تعلّم كيف تفكر من خلال الفن

حين يكون السؤال ذريعة لاستعادة الأبناء الهاربين

TT

«أريد أن أرى ما هذا» عنوان غريب لمعرض فيه الكثير من الحنان والعاطفة الممزوجين بالتفاخر. ليس من تناقض، فـ«لوند» كبرى المدن الجامعية في الجنوب السويدي ارادت من خلال هذا المعرض المهم أن يستعيد الجنوب الفنانين من ابنائه ليستعرضوا في قاعتها الفنية «كونست هال» أفكارهم عن الفن واسئلتهم الوجودية المعقدة والشائكة. وهي افكار وأسئلة يمتزج فيها المرح بعمق التفكير بمعنى وضآلة الوجود الانساني وعبثه أحيانا؟ تعلم كيف تفكر من خلال الفن، هو الغرض الأساس من هذه الأعمال المثيرة والمعروضة طوال الصيف.

العنوان الغريب تمت استعارته من (نص بصري)، قدمته الفنانة أنيكا ستروم التي يشترك في المعرض الى جانبها تسعة من الفنانين والفنانات الذين إما انهم ولدوا في «سكونه» أو أنهم درسوا هناك أو أنهم لا يزالون يعملون في تلك المقاطعة الجنوبية، وهم: ماتس اندرسون، الاكسندر غوتكه، فيكتور كوب، رونه لاغومارسينو، ايفا لارسون، أنا لينغ، سيروس نامازي، استريد سفان غرين، صوفيا توتيا. ولكن فكرة المعرض، لا تتوقف عند عتبة الانتماء الى الجنوب كثيرا، ذلك لان هذا المعرض سيكون ملهاة الصيف الذي بدأ مبكرا وساخنا، بكل ما يعنيه الصيف هنا من محاولة لالتقاط كل ما يهب أوقات الفراغ والتسلية معنى مزاحا. في العنوان ما يثير الفضول، وغريزة التعرف والاكتشاف، ولكن اسماء المشاركات والمشاركين فيه هي الأخرى تهب المواطن العادي نوعا من الغرور والشعور بالفخر. فهي تشير بدرجات متباينة الى المشاركة السويدية في صنع الاحداث الفنية في عالمنا المعاصر، وبالتحديد في اتجاه «ما بعد الحداثة». أسماء حققت وجودا عالميا، لا على مستوى العرض في البينالات العالمية ذائعة الصيت مثل «بينالي فينيسيا»، وحسب، بل وأيضا على مستوى احتضان القاعات الفنية الكبرى في نيويورك وباريس وبرلين لتجاربها الفنية. واللافت أن هناك غير فنان من بين المشاركين ليس سويديا إلا من جهة الاوراق الثبوتية التي تعرف به. غير أن في امكان الهوية الثقافية وقد صارت معيارا أن تقدم مواطنته في أنصع صورها وأكثرها بهاء. وفي سيرة (سيروس نامازي) مثال بارز على ذلك.

نامازي هذا فنان من أصل ايراني، ولد في بلده الاصلي عام (1970)، وفي الثالثة عشرة من عمره جاء الى السويد مع عائلته لاجئا. درس الفن هنا، غير أنه وبسبب عمل واحد من أعماله صار واحدا من أهم الفنانين في السويد. قد يكون هذا التحول قد جرى بسبب ضربة حظ، ربما. غير أنه الحظ الذي وجد له رصيدا في العقل السياسي الذي يدير بلدا يهمه أن يكون متعدد الاعراق والاديان والثقافات. ولكن ما شكل ذلك العمل الفني الذي اطلق شهرة نامازي؟ وما هي فكرته؟ في حقيقته فقد كان ذلك العمل مجرد استعارة: شرفة مبنية بالآجر وقد نصب في أحد أطرافها صحن لاقط. شرفة يراها المرء في كل المدن السويدية، بل انها غزت الان حتى البلدات الصغيرة، وهي تشير الى وجود أجنبي. وفي هذه الاشارة يقع كل معنى الاهتمام السويدي بنامازي. لقد قدم هذا الفنان للسويديين خلاصة بصرية عن فكرتهم عن الاخر الذي يقاسمهم حق المواطنة وواجباتها. ذلك الآخر الذي يقيم في بعد ثقافي مختلف، صارت التقنيات تيسر اتصاله به ولو عن طريق الصورة. هذا العمل الفني الذي رأيته اول مرة قبل ثلاث سنوات في متحف ستوكهولم (الذي يضم أعمالا لكبار فناني الحداثة في القرن العشرين) لم يترك في أعماقي أي أثر يذكر، غير أنه بالنسبة لنقاد الفن هنا حدث لا يمكن التغاضي عنه، لقد صار جزءاً من الذاكرة الفنية. هناك ما لا أفهمه فعلا في هذا الارتجال النقدي الما بعد حداثوي، ذلك لان الفكرة صارت مقدسة فيما تراجعت حساسية الجمال، حتى يخيل لي أنهم صاروا يعتبرون العين مختبرا ذهنيا ليس إلا. ولكن معرض «لوند» يضم اعمالا لفنانين في امكانها أن تعوضنا الجفاف الذي تعرضنا اليه الأفكار وحدها.

في كل أعماله يستفهم الاكسندر غوتكه عن شكل القمر. وهو في ذلك انما يستذكر وقائع رواية سويدية بطيئة وممتعة تحمل عنوان «القمر لا يعرف». بصريا نرى في أعماله «القمر حاضرا على الجدار» غير أننا في الوقت نفسه نشهد عمليات استحضار ذلك القمر تقنيا. اما استريد سفان غرين، فانها ترسم باسلوب تجريدي مرح، وعن طريق خفتها تذهب بالتجريد الى اسئلته الحرجة: هل هناك ما ينبغي انتظاره فعلا، وبالاخص ما تحتاج اليه ذائقتنا الجمالية؟ هناك في لوحاتها ما يقنع بانه لا يزال في عالم اللامرئي ما يمكن أن يشكل خزانة للنظر. اما رسامة الغرافيك أنا لينغ، فانها تعدنا بأكثر مما نراه في رسومها. فهي إذ تهبنا فرصة متأنية للذهاب الى الطبيعة فانها تدعونا في الوقت ذاته الى التفكير بالطبيعة، بصفتها مشهدا خياليا لم يتشكل بعد. في كل الاعمال الفنية التي يضمها هذا المعرض هناك تحريض على التفكير عن طريق الفن. وهي فكرة جمالية غير أنها في الوقت نفسه فكرة تربوية. لقد فكر منظمو المعرض بصيف طويل يمتد حتى منتصف أغسطس (آب)، وهو ما يمكن أن يشكل ذريعة لزيارة معرض يحث على التفكير، بمعنى للحياة لا يزال خفيا. ومن خلاله يمكن للمرء أن يتعرف على الشيء الذي هو جواب على سؤال شاسع: ما هذا؟