جاء عنوان هذا الكتاب "ما بين الكاتب العادي وأسامة أنور عكاشة" ليقيس البون الشاسع بين التقليد والإبداع، فبالإضافة الى الشرح النقدي الدقيق لأعمال عكاشة التلفزيونية وتفكيك أعمدتها وشرح أسباب تميزها وتفوقها، يتساءل المؤلف ما إذا كان هذا الحدث أو ذاك قد وقع تحت مؤلف "عادي أو تقليدي" كيف سيتصرف معه؟
قدم المؤلف استعراضاً دقيقاً ومستفيضاً للجوانب الدرامية والفنية في أعمال عكاشة، كل على حدة دون التقيد بالتسلسل التاريخي لتلك الأعمال، وخرج بما يتميز به أسامة في كل أعماله التلفزيونية وهي حسب رأيه: العناية بسائر أدواته ككاتب، أحداث غير متوقعة، إتقان الحوار الذي يصل الى مستويات شاعرية عذبة، اختيار أسماء لأبطاله بعيدة عن القاموس اليومي الشائع وكذا أسماء المواقع والبلاد وعناوين الأعمال، التتبع الدقيق لنوازع الشخصيات وعدم دق أسافين فاصلة بين الخير والشر في نفوس أبطاله، كشف مسارب النفس والمجتمع والحياة، وعدم وضع نهايات حاسمة بل مفتوحة التأويل، كما في مسلسلي "أبو العلا البشري والراية البيضاء"، بالإضافة إلى الحبكات المتصاعدة، والقصص الجانبية المثيرة، وقوة الخاتمة ولا يهم إن كانت سعيدة أم لا.
إلى هذه العوامل المهمة، يضيف المؤلف اختيار مخرج قدير هو محمد فاضل، الذي، حسب رأيه، يشكل علامة فارقة في تاريخ الدراما التلفزيونية، بل صاحب "مدرسة خاصة" في الإخراج، ولا ينسى كذلك المخرج إسماعيل عبد الحافظ صاحب أشهر عملين لعكاشة "الشهد والدموع" و"ليالي الحلمية"، ثم، أخيراً، عملية اختيار الممثلين التي يقوم بها عكاشة بنفسه فهو يعمد الى إخراج الممثلين من قوالبهم المعروفة بل ويقلبها رأسا على عقب فتكون في حد ذاتها إحدى مفاجآت عكاشة.
من هنا علقت أعماله الدرامية بذاكرة المشاهدين بل واشتهر معظم الفنانين بأسماء أعمال جسدت شخصيات عكاشة كصفية العمري "نازك السلحدار"، محمود مرسي "أبو العلا البشري" وصقر في "عصفور النار"، سناء جميل "فضة المعداوي"، نوال أبو الفتوح" دولت هانم"، عفاف شعيب "زينب"، فاتن حمامة "أبلة حكمت"، فردوس عبد الحميد "حورية" وعبد الله محمود "الحسيني" ويوسف شعبان "حافظ" ويحيى الفخراني "سليم البدري" وغيرهم.
استطاع عكاشة، كما يقول المؤلف، أن يجمع في أعماله بين البساطة الآسرة للسواد الأعظم من الناس والعمق اللافت للخاصة منهم، فالعدالة هي هاجسه كما صرح في لقاء تلفزيوني معه، أي إنصاف الضعيف من جور القوي.
يمضي المؤلف شارحا الأعمدة الثابتة التي تقف عليها أعمال عكاشة وأولها أن المرأة في معظم أعماله تشغل البطولة الرائدة وأحيانا البطولة المطلقة، وإذا لم يكن لها دور البطولة فهي زوجة مؤثرة وابنة مؤثرة وأخت مؤثرة بل وراقصة مؤثرة. وفي مسلسل "ضمير أبلة حكمت" يرى المؤلف أن عكاشة نجح في سبر أغوار الشخصيات التي هي في أغلبها الساحق نساء وتناول مشاكل المرأة وهمومها، رغم أن المسلسل أراد أن يتناول مشكلة التعليم الملحة.
