مأساة محمد نجيب الصامتة

وثائق ومستندات عن اعتقال أول رئيس لمصر وتحديد إقامته لمدة 30 عاما

TT

لم يكن محمد نجيب يشغل في فيلا المرج التي قضى فيها سنوات منفاه الطوال سوى غرفة واحدة مهملة، بها سرير متواضع يكاد يختفي من كثرة الكتب الموضوعة عليه وبجانبه منضدة صغيرة تتناثر عليها عشرات من علب الدواء ومجموعة كبيرة من الآيات القرآنية بالإضافة إلى صور كبيرة لمجموعة من الكلاب والقطط كتب عليها " هؤلاء هم أصدقائي في وحدتي و 30 عاما في المنفى!" 

 

حينما قامت ثورة 23 يوليو في مصر لم يكن يدر بخلد أحد أبرز قادة الثورة، إن لم يكن أبرزهم، وهو أركان حرب محمد نجيب، أن عداد السنين لن يمهله كثيرا لكي ينعم بالتحول التاريخي الذي قاده في حياة مصر والمصريين، سوى ما يقارب العامين وبعدها سيكون أبرز تكريم له هو تقديمه كطعم حي لغياهب الوحدة والنسيان والنفي في غرفة فقيرة في فيلا مهجورة بضاحية المرج بالقاهرة، إلى أن وافته المنية بعد 30 عاما من الاعتقال الجبري.

وبعد مرور أكثر من خمسة وخمسين عاما على ذلك الحدث الكبير، يجيء كتاب "الأوراق السرية لمحمد نجيب أول رئيس جمهورية في مصر"، للكاتب والصحافي محمد ثروت، ليوثق كثيراً من الحقائق عبر مجموعة من الأوراق والمستندات والصور الشخصية النادرة التي تنشر لأول مرة  لمحمد نجيب والذي اسماه البعض  "ضحية يوليو"، كما يكشف عن الدوافع الخفية والمسكوت عنها التي كانت وراء اعتقاله ونفيه وتهميشه ومعاملته بصورة لا تليق ببشر.

ومن خلال عشرة فصول كانت بدايتها الجذور العائلية تنوعت تفاصيل الكتاب، ما بين الملامح الشخصية لمحمد نجيب ودوره كقائد للثورة، وأزمة مارس 1954 التي أطاحت به، وعلاقته بالسودان، ثم المشهد الأخير لدراما حياته، ومحمد نجيب في الوثائق البريطانية، بالإضافة إلى ملحق كامل للوثائق والصور الشخصية.

يصحح الكتاب العديد من الحقائق التي شابها لغط كبير وكان على رأسها أن واحدا من أسباب استبعاد نجيب عن السلطة شائعة كونه سودانياً، وهو ما كان يمثل مأزقا كبيرا للسلطة في مصر، إذ كيف يكون رئيس الجمهورية ليس من أب وأم مصريين خالصين، لكن الكتاب يفند هذه المزاعم، خاصة أن محمد حسنين هيكل أكد على هذه الشائعة أكثر من مرة في أحاديثه وكتاباته زاعما أن الإنجليز كانوا يبحثون عن رجل تجري في عروقه دماء سودانية أو تركية لكي يضعوه على رأس السلطة في مصر بدلا من الضباط الشبان أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين يعادون فكرة التحالفات مع الغرب وأن اختيارهم وقع على محمد نجيب لأنه تجري في عروقه دماء سودانية. إلا أن الكتاب ومن خلال الوثائق يؤكد على أن جذور اللواء محمد نجيب ترجع إلى قرية النحارية بمركز كفر الزيات – محافظة الغربية وهي إحدى قرى الوجه البحري بمصر، حيث ولد اليوزباشي يوسف نجيب، والد محمد نجيب والذي ينتهي لقبه بـ (قطب قشلان ) نسبة إلى عائلة مشهورة بالزراعة في ذلك الوقت. أما الأم فهي السيدة زهرة محمد عثمان ابنة الأميرالاي محمد عثمان وهو ضابط مصري كبير بالجيش المصري بالسودان، وكانت تعيش أسرته في أم درمان، حيث كان قائدا لحامية بواب المسلمية احد معاقل الخرطوم الجنوبية.. وقد أنجب يوسف نجيب من زهرة التي تزوجها عام 1900 ثلاثة أبناء هم: محمد، على، محمود، وست بنات.

