لماذا يوجد الشر في العالم؟

مرور قرن ونصف القرن على صدور أشهر ديوان في تاريخ الشعر العالمي

TT

هل ينبغي على الأدب أن يتحدث عن الشر؟ أم أنه ينبغي عليه أن يكرس نفسه لتمجيد الخير فقط من أجل تثقيف النفوس وتهذيبها وتربيتها على الفضيلة؟.. هذا السؤال مطروح بشكل غير مباشر في الكتاب الجماعي الصادر عن دار نشر «لارماتان» في باريس.

وقد ساهم فيه باحثون عديدون من بينهم مريم واتي ديلموت، المتخصصة بالأدب الفرنسي المعاصر والباحثة في مركز البحوث البلجيكية.

ونذكر أيضا ميشيل بريكس، الأستاذ في جامعة «نامور» بفرنسا. وقد قدم بحثاً بعنوان «بودلير، الرومانطيقية الفرنسية وموضوع الشر». كما ونذكر الباحث دانييل كاستيلو دورانت، الأستاذ في جامعة أوتاوا بكندا.. وكان بحثه بعنوان «من ساد الى لوتريامون: الغيْريَّة ومشكلة الشر».. إلخ.

وقد قدم للكتاب البروفيسور ماكس ميلنر، الأستاذ في جامعة السوربون الجديدة، باريس الثالثة. وكان مما قاله: هل يعيد عصرنا اكتشاف الأخلاق من جديد؟، فبعد انحسار الدين عن الحياة العامة في المجتمعات الغربية، وبعد تراجع الآيديولوجيات السياسية التي سادت القرن العشرين، أصبح الناس بحاجة إلى معايير لهداية سلوكهم في الحياة وللتمييز بين الخير والشر. فالحياة لا يمكن أن تستقيم من دون معايير أخلاقية تنظمها. ونلاحظ الآن أن الناس في الغرب يعيشون أزمة من هذه الناحية بعد أن أصبح كل شيء مباحاً تقريباً. وبعد أن اختلط الحابل بالنابل واختلطت القيم، أو أصبح لكل شخص قيمه.. فهل يمكن للمجتمع أن يعيش من دون قيم أخلاقية جماعية ترشده إلى الحياة الطيبة والصحيحة كما يقول الفيلسوف بول ريكور؟، ثم يردف الباحث قائلا بأن المقالات المتضمنة في هذا الكتاب لا تلبي نفس الحاجة لأنها تتحدث عن فترة كان فيها الدين المسيحي لا يزال سائدا في مجتمعات الغرب، وكانت الآيديولوجيات أيضا مهيمنة من ليبرالية واشتراكية وماركسية ووجودية.. إلخ، لكن هذه المقالات تثير بشكل مباشر أو غير مباشر أزمة القيم التي نعيشها في ظل الحداثة.. وإذا كانت مشكلة الشر قديمة قِدم العالم، وإذا كان الأدب منذ أصوله الأولى قد شعر بالانجذاب نحو هذا الجزء الملعون والشرير من أعماق الإنسان، فإنه لمن المؤكد بأن هذا الانجذاب قد اتخذ أشكالاً جديدة بدءا من الرومانطيقية. وهذه الأشكال أثرت ليس فقط على مضمون الأدب، إنما أيضا على صياغته التعبيرية ووظائفه. وكان عباقرة الأدب من أمثال بودلير هم الذين تجرأوا على سبر أغوار الشر في الروح البشرية. لكن بعد بودلير جاء لوتريامون الذي بزّه في مجال تعرية الشر أو حتى تمجيده بصفته الحقيقة الإنسانية الأولى وربما الوحيدة في هذا العالم. لكن تمجيد قوى الشر يؤدي في نهاية المطاف إلى محاولة تجاوزه من أجل التوصل إلى قيم إيجابية في الحياة. كل شيء يحصل كما لو أن عبور منطقة الشر يمثل مرحلة ضرورية من أجل التوصل إلى مرحلة الخير: ولا بد دون الشهد من إبر النحل.. وهذا ما نجده واضحاً لدى السورياليين. من المعلوم أن العنف موجود في أعمال رينيه شار الذي كان سوريالياً في البداية، والذي كان مسحوراً بالقوى التدميرية التي تسحق العادات والتقاليد الامتثالية السائدة في المجتمع. فمن دون انتهاكها لا يمكن للشعر أن يكون حراً. لذلك، بعد أن اكتشف السورياليون أعمال لوتريامون وجرأته على تصوير الشر بكل تلذّذ، راحوا يؤسسون جماليات الشر في الأدب الفرنسي، ثم العالمي.

