قرينان من شأنهما فتح بوابات جهنم

العنف والطائفية في كتابين لـ «المسبار»

TT

البلدان التي يتعرض لها كتاب" الطائفية" هي بلدان غنية، وصاحبة تجارب وقدرات، وبإمكانها التشديد على الخيار الأول، وهو خيار التعايش، ولا يتأتى هذا إلا عبر تبني ثقافة المساواة، ونبذ ما من شأنه الحط من الآخر دينياً أو مذهبياً أو قومياً. إلا أن الاستقرار الطائفي، أو الاجتماعي، في وضع المنطقة المتشابكة الحدود والعابرة الطوائف والقوميات، بحاجة إلى فعل إقليمي مشترك.

دأب مركز "المسبار للدراسات والبحوث" على إصدار كتابه الشهري في شأن الحركات الإسلامية المعاصرة، ومتابعة ملفات الإسلام السياسي إجمالاً، الذي تمخضت عنه جماعات سلكت سبيل المواجهة الشرسة بالأحزمة الناسفة، وهي أمضى الأدوات وأشرسها وأحدثها، من حيث عدد الضحايا وحجم الخراب. ويقدم المركز في سلسلة كتبه كتابي: "اللاعنف" و"الطائفية"، بعد تناول ملفات سابقة خاصة بحركات دينية، مثل "السرورية" والأحباش". وفي هذين الكتابين يتناول الباحثون والكتاب القرينين: العنف والطائفية، إن صحت العبارة، وهما متلازمان أحدهما ممر إلى الآخر. ومن المؤكد أن العلاقات السلمية، التي يشوبها الحوار ونوايا التعايش، لا توفر أرضية لتعصب واحتراب طائفي، كذلك لا تجد مشاعر العنف أخصب من الطائفية أرضية. وكم تبدو المواجهة شرسة مع العنف المدمر في البشر والعمران، والساري كالنار في الهشيم في عقول الشباب عبر الفتاوى والأناشيد، والتنظيمات المغلقة على ثقافة الموت وصناعته.

نقرأ في الكتاب الأول "جدلية الصراع الإنساني وتحييد العنف" لخالص جلبي، و"مبدأ اللاعنف وتحدي العمل الإسلامي" لإدريس المهدي، و"دعوات اللاعنف الإسلامية" لمحمد سعد، و"بين العنف واللاعنف" و"قوس قزح لنادية سلطان"، و"من دعاة اللاعنف الإسلامي" لبلال الشاغولي. و"وضعية المرأة في التشريعات العربية المعاصرة" لعبد الحميد الأنصاري. وهناك مقدمة سبقت البحوث بتوقيع رئيس المركز تركي الدخيل.

نقرأ في المقدمة: "لقد بقيت تلك النصوص والاجتهادات مغيّبة عن المشهد الإسلامي العام، بحكم استمرار الصراعات والنزاعات العنيفة، حتى ظهر تيار فكري وديني يتبناها ويطرحها بقوة في إطار مدرسة تُقدم رؤية جديدة في قراءة التراث والواقع قراءة لاعنفية". أثارت الكلمات الآنفة مسألة ظاهرة التساهل الفكري أو التساهل في التعاطي مع العنف كظاهرة فكرية مبررة ومسوقة عبر مفاهيم لها مناسباتها الزمنية وهيكليتها، بل أُبعدت النصوص والمواقف التي اعترضت ذلك التسويق أو التبرير.