كذلك يهتم عكاشة بالعائلة وتفرعاتها ووشائج القربى المعقدة كما في "ليالي الحلمية" و"النوة"، لتصل الى الجار والجارة بل والحارة وأهلها وتأثيرهم على العائلة، فتلقي الحارة بأبعاد فكرية على العمل الدرامي، فيما يتجاهلها معظم الكتّاب التقليديين.
ومن تقنيات عكاشة المفضلة استخدامه لطريقة إخفاء أو تغييب أبطاله أو بعض الأشياء لفترة، متراوحاً في مسببات الإخفاء وأشكاله، ولكنه ثابت في كونه باعثاً على الإثارة، مما يجعل المشاهدين تائقين الى اللحظة التي يتبدى فيها الشخص المختفي أو الشيء المدسوس، كما يحتفظ ايضا بمفاجأة مؤكدة التحقق، يمثل لها بشخصية اعتبارية غائبة يجعل أوان ظهورها مباغتا على نحو شديد التشويق، كما حصل مع طاهر قبطان في "النوة"، وصلاح أبو رحاب في "ضمير أبلة حكمت".
ولا يتورع عكاشة عن الجمع بين حدثين يبدوان متناقضين في آن واحد، فأعماله الدرامية تتيح التعدد الواسع في الشخصيات، وتوفر المساحة التعبيرية التي يبيحها الكاتب لكل شخصية، كما في حالة سيد زيان في "الراية البيضا"، ومحمد متولي في "ليالي الحلمية" ورجاء حسين في "الشهد والدموع" وأحمد آدم في "النوة"، وأنور إسماعيل في "عصفور النار"، مع حرصه على إبراز أبعاد الشخصيات الثانوية.
يحتل الخدم كذلك في دراما عكاشة مكانة لافتة، فهم ليسوا «عبده، إدريس وعثمان» النوبيين بجلابيبهم البيضاء والأحزمة الحمراء كما عند الكتاب التقليديين، وليسوا إكسسوارات جامدة، بل هم عناصر مكملة للصورة الإنسانية في القصة، ولهم مشاركة فاعلة في صياغة الحياة المنزلية، وفي الحرص على تماسك عائلة ماثلة للتفكك كما في «النوة»، و«عصفور النار»، و«الراية البيضا»، أو هم في موقع متوار يعبث بخيوطه في الخفاء، ومثال ذلك "الشهد والدموع"، بالإضافة إلى تفاصيل حياتهم هم أنفسهم.
ويتناول المؤلف الحوار في أعمال عكاشة قائلا: « إن الدراما الجيدة تقوم على حذف الأزمنة الضعيفة لحياة الشخوص والأحداث، كذلك الجمل الضعيفة بحيث تستبقي الخلاصة الداعية الى لفت الانتباه، والعمل الفني هو تكثيف للحياة التي يريد أن يمثّل لها من الواقع، لذا يشحن عكاشة الحوار بحميمية حارّة كفيلة بأن تجعل المشاهد يضحك ويدهش ويعبس وينكر ويأسى ويستفز، هكذا يغدو الحوار مشوّقا لأن وظيفة الكاتب أن يستخلص لأبطاله أقصى حدود البلاغة الممكن التماسها عند اضرابهم في الحياة».
ويتتبع المؤلف مراحل التطور عند عكاشة، ففي بداية أعماله كـ «الشهد والدموع» و«الأبرياء» كانت هناك خطابية زاعقة وخير محض وشر محض، كما كانت لديه تلك النظرة التقليدية للطبقة الأرستقراطية، إلا أنه في الفترة اللاحقة، اهتم دائما بتضمين عمله بشخصية أرستقراطية نبيلة نظيفة لتؤكد موقفه الشخصي غير المنحاز لطبقة ضد أخرى، كما في «ليالي الحلمية»، «الراية البيضا»، "الحب وأشياء أخري" و«أرابيسك».