعبر عنه هؤلاء.

ويتابع سميح: لذا نحاول إيجاد لغة تفاهم سهلة بين المثقفين والمجتمع وندافع عن هؤلاء المثقفين الذين تعاديهم الدولة وتحاربهم فنساندهم ونقف بجانبهم. وكان الكاتب فرج فودة رحمه الله ضيفاً دائم التواجد على قائمة الأنشطة الخاصة بالمركز، بالإضافة إلى أن منظمات حقوق الإنسان تبادر بالتصدي لقضايا مصادرة الأعمال الإبداعية لبعض الكتاب. وقد يهيأ للبعض إن هناك إغفالا للأنشطة الثقافية في أجندة المركز، لكننا نهتم بكل المجالات في آن واحد ولدينا العديد من الندوات التي تعقد بهدف مناقشة قضايا مختلفة تحت حزمة الثقافة مثل «ختان الإناث» حيث نقوم بحملات توعية بالمحافظات المصرية، بجانب قضية اختلاف الأديان وضرورة احترام الآخر. ولا يوجد مثقف بادر بإصدار كتاب عن التسامح الديني إلا ووفرنا له القاعدة الشعبية لقراءته ومناقشته، وساهمنا في ترويجه.

لكن أليست هذه نظرة انتقائية للثقافة تجعلها مجرد حامل لأفكار وأيديولوجيات معينة؟ رد بغضب: عندما نحارب التعذيب ألا نحارب في الوقت نفسه ثقافة الإفلات من العقاب، لذا فهذه اتهامات باطلة ورخيصة، والتمويل الخاص بهذه المنظمات ليس له علاقة بهذا الأمر ولا يليق بالمثقفين ما يزعمونه. وأنوه أن هناك مشروعا هائلا يتبناه المركز تحت إشراف «المنظمة العربية للإصلاح الجنائي» من ثماره إصدار مجموعة قصص للأطفال تتعلق بحقوق الإنسان لتنمية مداركهم كما أقمنا معرضا فنيا مهما بعنوان «حقوق الصحفيين المهدورة في فن الكاريكاتير». ويوجد موقع للمركز على الانترنت بعنوان «الشبكة العربية لمنظمة حقوق الإنسان» في صورة بث إذاعي لتثقيف الشباب وتلقينهم اللغة العربية بأسلوب أكثر سهولة وتنمية قدراتهم في هذا الشأن. ويتخفف سميح من نبرة غضبه قائلا: نحن نحتاج إلى أن نتعاون ونتكاتف من أجل مجتمع أكثر انفتاحاً وتقبلاً للأفكار التنويرية والتصدي للتخلف والجهل والتعصب والإرهاب.

ويحدد د. حافظ أبو سعدة «الأمين العام لمنظمة حقوق الإنسان» بمصر هدفين أساسيين للمنظمة: حماية حقوق الإنسان بالمراقبة والتدخل القانوني، ونشر الثقافة المتعلقة بحقوق الإنسان، لا الثقافة بشكل عام، فنحن نركز على الحقوق المدنية والسياسية وعنوان المنظمة يكشف عن أهدافها.

ويوضح جاسر عبد الرازق، عضو مجلس الأمناء بمنظمة حقوق الإنسان: إن المنظمة هي هيئة أهلية علمية وبحثية وفكرية تستهدف تعزيز حقوق الإنسان في العالم العربي وفى هذا الإطار نلتزم بكافة المواثيق والعهود والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان ونسعى لتحقيق هذا الهدف. ولذا فالمنظمة تتبنى برامج تشمل القيام بالبحوث وعقد المؤتمرات والندوات والمناظرات وتوفيرها للدارسين في مجال حقوق الإنسان. وشعارنا نشر الثقافة في علاقتها بحقوق الإنسان وهذا هو الهدف الذي نسعى لتحقيقه.

استفزتني كلمة «أهلية» التي تكررت كثيرا، وبدت وكأنها مخرج لعدم اهتمام هذه المنظمات بالثقافة، لكن استفزازي بدا أكثر استغرابا حين علقت صفاء عصام الدين «مدير وحدة البحث بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان» قائلة: إن منظمات حقوق الإنسان تعد جمعيات أهلية في المقام الأول وليست معنية بالثقافة والفكر إلا في نطاق ضيق ومحدود، في هذا الإطار قامت المكتبة بإصدار سلسلة تستهدف تتبع حقوق الإنسان في الفنون والآداب منها «القمع في الخطاب الروائي العربي» لعبد الرحمن أبو عوف، و«الحداثة أخت التسامح ـ الشعر العربي المعاصر وحقوق الإنسان» لحلمي سالم، و«الآخر في الثقافة الشعبية» للدكتور سيد إسماعيل، و«تنوع المصادر الدينية في شعر محمود درويش» لسحر سامي، و«دوائر لم تكتمل».

قلت لها: معظم هذه الكتب عبارة عن تجميع لمقالات متفرقة نشرها مؤلفوها حسبما تقتضي الحال، وبالتالي فهي تفتقد الرؤية الخاصة المتماسكة، كما أن دمغها بقضايا حقوق الإنسان ينطوي على قدر من التعسف.

أجابت مديرة البحث بالمركز: أقدر أهمية سؤالك الذي لا أتفق معه، وعموما هناك سلاسل أخرى ستتناول قضايا حقوق الإنسان بالمنظور الشامل الذي يجمع بين السياسة والثقافة الفكر والاجتماع.