شارك في صناعة الثقافة الفرنسية

انتصر للفنون ..تنتصر لك الحياة

TT

رغم 16 مليار يورو خصصتها فرنسا العام الماضي لضخ القطاع الثقافي بالحيوية، ورفع مستوى النشاط الفني في البلاد، إلا ان ذلك المبلغ الضخم لا يفي بالغرض، على ما يبدو. وقد قررت فرنسا، بعد تحفظ طويل، ان تفسح في المجال أمام القطاع الخاص، من فرنسي وأجنبي أيضاً، ليمول ثقافتها، ويدعم متاحفها ويسهم في ترويج موسيقاها عبر العالم. ومن خلال تعديل القانون القديم ابتكرت ما يمكن تسميته بنصرة الثقافة، راغبة في سياسة انفتاحية، لكنها لا تتبنى النمط الأميركي الترويجي، وتبقي للفنانين هامشاً واسعاً من الحرية يتنفسون فيه. يابانيون، عرب، أميركيون، صينيون، الباب مفتوح لجميع المتمولين كي تبقى فرنسا منارة للفنون...

ماذا يحدث حينما تتقلص حصة الثقافة من ميزانية الدول والحكومات؟ وعندما تصبح وزارات الثقافة عاجزة عن ضمان الدعم المادي الكافي لتمويل المشاريع الجديدة؟ بالنسبة للدول الحريصة على تشجيع الحركة الفنية والفكرية منذ زمن طويل كفرنسا، لا مجال للاستسلام لهكذا وضعية والحّل وُجد في إمكانية إشراك الأموال الخاصة في تمويل المشاريع الثقافية، أو ما يعرف بنصرة الثقافة.

«ظاهرة النصرة» تختلف عن تمويل المشاريع الفنية والثقافية بالمفهوم الأنجلوسكسوني (sponsoring) الذي يهدف إلى جني أرباح مباشرة عن طريق المتاجرة بسلع مختلفة وسط حملة إعلامية كبيرة، كما يحدث عادة في مجال الرياضة والفن، أو حين يقترن اسم أكبر الشركات بأشهر الفعاليات والتظاهرات الشعبية، فلا نكاد نرى عدسة الكاميرا على فنان أو رياضي إلا وكانت مثلها على شعار الجهة الممولة. على العكس من ذلك، فإن نصرة المشاريع الثقافية، على الطريقة الفرنسية، لا يُفترض لها أن تُمارس إلا في إطار «الصالح العام». والجهة التي ترعى أي مشروع تفعل ذلك بدون أي مقابل مادي. وهنا تُستبدل الأضواء الدعائية الإعلانية بعملية إعلامية بسيطة للتذكير، فقط، بالجهة الراعية. والتذكير لا يكاد يتعدى إطاراً مربعاً يُعلق على جدار المتحف أو ربما ذكر شعار الشركة، المساهمة في التمويل، على بطاقات الدعوة.

أكثر من 6500 شركة تساهم اليوم بفرنسا في إطار عمليات نصرة ورعاية مختلفة، وهو ما يمثل حسب جمعية «الأكميدال» (لتشجيع نصرة الشركات الفرنسية في ميدان الثقافة والتآزر الاجتماعي) نسبة 18% من الشركات الفرنسية الكبرى، وتمويل مالي يصل إلى أكثر من مليار يورو تذهب كلها لصالح تنمية الحركة الثقافية.

نظراً لأهمية هذا النشاط في تحسين الصورة الخارجية للمؤسسات فإن 200 منها قررت إنشاء مؤسسات خيرية خاصة، تتفرغ للاهتمام بهذا المجال أشهرها مؤسسة «لوي فيتون» و«فرانسوا بينو» و كذلك مؤسسة «فينشيي». وهي لا تدعم قطاع الثقافة فقط، وإنما أيضاً، وبقوة، المجال الاجتماعي والإنساني الذي يغطي مثلا كل نشاط مؤسسة «فرانس» التي تهتم بالمستشفيات، ومراكز الإيواء والمشاريع المهنية الصغيرة.

