في خمسينيته.. بيروت تتذكر مصطفى فروخ رساما وتنساه كاتبا

«طريقي إلى الفن».. انتظر ثلاثين سنة في الأدراج

TT

إثر عودة مصطفى فروخ (1900 ـ 1957) من رحلته الدراسية في روما وباريس، عام 1927، نوهت معظم الدوريات البيروتية بنبوغه ورسومه. ولكن صاحب جريدة «الراية» يوسف السودا طلب من فروخ الكتابة عن نفسه بدلاً من ان يكتب احد المحررين عنه. اما لماذا، فلأن الأخير كاتب بقدر ما هو رسام. يقول السودا في المقدمة التي توج بها ما كتبه فروخ: «لم يبق أثر للمغول والتتر، بينما أثينا وروما خالدتان بالشعراء والخطباء والنحاتين والمصورين الذين اخرجهم الى العالم وطن شيشرون وهوميروس». وقصد انه اذا كان لبيروت نصيب من الخلود، فالفضل لمبدعين امثال مصطفى فروخ، لا للاحتلال الفرنسي الذي كان موجوداً عام 1928. وبعد خمسين عاماً على رحيله، احتفل البيروتيون، هذه السنة في الجامعة الاميركية ـ اللبنانية بيوبيله الذهبي، كما يحتفل اهل اثينا وروما بشيشرون وهوميروس. وتمحور الاحتفال على فروخ الرسام. ولكن ابا هاني كان ايضاً اديباً غزير الانتاج، ولم تخل كتاباته من اللمعات والقفشات. لذلك، ليكن احتفال «المنتدى الثقافي» شاملاً بفروخ، وعبر بعض مقالاته المهمة والمجهولة اضافة الى كتبه. ولنبدأ بسيرة فروخ الفنية، كما رواها في جريدة «الراية البيروتية».

قال «الاديب فروخ» عن «الفنان فروخ» في مستهل النص المجهول: «نشأت وعندي نزوع فطري للتصوير. أدخلني والدي الى مكتب بسيط بالقرب من دارنا. كان ـ مدير المكتب ـ الشيخ جمعة عبوساً لا تعرف الابتسامة ثغره. كان يسرّ من حسن خطي ويقربني منه ويسامحني عما أرسمه على جدران المكتب وعلى الكتب». اضاف: «ثم دخلت مدرسة دار السلام وكنت تركت الرسم في هذه المدة وقد منعني بعضهم بحجة ان على المصور ان يجعل روحاً لرسوم الاشخاص التي يعملها. وصدف ان كلفت مرة عند تفريق الجوائز بإلقاء كلمة. وعند الانتهاء ناداني الاستاذ مصطفى الغلاييني وأخذ يسألني عن احوالي في التصوير، فأخبرته عن سبب تركه، فضحك كثيراً ثم قال: ارجع لمزاولة التصوير وانا اتعهد لك بجعل ارواح للرسوم». والجدير ذكره ان الغلاييني شيخ معمم. اما مدير المدرسة طاهر تنير، فلم يكتف بما فعله الشيخ الغلاييني، بل هو قدمه الى الرسامة الالمانية، جول ليند، التي كانت تقيم في رأس بيروت. وحين رأت بعض رسومه «سرت جداً ودعته الى التردد على محترفها». وفي تلك الفترة، انتمى فروخ الى الحركة الكشفية التي كان استاذه طاهر تنير احد مسؤوليها. ولما كان الاخير يصدر مجلة «المصور» ويطبعها في «المطبعة العثمانية» لصاحبها الصحافي كمال عباس، فقد اصاب الفتى فروخ (13 سنة) عدة عصافير جميلة بوردة واحدة. كان يزود المجلة بالرسوم ويتردد الى المطبعة. أعجب كمال عباس بالرسام الواعد، فقدمه الى والده الشيخ احمد عباس الازهري الذي شارك ابنه الاعجاب بمصطفى، وفتح له ابواب «الكلية العثمانية» لإكمال دروسه. وداخل حرم كلية الشيخ احمد، رسم مصطفى «الاساتذة وقت الدرس بحالات مختلفة، وكذلك الطلاب عند القصاص او اللعب». وانقسم الطلاب حول أحد رسومه بين معجب ورافض، «فاقترحوا تحكيم الخواجه حبيب سرور». ويقول فروخ الذي يعتبر الرسام سرور استاذه في الفن التشكيلي: «رأى الاستاذ الصورة. ثم سأل عن المصور، فأشاروا اليّ. فكانت دهشته عظيمة لرؤيته ولداً لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره. فهنأني، وطلب مني ان اتردد الى معمله وقت الفراغ. وكنت قد خصصت بعض اوقاتي للتردد الى المدرسة الايطالية لدرس لغتها عملاً بنصيحة الاستاذ سرور. وعندما حصلت على شهادتها وتحققت من نفسي المقدرة على القيام بأعباء هذه المهمة، الصعبة، تركت بيروت قاصداً عاصمة الفن في 15 سبتمبر/ ايلول 1924». وختم الأديب فروخ سيرته الفنية بالقول: «نلت الدبلوم من الجامعة، وشهادة مدرسة الزخرفة ذات الدرجة الاولى مع الجائزة الممتازة، وأضفت اليهما شهادة من الاستاذ الذي اشتغلت معه مدة وجودي. ثم طفقت راجعاً الى وطني رافضاً طلب الاستاذ بالبقاء في روما مع ضمانه لي الكسب الكافي مؤثراً العمل في حقل الوطنية».

