أنصار الحرية يخجلون من الكتب الاباحية

TT

فئة كبيرة من المثقفين تتصدى كلما منع كتاب أو صودر إبداع، مدعية بأن حرية الرأي هي قيمة يجب إلا تمس، وان في الأدب والفن متسعا لكل النزعات والأحلام والشطحات، ومن دون هذا الهامش الإبداعي الفضفاض، فإن الخيال مهدد بالعقم والإفلاس. لكن المفارقة التي نعيشها اليوم، هي ان هؤلاء المناضلين من أجل حرية الرأي- وبعضهم له ما يمكن أن يصنف ضمن الأدب المكشوف- بدأوا يستشعرون أن كل ما يكتب صالح لأن يوضع بين أيدي ابنائهم، وان يصّدر على رفوف مكتباتهم. وبمعنى آخر هم يقولون: الأدب الإباحي يجب أن ينشر، لكن أبناءنا يجب ان يبقوا في منأى عنه. مفارقة أم موقف عقلاني يستحق ان يؤخذ بعين الاعتبار، هذا ما يحاول ان يستشفه التحقيق التالي...

يعتبر بعض النقاد أن الجنس كأحد ركائز التابوهات الثلاثة في النتاج الأدبي العربي قد سقط في العقد الأخير، جراء شيوع هذا الموضوع في الأدب عموماً، والروائي منه خصوصاً. وفيما يشبه سرعة انتشار الكوليرا، صدرت في السنوات الأخيرة، عشرات الروايات العربية، التي هتكت تفاصيل التفاصيل التي كانت ممنوعة، وبجرأة غير مسبوقة، لتصيب طريق الأدب حيناً وتضل عنه في أحيان كثيرة. كل ذلك يتم بتشجيع سوق كل ممنوع فيها مرغوب ومطلوب، حتى أن أحد النقاد وصف ظاهرة التناول الاباحي في الروايات العربية الشبابية بـ"الجائحة" فيما وصفها صحافي آخر بـ "السعار"، ونالت هذه الظاهرة ما تستحقه وزيادة من النقد والانتقاد، ومن التصفيق والاستنكار. وقد اتفقت مجمل الآراء على أنها وسيلة اثبتت نجاعتها في تحقيق الشهرة السريعة، والمال الوفير، في أحيان كثيرة. إلا أن الآراء، رغم كل شيء ما زالت تختلف حول أصالة ما أضافته هذه الموجة، للحركة الأدبية العربية الحديثة.

متحررون لكن بحدود

الحيز الكبير الذي تشغله تلك الروايات الجريئة في ساحة النقاش الأدبي، يعطي انطباعاً بأن موضوع الجنس خرج بالفعل من دائرة المحظورات، لا بل قد يظن المتابع أن المجتمع الشرقي حل كل مشاكله، ولم تبق الا هذه المشكلة التي ينكب عليها المثقفون ليل نهار لحلحلتها وجعلها كأي موضوع آخر يناقش نهاراً جهاراً في الشارع والبيت والعمل. فهل هذا ما يحدث فعلاً؟ وهل الواقع على الورق كما هو على الأرض؟ وهل صار بإمكان المثقفين، المدافعين عن حرية التعبير بكل ما أوتوا من قوة، حمل كتب، ذاع صيتها على أنها تفضح المستور، إلى المنزل والمجاهرة بقراءتها داخل المؤسسة الأسرية دونما حرج أو حياء، بما أنه لم يعد هناك حياء في الأدب؟!

لا يبدو الأمر كذلك، والدليل أن معظم المثقفين الذين تحدثنا معهم في هذا التحقيق رفضوا الإفصاح عن أسمائهم الكاملة، لا لشيء وإنما لأن موقفهم من هذه المسألة ما زال ملتبساً، مثل الصحافية (هـ. د) التي قالت بوضوح، إنها تتحرج من حمل كتاب مثل "برهان العسل" لسلوى النعيمي، الصادر مؤخراً عن "دار رياض الريس" في بيروت، فهي تضعه في مكان متوار عن الأنظار، وما يجعلها مطمئنة أكثر هو أن ابناءها لا يقرأون باللغة العربية. أما لماذا تقرأ تلك الكتب فتقول (هـ.د) ان كثرة الكلام والنقاشات حول هذه الإصدارات تجبرها على شرائها، لمعرفة عما يتكلم المتكلمون. وفي النهاية لا يمكن لصحافي إلا ان يطلع على الغث والسمين.

