هل نعيد النظر بمصطلح «عصر الانحطاط»؟

نص عربي مجهول عثر عليه في مكتبة لندنية

TT

قام كمال أبو ديب، أستاذ العربية بجامعة لندن، بتحرير مخطوطة مجهولة يبرهن بها أسبقية العرب في ابتداع السرد "الفانتستكي" الذي نسب الباحث تزفيتان تودروف ابتداعه إلى الغرب، وتحديدا في القرن الثامن عشر. كما يرد بهذه المخطوطة السردية العربية على المستشرق ارنست رينان الذي جرد الساميين من ملكة الخيال.

في مقدمة الكتاب النقدية الاستهلالية (70 صفحة) يشير الكاتب إلى انه كان قد عثر على مخطوطة كتاب "العَظَمَة" في أوائل السبعينات من القرن الفائت بالمصادفة وهو يراجع فهارس المخطوطات في مكتبة بودلي اللندنية، وهي لا تحمل اسم مؤلفها. ويستبعد أبو ديب أن يكون مؤلفها الإمام الغزالي كما يظن المستشرق كارل بروكلمان. والسبب هو الاختلاف بين أسلوب هذا الكتاب وبين أسلوب الغزالي في كتاب (الدرة الفاخرة) الذي يعالج أمورا مماثلة لكتاب "العظمة". يرجح أبو ديب أن يكون مؤلفه احد اثنين، إما ابن أبي الدنيا أو القمّي الشيعي وهو يميل إلى الثاني بسبب بعض الإشارات الشيعية الخفيفة في النص. وقد ظل النص ثلاثة عقود بين يديه إلى أن رأى النور.

ينتسب هذا النص إلى ما سماه الجرجاني "بالمفتريات"، مثل "منامات الوهراني" والحكايات البديعية والنوادر الغريبة و"رسالة الغفران" للمعري والسير المشهورة مثل الهلالية وفارس اليمن وألف ليلة وليلة وذات الهمة.

يبرهن المؤلف في تقديمه للنص على احتواء كتاب "العظمة" على أساليب السرد المركبة والمتعددة. ويسخر متهكما من تهافتنا على الواقعية السحرية التي كانت بضاعتنا وقد ردت إلينا. مقدمة المؤلف تذكرنا بكتاب الباحث العراقي سعيد الغانمي (خزانة الحكايات) التي يبرهن فيها على اقتباس باولو كويلو روايته "الخيمائي" من قصة من ألف ليلة وليلة واستناد رواية "اسم الوردة" لامبرتو ايكو على حكاية وزير الملك يونان والحكيم رويان.

واطلاقاً من ذلك، يدعو أبو ديب إلى إلغاء مفهوم عصر الانحطاط من الأدبيات النقدية، ففي "عصر الانحطاط المجيد ابتدع العرب حساسيات فنية وفكرا سياسيا سحقه الغرب بسلطانه الحداثي السردي وعقدة الخواجة العربية. وثمة تراث خارق يسبق العباسيين ويلازمه ويمتد بعده". ويستخف بتسمية عصر النهضة المخاتلة (يقصد سرديا وأدبيا) مدافعاً عن المقامات التي تمثل برأيه نقيضا سرديا لأدب الخيال والجموح والخوارقيات والمفتريات والفانتازيا. عصر الانحطاط العربي، بالنسبة له، هو عصر تحرير الأدب من البلاط السلطاني وتأميمه و"شعبنته" فالسرد الذي كان يسلي الأمير صار مشاعا للناس. بل إن جذور هذا الأدب مضروبة في الجاهلية وصدر الإسلام وعصر الفتوحات (مثل الأغاني للأصفهاني) ويرفض خرافة القول بأن شعبنة اللغة العربية كانت فتحا للرومانسية الغربية في العربية تم على يد الترجمة.

يبدي أبو ديب افتتانه بنهج كتاب "العظمة. انه، كما يقول، اسم على مسمى، فهو أروع مثال تاريخي على رفع شأن الكتابة التي تتماهى مع الموثوقية والمصداقية والتاريخية والسرمدية وتتناقض مع المختلق. وفي النص أكثر من ظاهرة فاتنة مثل التوزيع المكاني والزماني والتقطيع والتنسيق إلى أعلى درجة ممكنة من التأثير والإقناع.

الرواة يتعددون أيضاً، وتتعالق البنى السردية، وتصل فيه إلى درجة عالية من النضج والسفسطة والجنوح والتعقيد، وهناك مسرحة لآليات الأداء في النص، التي لم تبرز مؤخرا الا لدى بورخيس وجون فولز، كما تختلط الأزمنة والأمكنة خلطا بارعا، فالكاتب ينسب إخفاء ألواح الطين إلى ادم في سرنديب الهند، مع أن تسمية تلك البلاد بالهند متأخرة عن عصر آدم،كما أن الإشارة إلى زمن دفن سرديات الدفائن الذي هو يوم عاشوراء الشيعي، وهنا ينكسر التسلسل التاريخي للأحداث.

ومن المنظور المعرفي (العلمي) يجد أبو دبب في الكتاب تبشيرا بنظرية اينشتاين النسبية كون اليوم في احد المشاهد يعادل ألف يوم في مكان آخر. يبدو أن أبو ديب لم ينتبه الى أن نسبية الزمن موجودة أصلا في القرآن الكريم والحديث النبوي الذي يسبق العظمة زمنيا.

ويعتبر أبو ديب فكرة خلق عوالم فيها مخلوقات لها مناسكها وعباداتها وأنبياؤها وقيامتها وقوانينها وجنتها ونارها دليلا على تفتح عقلي وعقائدي أيضا، خاصة إذا عرفنا أن الراوي صحابي والمروي له احد العشرة المبشرين. النص يرفع مكانة الزوجة على الحوريات والزوجة في نصه اقرب إلى المؤمن من المعبود والحور العين. كما يستنتج أبو ديب أن المؤلف يجسد المساواة العرقية حتى في السماء بخلقه أرضا سمكها ألف سنة وسكانها من الملائكة السود وفي كل رأس وجهان وفي كل وجه فمان...

تبقى الإشارة إلى أن السرد في شهرزاد كان منقذا من الموت، انه هنا، سرد يقتل سامعه باللذة التي يخلقها في خيال السامع. فبنات الخليفة الثالث يمتن دهشة ووجدا وهن يسمعن الحديث الساحر عن عوالم الجنة المتخيلة.