ثياب البحر تشعل معركة بين العلمانيين والإسلاميين في اسطنبول

اجتهادات شرعية في ظل حسابات انتخابية

TT

كل تفصيل بات صالحاً لتدور حوله معركة جديدة بين العلمانيين والإسلاميين في تركيا، من تعليق الإعلانات إلى حضور المسرحيات، وصولاً إلى تنظيم العمل داخل الفنادق الفارهة، معركة لها ظاهرها والباطن، وهي تخفت وتقوى، لكن متعتها هي في المبررات التي يقدمها كل طرف لمواجهة الآخر، لا ليقنعه بل ليراوغه، وهنا طرافة اللعبة. ومع دخول موسم الصيف، فإن فصلاً جديداً من فصول هذا المسلسل يعود للظهور، والموضوع هذه المرة هو ثياب البحر، حيث يدور النقاش على وقع صخب الانتخابات وفي حماها.

صيف تركيا، كما هو معروف، له علاقة مباشرة بموسم السياحة التي تدر على هذا البلد اكثر من 20 مليار دولار في العام الواحد. والسياحة في تركيا تعني توجه الناس إلى المناطق الجبلية الواقعة على البحر الاسود، المعروف عنها مناخها المشابه لجبال لبنان ومراكز الاصطياف فيه. وهي الاماكن التي اكتشفها الكثير من العائلات الخليجية لتكون بديلا تحت الطلب وعند الضرورة. كما تعني السياحة ايضا، البحر والشمس والرمال بالنسبة للغالبية التركية والاوروبية التي تقصد مناطق بحري ايجه والمتوسط في غرب وجنوب تركيا. وتقول الاحصاءات مثلا ان نسبة 65 بالمئة من الاتراك يفضلون السواحل والبحر على الغابات والمناطق الجبلية، يحملون ما خف وزنه وقضى الحاجة خلال موسم الصيف المميز بطيلة ايامه في مثل تلك الاماكن.

منذ وصول حزب العدالة والتنمية التركي الى السلطة في تركيا، تراقبه الصحافة العلمانية المتشددة وتطارده بصرامة، في محاولة لاظهار اقل هفوة او خطأ فني يقع فيه. وهذا ما حدث فعلا مع بلدية اسطنبول، حيث كما يقول المثل العربي المعروف "غلطة الشاطر بألف"، تتحول الى هدف منذ سنوات. وكلما اقترب الموسم السياحي تحديدا، تشن ضد البلدية حملة اعلامية واسعة بسبب رفضها نشر وتعليق صور واعلانات عارضات الازياء بالملابس البحرية في بعض الاماكن والاحياء من مدينة اسطنبول، لتعارضها مع المثل والقيم الاخلاقية والاجتماعية في اوساط المجتمع التركي.

ورغم ان بلدية اسطنبول ترفض مباشرة مثل هذه الاتهامات، وتقول ان لوحاتها الدعائية جاهزة دائما للراغبين في الاستفادة منها، دون تمييز او تدخل في تحديد المادة الاعلانية واختيارها، فانه في الطرف المقابل، يقف اصحاب اهم المؤسسات التركية والعالمية العاملة في هذا الحقل، جنبا الى جنب، مع شركات الدعاية والاعلان، للتذكير ان طلباتها في السنوات الخمس الاخيرة، كانت تتعرض للاهمال او التعامل البطيء معها، وان الاجوبة والردود كانت تصل في بعض الاحيان بعد انتهاء موسم الصيف، وعلى ابواب الخريف تقريبا.

بإيجاز، فإن بلدية اسطنبول في معرض دفاعها عن مواقفها، كانت تلجأ دائما الى حجة الاثارة التي تتسبب بها مثل هذه الاعلانات، والتي تخرج عن هدفها في عرض السلع والترويج لها، وتتحول الى مسألة تعرٍ اكثر من ان تكون مجرد تعريف وتسويق لمايوهات البحر. وهي تقول انها من هذا المنطلق حظرت تعليق بعض هذه الاعلانات في صالونات مطار اسطنبول وقاعات الانتظار فيه، قبل عامين حيث تداخل الموسم السياحي وايام الحج، وطالب مئات الحجاج برفع هذه الصور بسبب ما تسبب لهم من ازعاج وانفعال.