كانت ظاهرة العنف ملموسة، بل ومهيمنة في طابعها القومي والديني والمذهبي. وربما فكرت الأنظمة الرسمية وغير الرسمية بأن مقابلة ذلك الفكر بفكر اللاعنف هو إيجاد مبرر للعنف نفسه، مثلما هو الحال مع الطائفية، فقد تُرك الاعتراف بوجود المذاهب، وما تعاني منها من سطوة الممارسة، بذريعة عدم التشجيع على الطائفية، حتى كان الانفجار. لذا يرى خالص جلبي في موضوعه الآنف الذِكر، أن جوهر اللاعنف هو تحييد العنف، وأن لا يُنظر له من تحت أغطية الشعارات الملهمة لفكرة العنف نفسه، ومنها الصلح مع إسرائيل، أو إبطال الجهاد. بل ليكن على حد عبارته تفكيك آلية جريمة القتل. ومن وجهة نظري، لامعنى لفكرة تحييد العنف، لأنه ظاهرة مطعمة ضد الحياد من الأساس، وحتى لا تلوى أعناق المصطلحات لوضعها في غير محلها علينا أن نذهب مباشرة إلى تحجيم العنف ومواجهته، فما معنى الحياد غير السلم أو اللاعنف! وبالتأكيد ليست هناك منطقة وسطى ما بين العنف واللاعنف حتى تكون منطقة حياد، كذلك لا وجود ولا معنى لتسمية اللاعنف في حالة حياد أو موت العنف، فوجود الظاهرتين بتناظرهما لا بإلغاء أحدهما.

بطبيعة الحال، ليس العنف بما نراه فقط من مشاهد مفزعة تذكر بكوارث الطبيعة المهولة من البراكين والأعاصير أو هجوم الكائنات الخرافية، إنما تلك المشاهد جاءت تراكماً من عنف المنزل والمدرسة، ومن الضغوط التي يولدها القهر السياسي، والقهر الاجتماعي، حتى نشطت الدعوة إلى العنف الأشمل والأعم تحت شعارات مقدسة: الدفاع عن الدين مثلاً. والثمن، مثلما عرضته الفتاوى الجهادية، أنه الجنة. جاء الحديث عن ثقافة اللاعنف متأخراً كثيراً، لم يؤخذ بفلسفة غاندي، ولا دعوات العديد من متصوفة المسلمين ورهبان العرب، وشعرائها الأقدمين مثل زهير بن أبي سُلمى، حتى تطورت البدايات إلى هذا التراكم المريع.

ومع ذلك، ليس هناك أهم وأوجب من فتح ملف اللاعنف، بداية من تحريم العنف بضوابط وقوانين وإشاعة ثقافة جديدة في المدرسة والمنزلة والعمل والشارع، ثقافة ضد مولدات العنف كافة. ويختتم الكتاب بقراءة يوسف الديني لكتاب جودت السعيد، وهو أحد الشخصيتين المشار إليهما بدعاة اللاعنف مع خاص جلبي، ومن عنوان الكتاب "كن ابن آدم" يدرك السعيد أن الأصل بالبشر هو اللاعنف، والعبارة تخرج دعاة العنف من آدميتهم إلى التوحش.

بعد كتاب "اللاعنف" أصدر مركز "المسبار" مباشرة كتاب "الطائفية"، عالج فيه باحثو وكُتاب العدد مفهوم الطائفية ومظاهرها، ومناطق التماس الطائفي في العراق، ودول الخليج، ولبنان، وإيران. ومن عناوين الكتاب: "مفهوم الطائفية بين التجاذب الديني والسياسي" ليوسف الديني، و"توظيف الطائفية سياسياً بالعراق" لرشيد الخيُّون، و"الطائفية ومشكلة بناء الدولة في لبنان" لأحمد الزعبي، و"شيعة الخليج من المصادمة إلى المشاركة السياسية" لأكرم ألفي، و"الطائفية في الخليج.. الواقع والمستقبل" لعلي الغراش، و" إيران التشابك الطائفي والقومي" من إعداد حسين الأهوازي، و"حول خارطة الأقليات في العالم العربي" لهاني نسيرة، ثم "التجديد الإسلامي.. الماضي والحاضر" لجمال البنا، فقراءة في كتاب: نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة.