سهيل وهو كاتب، رفض أيضاً ذكر اسمه كاملاً، كان له الموقف ذاته مع كتاب أحمد الشهاوي "وصايا في عشق النساء" الجزء الثاني الصادر حديثاً، إذ رأى أنه كتاب تحريضي، فيه إباحية، ويفضل بقاءه في مكتبه بعيداً عن المنزل، فلديه ابن مراهق، ومن غير المنطقي وضع هكذا كتب أمامه. أما لماذا، فيقول سهيل لأنه يخشى على ابنه من الصدمة، ويجب أولاً أن يمتلك درجة من الوعي والمعرفة تؤهله لقراءة هذا النوع من الكتب، إذ ان جسد المراهق ينمو أسرع من عقله ومن الصعب السيطرة عليه، لذا لا يجوز أن نعرضه لما قد يدفعه للانفلات. ويتابع سهيل، ما أزال اذكر وقع الصدمة علي في مراهقتي عندما قرأت في مكتبة والدي كتاب "ألف ليلة وليلة" طبعة بولاق. ثمة مشهد محفور بذاكرتي لا انساه، وأتمنى ان لا تتكرر الصدمة ذاتها مع ابني، فلا بأس من إطلاعه على كتب علمية جنسية تُكوّن لديه قاعدة معرفية صحية، ومن ثم تأتي الكتب الأخرى الأدبية وغيرها مما تحمل من تجارب ووجهات نظر تغني معارفه وتجنبه مضاعفات هزة نفسية، لا بد وان يتعرض لها. حيث يعتبر سهيل أن الكتب التي تحرك الغرائز لا يمكن تصنيفها ضمن الفن الأدبي، وبالتالي لا تستحق أن تعامل المعاملة نفسها، وإن كنا معنيين بالاطلاع عليها، فلا ينبغي أن نرميها لأولادنا.

النساء وضعهن أشد وطأة

ما زال الأدب، إذن، في مجتمعنا يكتسب مكانته الرفيعة من اسمه، ولغاية الآن ورغم موجة الرواية الواقعية، لم يتم تقبل "قلة الأدب"، بمعنى "قلة الحياء" في الرواية، خاصة في كتابات النساء. إذ لا يمكن الفصل بين الكاتبة ونصها، وتعامل الرواية، في الغالب،على أنها سيرة ذاتية، وهذا ما حدث مع غالبية الروائيات النساء الجريئات، من احلام مستغانمي وحتى رجاء الصانع، ومن قبل غادة السمان، ومؤخراً مع صدور كتاب سلوى النعيمي، كان السؤال الأبرز الذي اثاره كتابها: هل طلقت زوجها؟! فإذا كان هذا حال الوسط الثقافي النخبوي في تقبل التجرؤ على الجنس، فكيف تلام الأوساط الاجتماعية المحافظة في تحفظها، على مثل تلك الكتب؟

فادي قوشقجي، روائي لا يرى نفسه ملزماً بقراءة أي كتاب أدبي اعتمد المباشرة في طرحه لأي موضوع جنسي أو سواه من السياسة أو الدين.. إلخ. فالمعيار لديه هو التذوق الجمالي الأدبي، وبالتالي فإن أي كتاب يدخل مكتبته ويكون في متناول أولاده يجب أن يكون على سوية لغوية وأدبية راقية. أما الكتب ذات التناول الفج والمباشر واللغة المبتذلة، فلا يهتم بها. وبالنسبة إلى الكتب والروايات التي انتشرت وأحدثت صخباً كبيراً لجرأتها، فيقول انه لم يطلع عليها، وإنما قرأ عنها في الصحف، واطلع على اقتباسات منها ووجد في بعضها ابتذالاً وسوقية منفرة. أما مسألة الحرج تجاه افراد العائلة أو تبادل هذا النوع من الكتب مع الأصدقاء، فيقول فادي ان التلفزيون والانترنت موجودان في المنزل، ويحملان ما هو أكثر اباحية بكثير مما قد يأتي في مشاهد أدبية جريئة عابرة، لذا ليس لديه حظر على الموضوعات أياً كانت، وإنما لديه رقابة على السوية الإبداعية، والأدب لا يكون أدباً إذ افتقر للغة الراقية.