أما الباحثة مريم واتي ديلموت، فتقول في بحثها ما يلي: إن الحروب والجرائم والوحوش والشياطين تمثل بعض أشكال الشر ومظاهره. وهي مظاهر ما انفكت تسيطر على وعي الأدباء الذين راح خيالهم ينتهك المحرمات لكي يجعل الشر مقبولاً ـ أو مستوعباً على الأقل ـ في الحياة المعاشة. فإذا لم نتحدث عن الشر، والشر ينهش في أحشائنا وحياتنا، فإن خطره سيكون أعظم وسوف يزداد تفاقماً. وبالتالي، فينبغي أن نشكر الأدباء أو الشعراء الذين تفنّنوا في التحدث عن الشر ووصف مظاهره، لأنهم بذلك ساعدونا على تحمّله ومواجهته. لقد كان الشر ـ أو وجود الشر في العالم ـ يمثل تحديا للدين والفلسفة على مرّ العصور. وكثيراً ما تساءل الفلاسفة: لماذا يوجد الشر في العالم؟ لماذا لا يوجد إلا الخير؟. والواقع أن وجود الشر يمثل تحديا للفكر العقلاني، ويعبر عن القوى اللاعقلانية في الوجود. ثم جاء الأدب لكي يواجه تحدي الشر بشكل آخر. وكان السؤال المطروح هو التالي: كيف يمكن عن طريق الخيال تقديم صورة معقولة، بل وتطهيرية عما يسحقنا في الحياة المعاشة؟، بمعنى آخر: ألا يمكن القول بأن المرور بالشر أو مواجهته وجهاً لوجه هو الطريق الأمثل لتحاشيه أو لتحاشي أخطاره؟، وهنا يمكن أن نطبق قول أبي نواس: وداوني بالتي كانت هي الدّاء.. فالأديب الذي لا يتحدث إلا عن الخير ويرفض التوقف عند الشر، لا يقدم خدمة إلى المجتمع، على عكس ما يتوهم. والشاعر الذي يتحدث عن الشر مراراً وتكراراً، لا يعني أنه شرير، فقد يكون من أنقى خلق الله. لكنه لا يستطيع أن يغض الطرف عن مظاهر الشر في هذا العالم. وهو أن يتحدث عنها قد يساعد الناس على تطهير أنفسهم منها أو مواجهتها بفعالية أكبر واتّقاء شرها.

مهما يكن من أمر، فإنه قد حصل انقلاب في تصور الشر بدءاً من بودلير. فقبله كانت الصورة المسيحية هي السائدة، وكانت تتهم الشيطان بأنه المسؤول الأول والوحيد عن وجود الشر في العالم، كأن الشيطان هو رمز الشر. لكن بدءا من بودلير لم يعد الشر خارجياً على الإنسان، إنما داخلياً. هكذا راح الأدباء على اثره يستبطنون مفهوم الشر باعتباره جزءا لا يتجزأ من الطبيعة البشرية. هناك عدة مظاهر للشر. هناك الشر الذي يحصل فجأة ومن دون أي توقع كالمرض الخبيث مثلاً، أو كحادث سيارة، أو كحريق في المنزل.. إلخ، وهذا شيء لا حيلة لنا به. وكثيراً ما حيّر أمره الفلاسفة وتساءلوا: لماذا لا يمنع الله حصول الشر في العالم؟ لماذا يموت طفل في عمر الزهور وهو لم يفعل شيئاً بعد لكي يحاسب عليه؟ لماذا يموت رجل في عز الشباب وهو إنسان خيّر وشهم وذو قلب مفعم بحب الخير وفعله، في حين أن رجلاً شريراً يعيش عمراً مديداً؟.. سرّ ذلك عند الله بالطبع، ولا مردّ لقضاء الله وقدره. وهناك حكمة تتجاوز أفهامنا. هذا هو جواب المؤمن، وهو أفضل جواب من دون شك.

لكن الانقلاب الذي طرأ على مفهوم الشر بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، يمثل ظاهرة كبيرة حقاً في الآداب الأوروبية. وينبغي أن نتوقف عندها قليلاً لكي نفهم سبب انبهار كتّاب أوروبا بهذه القوى المظلمة والشهوانية والتدميرية التي تكمن في أعماقنا والتي نلخصها بكلمة واحدة: الشر.