وروى لي صديق فروخ الشاعر محمد يوسف حمود كيف ان ابناء المحلة التي كان يسكن فيها الرسام كانوا يطلقون عليه لقب «الدهان». واضاف ان اخوين من عائلة ثرية كانا على وشك الزواج، وطلبا منه استكمالاً لديكور منزليهما، لوحتين «على ذوقه». وعندما تسلما اللوحتين، سألاه عن سعرهما، فأجاب: عشر ليرات للوحة الواحدة. وصاحا مستنكرين مستغربين: عشر ليرات؟ كم كيلوغراما من البويا استعملت؟ وطار صوابه. ومزق اللوحتين وطردهما. واستدرك حمود ليقول ان بعض الحوادث كانت تضحك صديقه النحيل الجسم والعصبي، بدلاً من ان ترفع ضغطه وتدفعه الى تمزيق لوحاته. فقد اوصاه مرة شاب ثري على لوحة. وحين سأله فروخ: أتريدها بالماء ام بالزيت؟ فأجاب بسرعة: بل بسمن حموي باب اول!

طبعاً، لم تدفع هذه التصرفات المضحكة المبكية الى ندم فروخ على عدم قبول عرض استاذه الطلياني، وسعيه الى الهجرة. لعل موهبته الكتابية ساعدته على «الاغتراب» داخل وطنه، اذ شكلت مقالاته ومذكراته متنفساً و«فشة خلق». وعلى سبيل المثال، يقول فروخ في كتابه «طريقي الى الفن»: «عندما كنت أدرّس في اوروبا، كنت أرسل بواسطة اخي عبد الكريم اعانة سنوية تقدر بثلاث ليرات ذهبية او اربع لجمعية المقاصد الخيرية التي كنت اعتقد انها اعظم مشروع ثقافي سينهض بالطائفة في الوطن. ولكني ادركت، فيما بعد، ان الجمعية قدمت مبالغ كبيرة لنفر من ابناء الاغنياء الذين درسوا في اوروبا على سبيل السلفة. ولكن هؤلاء لم يردوا المال للجمعية. ولما رجعت الى الوطن لم تفكر الجمعية، رعاها الله، بأن تدعوني الى فنجان قهوة، بينما هي قد أقامت الحفلات العظيمة لغيري من ابناء العائلات ذات الدم الازرق».