كتابات لا تقنع أصحابها

ربما تلك الكتابات لا تقنع حتى أصحابها، ولقد لوحظ في الآونة الأخيرة اتجاه كثيرين منهم نحو تأصيل أفكارهم باقتباسات من التراث، لمنحها شرعية اجتماعية ودينية، إلا أن القليل من تلك الكتابات اكتسب الشرعية كونها نأت عن الإبداع واستسهلت الاقتباس والتحوير، فلم تأت بجديد يذكر سوى تدوين ما يقال همساً في الجلسات الخاصة جداً. وهو ما وصفته سلوى النعيمي "بمجتمع التقية المعممة" والتي ارادت في كتابها "برهان العسل" فضح سترها. لكن ذلك ليس بالأمر الذي يسهل تقبله حتى لدى الأسر المنفتحة في مجتمعاتنا. وكثير من الكاتبات السعوديات اللواتي اصدرن روايات جريئة، لجأن الى التخفي وراء اسماء مستعارة.

مارية معلمة وأم لثلاثة أطفال، ومع أنها ابنة اسرة منفتحة نشأت في أميركا إلا أن موضوع الجنس ما زال يحرجها، فهي تبحث لأطفالها دائماً عن وسائل وكتب علمية تمدهم بالمعلومات التي تشكل لديهم أساسا معرفيا سليما يحميهم من ثقافة رديئة مشوهة لا بد وان يتعرضوا لها، لذا فإن الكتب التي تتوسل الجنس بغية الشيوع والانتشار السريع لا تجد طريقها إلى مكتبتها. وهي لا تنسى أبداً كيف عثرت قبل تفتح مراهقتها على عدد من مجلة "بلاي بوي" في مكتبة والدها، وكيف راحت تقارن بين الصور وجسدها، ووقوفها الطويل أمام المرآة، وهي تتساءل، هل كل النساء هكذا؟

تقول مارية، ان الصدمة هزتها بعنف لأنها لم تكن تملك أي معلومة عما شاهدته في الصور. وتشير الى مفارقة طريفة وهي أن والدها وهو أستاذ جامعي مرموق كان يتباهى امام اصدقائه، بانفتاحه الفكري بدليل احتواء مكتبته على جميع صنوف الكتب والمجلات من الـ"بلاي بوي" الى كتب الدين المتزمتة، إلا انه ورغم هذا التباهي كان يقصي المجلات والكتب الإباحية عن مرمى البصر. ومارية تتصرف اليوم على النحو ذاته ليس من باب المنع أو الحظر، وإنما من باب ترشيد التعاطي مع هذا الموضوع الحساس والدقيق لاتصاله بالمشاعر والأحاسيس أكثر من اتصاله بالعقل.

روايات للرجال فقط

ثائر دوري طبيب وكاتب يتمتع بثقافة واسعة، ولا يوفر كتاباً صدر حديثاً إلا ويتتبعه، يحكي عن تجربته الشخصية مع أن أخوته يشاركونه الاهتمام الثقافي. لكن ثائر دوري وجد حرجاً كبيراً في إطلاع أخته المحامية على رواية "شيكاجو" لعلاء الأسواني، رغم اعجابه بالرواية إلا أن ثمة فصلا وصفه بأنه خصص للاستعراض الجنسي، فقد كان مقحماً وفجاً بطريقة غير مقبولة جعلته يخجل من إعارتها لأي شخص آخر، خاصة وأنه سبق وتعرض لموقف شبيه مع صديقة وزميلة طبيبة طلبت منه رواية لإيزابيل اللينيدي وكانت حافلة بالمشاهد المكشوفة، فكان أن ردت الرواية اليه بسرعة قبل إتمامها، ولم تقبل أن تعلق عليها ولو بحرف واحد. ويشير ثائر إلى أن موضوع الجنس في الرواية العربية، هو جزء من موضة عالمية درجت تحت تأثير الإعلام. فكل فترة تظهر موضة تلاحق موضوعاً معيناً، ففي منتصف التسعينيات شاع موضوع الشذوذ وتم تعميم مصطلح المثليين، لأن الشواذ فيه حكم قيمة. وتحت هذا العنوان أنتجت هوليوود عشرات الأفلام عن المثليين، كما تناولته عشرات الروايات، وارتبط بسياسة معينة في أميركا لدى تسلم بيل كلينتون رئاسة الولايات المتحدة الأميركية. المشكلة أن العرب يقلدون تلك الموضات في حركة تنطوي بشكل ما على كثير من التخريب النفساني والابداعي، كونها تأتي تحت تأثير الدعاية والإعلام ولا تنطلق من واقعها الموضوعي ولا تراعي حساسية مجتمعها، هذا بالإضافة إلى أن إفلاس اليسار العربي دفع باتجاه افتعال قضايا وهمية منها موضوع التحرر الجنسي.