رغم حيوية الحركة الفنية والثقافية في فرنسا إلا أن أداء البلد في هذا المجال يعتبر دون المستوى المطلوب، مقارنة بالدول الأنجلوسكسونية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي أصبحت فيها ظاهرة الرعاية الثقافية تقليدا عريقا يمارس منذ عقود طويلة، وحتى على المستوى الأوروبي، فإن فرنسا تأتي بعيدا في ترتيب الدول الأكثر لجوءاً لنصرة الثقافة كألمانيا، بريطانيا وإيطاليا.

* محافظون برعاية القانون

تأخر فرنسا في هذا المجال مَردُّه الى الحساسية التي كانت تطرحها مسألة دخول رؤوس الأموال مجال الثقافة. فالسياسة الثقافية لفرنسا كانت غالباً ما تتميز بحضور قوي للدولة وإشرافها على كل ما يدخل في دائرة «الصالح العام» وعلى رأسها الثقافة. وقد ظل حرص الفرنسيين على إبعاد كل شبهات التدخل في حرية رجال الثقافة والفن لسنوات طويلة، هو الهاجس الذي حال دون مساهمة الأموال الخاصة في دعم مثل هذه المشاريع. اليوم يشهد مجال «النصرة» تطوراً ملحوظاً، منذ حادثة رفض القنوات التلفزيونية لعرض فيلمين حول راقص الباليه بريشنيكوف في أواخر السبعينيات، بحجة ورود اسم شركة «إي. بي. آم» المموّلة للمشروع ضمن الأسماء المشاركة والمعلنة.

التغيير طال أولاً الإطار القانوني الذي يصاحب هذه العملية عن طريق استبدال قانون 23 يوليو (تموز) 1987 بقانون آخر، وهو قانون 1 أغسطس (آب) 2003 الذي يمنح الشركات المساهمة حسماً على الضرائب يقدر بـ %60 وقد يصل إلى %90، حين يتعلق الأمر بدعم الدولة في الحصول على قطعة من التراث المهم. وهو ما شجّع الكثير من المؤسسات على خوض تجربة النصرة. كما أن التغيير شمل أيضاً العقليات الأكثر تحفظاً والتي أصبحت شيئاً فشيئاً أكثر تقبلاً لفكرة توظيف أموال خاصة في خدمة الثقافة، بعد أن تبين عجز المصالح الحكومية عن تمويل نشاطات ومرافق هي في نمو متزايد، ليس تقصيراً منها بما أن فرنسا من أكثر دول العالم كرماً مع ثقافتها وهي التي خصصت السنة الماضية مبلغ 16 مليار يورو لدعم القطاع الثقافي. لكن المشكلة في ارتفاع تكاليف بعض المشاريع، ولا سيما تلك التي تخص ترميم التراث المعماري والفني القديم.

أكثر القطاعات مساهمة هو قطاع البنوك والتأمين. وقد كانت شركة «أكسا» للتأمين الأولى على رأس القائمة سنة 2007، بمساهمة مادية بلغت 27 مليون يورو، استحقت بها «أوسكار النصرة» الذي تمنحه جمعية «أكميدال» لتشجيع نصرة الشركات الفرنسية.

* الموسيقى هي الأكثر حظاً

الموسيقى هي المجال الأوفر حظاً بالرعاية، فهي التي تستحوذ على 28% من مجموع ما يقدم، وغالباً ما تتجسد هذه الرعاية في شكل دعم مادي لتنظيم تظاهرات موسيقية. لكن مكافأة المساهمين قد تنحصر في حجز بطاقات دخول لزبائن الشركة، في ما تساعد الشركات في تحمل تكاليف سفر الفرق، وتأجير الآلات الموسيقية أو قاعات العرض. ربما كانت أهم عمليات النصرة في هذا المجال هي تلك التي حُققت لصالح أوبرا باريس. فهذه المؤسسة التاريخية تعرف لوحدها مساهمات دورية لأكثر من 10 شركات تأخذ على عاتقها تكاليف ترميم البناية العتيقة، شراء المعدات الموسيقية، وتحمل مختلف تكاليف التسيير.