وقد ارتبط محمد نجيب بالسودان ارتباطا وثيقا، حيث عاش به سنوات طفولته وصباه وبدأ حياته العملية أيضا كضابط بالجيش المصري في 19/11/1918 عقب تخرجه في الكلية الحربية بالقاهرة . 

ومن الأشياء المهمة التي يعرضها الكتاب تسجيل نادر لمحمد نجيب مع أبناء يوسف صديق – عضو مجلس قيادة الثورة الذي يرجع إليه الفضل في نجاحها، حيث تحرك يوسف صديق بقواته قبل الموعد المحدد" ساعة الصفر " بساعة واحدة، وهو ما كان مفاجأة للجميع، مما حماها من تعرضها للفشل. أجري هذا التسجيل في سبتمبر 1983 قبيل وفاة محمد نجيب بفترة قليلة، ويروي نجيب خلاله ذكرياته عن يوسف صديق وثورة يوليو قائلا: " أنا الذي أمرت يوسف صديق بالتحرك قبل موعد الثورة بساعة، أنا صفر على الشمال بالنسبة ليوسف، لأنه هو اللي دخل القشلاق (المعسكر) وقيادة الجيش وعمل كل اللي قلته له وعمل نفسه قائدا للدفاع عنهم وكل اللي يجي من بره بالإمدادات يشخط فيه ويوزعه".

الوثائق البريطانية

يكشف الكتاب عن حالة العداء الشديدة بين كل من اللواء محمد نجيب والكاتب والصحافي محمد حسنين هيكل وذلك من خلال وثيقتين: الأولى تخص احدى المقالات التي نشرها هيكل في صحيفة الأهرام عام 1973 بعنوان "شبح من الماضي" وفيها سخر هيكل من كتاب (كلمتي للتاريخ) الذي أصدره نجيب في العام نفسه. ورد نجيب على مقال هيكل، لكن الأخير قام بنشره في صفحة الوفيات !بعدها أرسل نجيب نفس الرد إلى أخبار اليوم ولإحسان عبد القدوس تحديدا وفيه يكشف عن العديد من الوقائع وعلى رأسها أن هيكل طلب منه مرارا إجراء مقابلة إلا أن نجيب كان يرفض ذلك .

إلا أن الحدث الأهم في هذا العداء هو الكتاب الذي أصدره هيكل عام 1972 " عبد الناصر والعالم"، وفيه اتهم هيكل محمد نجيب بالعمالة للولايات المتحدة الأمريكية من خلال واقعة تلقيه مبلغ 3 ملايين دولار كاعتماد أمريكي خالص لبناء برج لاسلكي للاتصالات العالمية، وذلك عن طريق المخابرات المركزية CIA وقد غضب عبد الناصر غضبا شديدا من هذا الأمر.

ويكشف الكتاب أن محمد  نجيب لم يقف مكتوف الأيدي أمام اتهامات هيكل وقتها لسبب بسيط هو انه كان معتقلا وقت وصول هذا المبلغ من المخابرات الأمريكية وقد استشهد بكتاب مايلز كوبلاند رجل المخابرات المركزية الذي كان مقربا من جمال عبد الناصر وقتها، والذي أكد في كتابه على أن المبلغ تسلمه حسن التهامي أحد المقربين من جمال عبد الناصر ومستشار الرئيس السادات فيما بعد، وهو ما حدا بنجيب وقتها إلى رفع دعوى قضائية ضد هيكل في نوفمبر من عام 1972، أمام محكمة جنايات الجيزة، إلا أن هيكل استطاع أن يصل إلى صيغة تصالح مع محمد نجيب مقابل نشر هيكل بيان تكذيب في صحف الديلي تلجراف والأهرام والنهار اللبنانية.. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل شكك هيكل في وطنية نجيب واتهمه بالاتصال بالإنجليز عام 1956 برغم أن نجيب كان رهين الاعتقال في فيلا المرج المهجورة وقتها.  