في مرحلة لاحقة كانت ذريعة البعض في البلدية ان مثل هذه الصور التي بالغت في التعريف بموادها التسويقية، تسببت في وقوع بعض حوادث السير لانها تشد انتباه السائقين وتبعد انظارهم عن الطريق، شاردين وراء صور الحسان، اكثر من ان يكون هدفهم المايوه والماركة. اما الحجة الاخيرة فكانت حول ان اصحاب الشركات المعلنة لا يدفعون المستحقات المتوجبة عليهم، وكأنما البلدية هنا، تحاول افتعال ازمة لجر الانتباه نحو موضوع اخر لا علاقة له بالحظر.

الطرف المقابل قال انها ليست المرة الاولى التي يدور فيها نقاش بين العلمانيين والمحافظين الاسلاميين حول مثل هذه المسائل. فقبل ثلاثة اعوام تقريبا، حاولت بلديات محسوبة على العدالة، تلوين بعض المناطق في اسطنبول، في محاولة لحصر بيع وشرب الكحول، لكنها محاولة باءت بالفشل بسبب ردة الفعل التي نفذها بعض العلمانيين المتشددين في المدينة. كما جرت محاولة اخرى من خلال حظر دخول من هم تحت سن السادسة عشرة لمشاهدة بعض الاعمال المسرحية، وهي محاولة سرعان ما فشلت ايضا. لكن اهم ورقة يحاول انصار العلمانية في تركيا تقديمها في مواجهة خصومهم السياسيين، هي التذكير بتزايد عدد فنادق الخمسة نجوم بشكل ملحوظ خلال السنوات الاربع الاخيرة في تركيا، التي تقدم خدماتها على الطريقة الاسلامية الشرعية، اي الفصل بين النساء والرجال في بعض الاماكن داخل الفندق مثل المسابح والبلاجات وصالونات الرياضة وحصر الاختلاط في المطاعم والمقاهي.

المواجهة قديمة في الاساس، وكانت تجري في الخفاء وتحت الطاولة في اغلب الاحيان، لكنها في السنوات الخمس الاخيرة، ظهرت الى العلن وباتت تتعقد وتتأزم بسبب تصلب المواقف والاراء والحجج والذرائع المقدمة التي استحقت ان تحتل مساحات كبيرة في الصحافة اليومية التي انقسمت كعادتها في التعامل مع هذه المسائل بين علماني متشدد واسلامي محافظ. باختصار، هي مواجهة كما يرى البعض، لها علاقة مباشرة بمحاولات ابراز مفاتن المرأة، والإفراط في الاستفزاز والاثارة على حساب الحرية الشخصية واحترام الحد الادنى من التقاليد والعادات في المجتمع التركي، حيث يستهجن بعض المتدينين الاتراك هذه الطريقة في التعري في الاماكن العامة، حتى ولو كان ذلك عبر صور دعائية لمايوهات اخر موضة. الطرف الاخر قال ان ما يجري هو جزء من حملات تنامي النزعة الاسلامية، وان الاعلام التركي، مع الاسف، بدل ان يأخذ موقع الحكم، والوسيط المهدئ، يصب الزيت على النار، في اكثر الاحيان.

تاريخ المايوهات وملابس البحر مليء بالخضات والصعود والنزول، ليس في تركيا وحدها، بل في اكثر الدول الغربية انفتاحاً، حيث شهدت تلك البلدان مواجهات مماثلة بين العلمانيين والمحافظين، كانت تحسم في اغلبها لصالح الطرف الاول. وهذا ما حدث في اسطنبول ايضا، حيث عقد الطرفان هدنة هذا العام، بعدما سمحت البلدية بتعليق هذه الاعلانات، رغم ان البعض يرد اسباب التراجع الى اقتراب موعد الانتخابات النيابية العامة، حيث لا يريد حزب العدالة والتنمية الدخول في سجال حول هذا الموضوع، يفقده بعض النقاط والاف الاصوات.

حزب العدالة بايجاز، حاول ادارة الازمة على طريقة ضربة على الحافر واخرى على المسمار، حتى "لا يقتل الديب ولا يفنى الغنم". ورغم اعتراضات الصحافية التركية، غولاي غوك تورك التي اصرت على ان ما يدور له علاقة مباشرة بحرب الرموز في تركيا، فاننا نرى ان تركيا تظل دائما حالة اقليمية خاصة تعالج مسائلها بطريقتها المميزة. فكما انه لن يكون سهلا رفع صور الترويج لمايوهات عام 2007 في قلب حي فاتح الاسلامي في اسطنبول، فهو لم يكن صعبا ابدا اقناع المسافرين عبر مطارات اسطنبول الدولية ان وجود هذه الصور، هو أمر لا يهدد مسألة حجهم الى الاراضي المقدسة.