الاقتناع بأهمية الدعم الذي تمنحه الأموال الخاصة جعل المسؤولين عن أكبر المرافق يسعون لتكثيف التعاون مع المؤسسات عن طريق تطوير إستراتيجيات بحث حثيثة للفوز بالتمويل المنشود. اليوم معظم المتاحف والقصور الأثرية لها أقسام خاصة شغلها الوحيد ايجاد مؤسسات لرعاية مشاريعها. «متحف اللوفر» يقدم أكبر مثال على نجاح هذه التجربة، وهذا بفضل اتباع مسؤوليه سياسة حكيمة تتميز بانفتاح واسع على دعم الأموال الخاصة. فهو يضم مصلحة كبيرة من عشرين موظفاً على مستوى عال من الخبرة في تقنيات الاتصال والعلاقات العامة. نساء ورجال في مقتبل العمر، مهمتهم الأساسية إقناع أطراف خارجية بضرورة المساهمة، وهم موزعون على ثلاث وحدات: المؤسسات، الخواص والأطراف الأجنبية.

* يابانيون وعرب في متحف اللوفر

تقول يوكيكو كميجيما، المشرفة على قسم النصرة الخاص بالدول الآسيوية في متحف اللوفر، وهي يابانية الأصل «من المهم أن يكون المسؤول عن هذه المهمة على دراية تامة بالتوجهات الثقافية للزبائن الذين يقصدهم، ولم لا يكون مزدوج الثقافة أيضا؟ ليس من الصدفة أن أكون في هذا المنصب فقد سبق لي وشاركت في معارض باليابان، وأعرف أذواق اليابانيين في هذا المجال، وهو ما جعل مسؤولي المتحف يرون أني ربما الأوفر حظاً في تفهم العقليات الآسيوية والتعامل معها». أما نيكولا سلنجر، مسؤول التنسيق فيقول ان «المتحف لا يستطيع أن يبقى بدون تجديد. فالمتحف الذي لا يقتني تحفاً جديدة، هو متحف ميت، ولهذا فنحن بحاجة دائمة لمن يساعدنا في هذه المهمة. لكننا لا نقصد فقط الأطراف التي تعودت مساندتنا، بل نحاول أيضاً إثارة اهتمام أطراف جديدة نراها قادرة على المساهمة. فنحن مثلاً بصدد التحاور لأول مرة مع مجموعة من رجال الأعمال الصينيين لإقناعهم بدعم نشاطات المتحف، لكننا نعتز بالدعم الذي تقدمه شخصيات مهمة كالأمير الوليد بن طلال، الذي سمح بفضل مساندته المادية المهمة (17 مليون يورو) بدخول جناح للفن الإسلامي إلى متحف اللوفر لأول مرة، وهي خطوة ذكية لتعريف العالم بمعالم الحضارة الإسلامية عبر متحف ذي صيت عالمي كاللوفر».

أحياناً يتبين أن إنجاح مشروع نصرة لا يتوقف إلا على آراء ذاتية لأشخاص هم بعيدين كل البعد عن عالم الثقافة. فهذا موظف آخر في مصلحة النصرة باللوفر يتذكر كيف أنه تعذر عليه إيجاد تمويل لإقامة معرض للوحات الفنية تحت عنوان «الحزن» لأن كل من رآه من مندوبي المؤسسات وجده كئيباً، رغم أهمية قيمته الفنية.

جهود موظفي مصلحة النصرة سمحت بتوفير 30% من تكاليف اللوفر، وافتتاح أجنحة جديدة، واقتناء المزيد من التحف واللوحات الفنية. وهي وضعية لم تكن موجودة منذ عشر سنوات مضت، يوم كانت الدولة قادرة بالكاد على تغطية تكاليف تسيير المتحف.

رغم غياب المقابل المادي والدعاية لمثل هذه العمليات، إلا أن المرافق التي تستفيد من هكذا دعم تكافئ داعميها بطرق متفاوتة. فالراعي الذي يقدم أكثر من خمسمائة ألف يورو قد يجد اسمه أو شعاره ـ إذا كان مؤسسة ـ في مربع صغير داخل قاعة المتحف، أما الذي يعطي أكثر من 2 مليون، فالقاعة كلها قد تحمل اسمه، أما الذي يدفع أقل من ذلك، فيمكنه الاستفادة مثلاً من تذاكر دخول مجانية له ولعملائه أو من قاعات لتنظيم حفلات خاصة أو من حجز الأماكن الأمامية في صالات العرض. وربما كانت أطرف هذه المكافآت، ما تقترحه أوبرا باريس لشركائها، من زيارات لكواليسها، ساعات قبل افتتاح حفلاتها، لمشاهدة الفنانين والتحضيرات التي تتم قبل العرض.