ويورد الكتاب الوثائق البريطانية التي تكشف عن أهمية اختيار محمد نجيب على رأس حركة الجيش في 23 يوليو 1952 ومدى شعبيته التي ظهرت في صفوف الجيش ولولاه ما تمكن الضباط الشبان من السيطرة على كافة الوحدات، خاصة ذوي الرتب الكبيرة. وتحمل الوثائق البريطانية الخاصة باللواء نجيب أرقام 1150 في أغسطس 1951 و458 M في 28/8/1952 والوثيقة 96880/0371 FO والوثيقة رقم 8/10/331 وغيرها من الوثائق الخاصة باللواء نجيب. وتذكر رسالة مطولة أرسلتها السفارة البريطانية إلى الخارجية البريطانية أنه في يوم 25 يوليو 1952 جرى أول لقاء بين محمد نجيب وأركان السفارة البريطانية. وهذه الرسالة سجلها مستر كريزول الذي يقول في مقتطفات منها: "لقد ترك اللواء محمد نجيب انطباعا جيدا في نفوسنا، فبعد لحظات تغلب على ارتباكه، وأصبح ودودا تجاهنا ولم تظهر عليه علامات الإرهاق وليس هناك أثر للعجرفة في شخصيته وهو يتمتع بروح النكتة وابتسامته الودية ولو أنني طفل صغير لتمنيت أن يكون عمي، وشخصيته لا توحي بأنه مشروع دكتاتور أو يميني أو يساري متطرف".

المشهد الأخير

ويتعرض الكتاب لأزمة مارس 1954 بعد محاولة اغتيال جمال عبد الناصر وما أعقبها، ويتحدث عن إجراءات تقليص دور نجيب وشعبيته من خلال منع نشر صوره وتصريحاته وخطبه حتى تم اقصاؤه عن السلطة تماماً، واعفاؤه من منصب رئيس الجمهورية وتحديد إقامته خارج القاهرة وحرمانه من حقوقه السياسية لمدة عشر سنوات وظل رهن الإقامة الجبرية لمدة 18 عاما. ويؤكد الشهود في الكتاب على أن اللواء نجيب ظل ممنوعا من الخروج في بادئ الأمر، لا يزوره احد بما في ذلك أقاربه وإخوته، وعندما سمح بالزيارة لاحقا كان في وجود ضابط مخابرات. وأثناء العدوان الثلاثي على مصر تم نقله إلى منفى آخر في سوهاج بعد أن سرت شائعة مفادها أن الإنجليز يخططون لإعادة نجيب إلى السلطة بعد هزيمة عبد الناصر. واضرب وقتها عن الطعام احتجاجا على سوء المعاملة التي تلقاها كما ذكر في مذكراته الشخصية، ولم يتم إعادته إلى المرج إلا بعد انتهاء الحرب. 

ويروي الكتاب تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة أول رئيس لمصر مدعمة بصور نادرة له قبل الوفاة بقليل بعد أن نحل جسده وتداعت عليه السنون، خاصة بعد قرار الطرد الذي حصل عليه ورثة السيدة زينب الوكيل زوجة مصطفى النحاس صاحبة فيلا المرج في عام1983 ، وعندما أمر الرئيس مبارك بتخصيص فيلا بمنطقة حدائق القبة لينتقل إليها اللواء نجيب، قال وقتها: "إلى أين أذهب بعد 30 سنة لم أخرج فيها إلى الحياة.. ليس لدي معارف أو أحد يهتم بي. أنا أعيش هنا وحدي بعد أن مات اثنان من أولادي ولم يبق غير واحد منهم، فإلى أين اذهب"؟؟ المثير في الأمر أن فيلا المرج التي قضى فيها نجيب سنوات منفاه الطوال لم يكن يشغل منها سوى غرفة واحدة مهملة، بها سرير متواضع يكاد يختفي من كثرة الكتب الموضوعة عليه وبجانبه منضدة صغيرة تتناثر عليها عشرات من علب الدواء ومجموعة كبيرة من الآيات القرآنية بالإضافة إلى صور كبيرة  لمجموعة من الكلاب والقطط كتب عليها "هؤلاء هم أصدقائي في وحدتي و 30 عاما في المنفى!!"

أما المشهد الأخير للواء محمد نجيب فقد شهدته أروقة مستشفى المعادي العسكري بالقاهرة، حيث لم يكن يعاني من أمراض خطيرة، لكنها كانت أمراض الشيخوخة. وعن اليوم الأخير، يقول ابن أخته اللواء حسن سالم: "كان يتحدث بشكل عادي ولكن ببطء وفجأة شعر بتعب ورفع يديه إلى السماء ثم أنزلهما ببطء ومال برأسه قليلا نحو الأرض واسلم الروح بسلام". وعلى الرغم من رغبة نجيب في وصيته أن يدفن في السودان، إلا أنه دفن في مصر في جنازة عسكرية مهيبة، وحمل جثمانه على عربة مدفع، وقد تقدم الجنازة الرئيس المصري حسني مبارك شخصيا وأعضاء مجلس قيادة الثورة الباقين على قيد الحياة لتطوى صفحة رجل قاد أهم نقطة تحول في تاريخها الحديث.