ولم يكن حظ فروخ من بعض الافراد، وبخاصة السياسيين، افضل من حظه مع بعض الجمعيات. يقول فروخ في مذكراته: «من الإنصاف ان اذكر بالخير، العطف العظيم والتقدير الكبير الذي احاطني به، على اثر معرضي الذي أقمته في الجامعة الاميركية، نفر من الفرنسيين امثال الكولونيل تراكول... وقد بلغ الامر انهم سعوا لدى الحكومة اللبنانية ان تقدم لي منحة للذهاب الى باريس لاكمال التحصيل هناك ولعرض صوري في معارضها. وكان على رأس الوزارة يومئذ الشيخ بشارة الخوري الذي اظهر كل استحسان للفكرة. ولكن احدهم، الذي كان نائباً، اجاب الكولونيل تراكول الذي ارتأى سفري الى باريس: نحن عندنا في العيلة ايضاً شاب نابغ، فالأحسن ان نبعثه محله».

ولكن طموح فروخ واجتهاده حققا امنيته الباريسية تماماً كما جرى مع جبران خليل جبران في العام 1909، مع فارق ان الاخير تلقى مساعدة مالية دورية من صديقته ماري هاسكل، في حين ان صاحبنا غطى رحلتيه من محتويات القجة الفخارية التي كانت بمثابة المصرف بالنسبة للآباء والاجداد. يقول فروخ في احد فصول مذكراته: «انني اجيء باريس هذه المرة واحمل في نفسي اهدافاً ثلاثة، اولها عرض عدد من لوحاتي في معرضها الكبير، وكان حلماً من احلامي العذاب. والهدف الثاني تتبع الحركة الفنية والتثقف بالفن الحديث الذي تحمل علمه باريس، اما الهدف الثالث فكان زيارة بلاد الاندلس». وفي العاصمة الفرنسية التقى بالفنان البيروتي عمر الانسي، واتفقا على تقديم بعض لوحاتهما الى ادارة الصالة العالمية. وكان الفنان قيصر الجميل قد سبقهما في تقديم نماذج من لوحاته. فهل فازت لوحة فروخ التي رسم فيها استاذه حبيب سرور، كما كان الحال مع احدى لوحات جبران؟ يجيب فروخ: «ذات يوم حينما كنت اتناول البريد من صندوقي وجدت رسالة من الجمعية الفنية وبطاقة دعوة لحضور حفلة التدشين، وورقة مكتوبا عليها: قبلت. فكدت اطير من الفرح. كيف لا افرح وهذا حلم قد تحقق، وما كنت اظن تحقيقه، انا الفنان الشاب العربي من لبنان، تُعرض لوحة لي في هذا المعرض الدولي العظيم بين كبار فناني العالم الذين شاخوا في الفن وعجن الدهر عودهم؟! ثم اني قرأت في الصحف ان عدد الذين قدموا للعرض من انواع الفنون المختلفة بلغ اربعين الفاً». وبالمناسبة، فقد رفضت ادارة المعرض لوحات عمر الانسي وقيصر الجميل والدمشقي جورج خوري. وباستثناء قلة من هؤلاء، فان اكثرية التشكيليين في بيروت ودمشق حاربت فروخ، في حين كان هو اجتماعياً وفنياً وكتابة، بمنتهى الايجابية ازاءها. صحيح انه سجل بعض «عواطف» جورج خوري وقيصر الجميل وخليل الصليبي وغيرهم نحو لوحاته وشخصه الكريم في كتابه «طريقي الى الفن». ولكن هذا الكتاب بقي مسودة بخط يد فروخ طوال حياته. وصدر للمرة الاولى في العام 1986، اي بعد ثلاثين سنة من رحيل مؤلفه. ولولا تحقيقه من قبل نسيبه الباحث الادبي عمر فروخ، لبقي بمثابة يوميات مدونة في دفتر مدرسي، وربما غير مكتوبة برسم النشر. ذلك ان الكتاب مليء بالانتقادات والمرارات.

وبمقدور القراء اليوم ان يستمتعوا بكتابات فروخ الموجودة في أربعة كتب: «رحلة الى بلاد المجد المفقود» و«قصة انسان من لبنان»، و«الفن والحياة» و«طريقي الى الفن»، اضافة الى عشرات المقالات المجهولة والمنشورة في الصحف.