في حين أن المحلل والكاتب السياسي فايز سارة، يرى أن موجة الرواية "الفضائحية" مثلها مثل أي موجات أخرى تطرأ ولا تعكس اي اتجاه فكري. ويذكّر سارة بموضة الرواية التاريخية والفنتازية، وكذلك الروايات التي تناولت قضية فلسطين أو حرب لبنان، واليوم بالكاد نتذكر رواية من عشرات الروايات التي تناولت حرب لبنان على سبيل المثال. وهو لا يجد في ذلك أمراً سلبياً كونه يندرج في إطار التجريب والمحاولة لفتح أبواب الحوار حول المسكوت عنه ومناقشتها علناً. أما إذا كان قد اطلع على بعض مما كتب في تلك الموضوعات، فيقول سارة انه لم يطلع عليها، حتى أنه أرسل لصديق خارج سوريا رواية "بنات الرياض" الممنوعة في بلده، دون التفكير حتى في تقليب صفحاتها، رغم كل الضجيج الذي أثير حولها، كونه لا يتعاطى مع هذه الكتب بخصوصية، ويعتبرها كغيرها من الكتب قد توجد في منزله حيث لا محظورات لديه.

استفزازية وإسفاف مع قلة احترام

الروائي فواز حداد يفضل أن يضع الكتب الأدبية التي تتناول الجنس بشكل فج أو استعراضي في مكان متوار في مكتبه، ليس كي لا تقع بيد أحد أبنائه، بل كي لا تقع عينه هو عليها. إنها بمعنى ما استفزازية، تقارب حقائق الحياة بطريقة مسفة دونما مسؤولية ولا احترام، وتحولها بتصنعها وتهويلاتها إلى أكاذيب الحياة. ويضيف حداد "هذا النوع من الكتب ليس جديداً على المكتبة العربية، لكنها تحتاج الى إعادة تأسيس للعلاقة معها. أجدادنا كانوا يضعون كتب الباه وغيرها في مكان بعيد عن الأنظار ليس احتشاماً، وإنما كي لا يساء فهمها، كانوا يفهمونها ويستخفون بها، ويتعاملون معها كطرفة مستملحة. عموماً ليس صحيحاً أن هذه الموضوعات متاحة في الغرب دون قيود، وهي تختلف من مجتمع لآخر ومن عائلة لأخرى كل حسب قيمه وأفكاره، ولديهم مثلنا محظورات وحياء اجتماعي، وإن كان الخجل في المجتمعات الشرقية ما زال يلعب الدور الرئيس في التعامل مع هذه الموضوعات سواء في الأدب إو في الميدان العام، فذلك لأن تربيتنا غير منفلتة، هناك معايير وإن كانت غير واضحة. لكن الجنس بحد ذاته ليس محظوراً ولا مداناً، وإنما المستهجن والممقوت بعض الروايات والكتب المهمومة باستغلال الغرائز وتصوير الواقع بشكل مشوه، فيظهر البطل كفحل هائج والبطلة مثل بركان متفجر. هذا النتاج يجب التعامل معه بحذر، رغم ضرورة الاطلاع عليه لمعرفة ماذا يجري والى أين يسير الأدب، وما علاقته بالإبداع".

تلك الآراء تشير بشكل ما الى أن موجة أو موضة الجرأة وإسقاط تابو الجنس، وما رافقها من جدل للدعاية نصيب كبير فيه، ليست أكثر من رغوة صابون لا تخفي ولا تكتم رائحة مستنقع ثقافي يصعب على المؤسسة الاجتماعية أن تترك الصغار يسبحون فيه، حتى لو كان آباؤهم من فحول الكتابات التحررية. وما زال الكثيرون يستذكرون بكثير من الدهشة مقالة للروائي السوري الكبير حنا مينة، المعروف برواياته الجريئة، انتقد فيها بشدة روائية شابة لأنها وصفت تفاصيل إباحية، وكاد الرجل يسمها بالعهر رغم نيلها جائزة حنا مينة للرواية الشابة.