وإذا ما حذفنا هذا الجزء من الآداب الأوروبية، فإننا نحذف أقوى ما فيها وأفضله. ولا نقول ذلك فقط دفاعاً عن ديوان بودلير «أزهار الشر»، الذي صدر قبل مائة وخمسين سنة بالضبط، إنما دفاعاً عن الإبداع الأدبي في أعلى ذراه ولدى كتّاب آخرين تلوا بودلير. هناك بالطبع نوع آخر من أنواع الشر، وهو الذي نفعله عن سابق قصد وتصميم. وعندئذ يمكن وصفه بأنه ذنب، أو خطيئة، أو حتى جريمة، إذا ما كان شراً محضاً. وهناك أيضاً الانحراف الجنسي والإغراق في الشهوات والشراب وتعاطي المخدرات.. ومعلوم أن الأدباء والشعراء كانوا دائماً مجذوبين إلى هذا النوع من الشر. فانتهاك المحرمات هو سِمة أدباء كبار ليس أقلهم بودلير نفسه، أو رامبو، أو اندري جيد، أو سواهم كثيرون.. وبودلير دمّر حياته عن طريق الشراب والمخدرات، وكان يشعر بأنه ينزلق ويحاول إيقاف الانزلاق، لكن من دون جدوى.. كان إغراء الشر أكبر من أن يقاومه.

فقد توجد قصيدة جميلة جداً وهي تتحدث عن أبشع أنواع الشر والانحراف والسقوط والإحباط وكل القيم السلبية في هذا العالم. وقد توجد قصيدة رديئة جداً وهي تتحدث عن مكارم الأخلاق. هذا لا يعني بالطبع انه لا توجد قصائد ايجابية تمجد الخير. ولكن عموماً نلاحظ ان الشعر ينتعش في ظل الفراق لا الوصال، والحزن لا الفرح، والمأساة لا السعادة.. بدءاً من بودلير أصبح الشر يتموضع داخل الإنسان، ولم يعد الأمر يتعلق بمحاربته لأنه سينتصر علينا لا محالة، إنما في أن نتعايش معه، في أن نتفاوض معه في كل لحظة. فنحن واقعون، شئنا أم أبينا، تحت وطأته. أما الباحث ميشيل بريكس الأستاذ في جامعة نامور بفرنسا فيقول بأن نشر «أزهار الشر» عام 1857 أجبر بودلير على المثول أمام المحكمة وكلفه ثمناً غالياً على المستوى النفسي والعصبي بسبب الفضيحة التي أثارها. ولكن هذا الحدث لا ينتمي فقط إلى التاريخ الأدبي لفرنسا، وإنما أيضا إلى التاريخ الأخلاقي والروحي. فديوان بودلير وسع مفهوم الحرية في الشعر الفرنسي وسبق عصره بخمسين سنة على الأقل. ولذلك حاربوه ولم يفهموه. أما الآن فمن يعيب على بودلير جرأته في تصوير شرورنا ونواقصنا واحباطاتنا؟، لا أحد. على العكس لقد أصبح مجد فرنسا الأدبي والشعري. وهذا هو مصير الأعمال الأدبية الكبرى التي تجيء في غير وقتها، أو قبل وقتها. انها تمثل فضيحة وتدان لفترة طويلة قبل ان يمر الزمن وتنكشف صحتها أو عظمتها.. كانت مشكلة بودلير هي التالية: كيف يمكن استخلاص الجمال من الشر كما نستخلص الذهب من المعدن أو التراب؟.. ولكن جماليات بودلير كانت شيطانية بدون شك. كان مسحوراً بذلك الجانب المظلم والمعتم من الحقيقة البشرية. ولم يرد ان يتجاهل وجوده عندما كتب قصائده. ولكنها دفعت بالكتاب والفنانين الذين سبقوا بودلير مباشرة إلى إنكار مسألة الشر أو تجاهلها بشكل كامل تقريباً. فبما ان نظرية المثل العليا الأفلاطونية كانت تسيطر على الرومانطيقيين، فإنهم لم يعودوا يستطيعون رؤية أي لطخة سوداء على جبين الفن أو الشعر. فكيف يمكن لشخص أن يكون شاعراً حقيقياً من دون أن يرى الشر؟ وهل يمكن تصور القصيدة الشعرية من دون الألم والعذاب، من دون اليأس والإحباط، من دون النزول إلى أعماق الهاوية والمرارات؟!.. وما هو هذا الشعر السطحي الذي يتغنى بالجمال وينسى الجانب المدهش، الجانب الآخر من الأشياء؟، وهل هناك من شعر متفائل في العالم؟ أليس الشعر صنواً للتشاؤم الأسود وعزاءً عن هذا التشاؤم بالذات؟، ما معنى القصيدة إن لم تكن كشفاً عن الجانب الغامض من الأشياء: عن الخطيئة، والذنب، والإدانة المطلقة، والرعب؟