هناك حالة محرجة وصلت إليها علاقة التعايش بين الطائفتين السُنَّية والشيعة بالعراق، والأمر ليس كما يبدو نتاج مباشر لسقوط دولة البعث والاحتلال، إنما هناك أوليات قد لا نتجاوز الحد إذا قلنا إنها تمتد إلى العصر العباسي، ثم كُثفت في العهود التي تلته، ووصلت الذروة في العهد العثماني والمواجهة مع العهد الصفوي. أما تحريك الطائفية وبهذه الشدة والقسوة فهو مجرد انفعال سياسي استغل تلك التركة المتراكمة، والتي لم تبرز بهذا العنف إلا سياسياً. وما حصل أن الأرضية الطائفية موجودة كثقافة وفكر وممارسة بحدود ما يختلف حوله المذهبان، حتى غدت مفتوحة لبيانات القاعدة، ونداءات الأحزاب الطائفية، فمن العسير أن تجد حزباً دينياً خالٍ من الطائفية، مع اختلاف الدرجات.

أما في إيران، فالأمر أعمق وأشد إذا ما عاشت الظرف الذي عاشه العراق من غياب الدولة والنظام، والديمقراطية المفاجئة إثر دكتاتورية متأصلة، ذلك لكثرة المذاهب والأطر الاجتماعية فيها، والتباعد الذي أوجدته الجمهورية الإسلامية، حيث البحث عن الحقوق، والتصادم بين شروط الدولة ذات المظاهر الدينية والمذهبية، وبين الديمقراطية المعلنة والمسموح بها سياسياً بإذن فقيه الدولة أو الثورة. هناك غليان طائفي بأكثر من بلد، تراه يشتد بلبنان وإيران بعد العراق، ويبرز بجلاء بالبحرين ودول الخليج بأشكال مختلفة. لهذا الغليان عوامل عدة، منها السياسية ومنها الاقتصادية، إلا أن المجتمع، خارج إطار الدفع السياسي من قِبل الأحزاب والفقهاء السياسيين، يبقى سليماً من موجات العنف الطائفي، ولا تحركه تلك الاختلافات إلى حد رفض المجاورة التاريخية.

وهناك عدة احتمالات لما سيكون عليه مستقبل التعايش أو التجاور الطائفي، وأحسنها هو المشاركة غير المنقوصة، سياسياً واجتماعياً، ولا يتدبر هذا الاحتمال، أو الخيار، إلا بمفارقة مبدأ الفرقة الناجية من النار، حسب منطق مؤرخي الملل والنحل، أو القومية المُختارة، ولا بد من مراجعة لخطاب الطوائف الحاكمة، والطوائف المحكومة أيضاً، دفاعاً و هجوماً. ولا مندوحة من هذا الخيار إذا توفرت الرغبة للحفاظ على وحدة البلد واحداً متنوعاً.

ومن أكثر الاحتمالات أو الخيارات شؤماً هو المواجهة بعد تكريس الكراهية، ولا يبقي هذا الاحتمال على وحدة البلد، بل قد لا يوفر العيش الرغيد للمنطقة بأسرها، عندما تتحول إلى جزر تحكمها كيانات طائفية أو قومية متحاربة. وهذا مالا يرغب به التواقون إلى الوحدة الوطنية، والجادون في مواجهة مقدمات التقسيم، التي تسير الآن على قدم وساق بالعراق مثلاً، الذي، حسب الخيار الثاني، سيتوزع إلى: شمال كردي، ووسط وجنوب شيعي، وغرب سُنَّي، لكن الساعين إلى تلك الأقاليم – الدول - لم ينظروا في ما ستؤول إليه بغداد المشتركة، والموصل المختلطة وديالى المتجاورة المذاهب والقوميات. علماً أن الخيار الأخير يبقى خياراً سياسياً، وربما هو جار بلبنان أيضاً.

عموماً، البلدان ذات الطوائف، والتي تعرض لها كتاب المسبار هي بلدان غنية، وصاحبة تجارب وقدرات، وبإمكانها التشديد على الخيار الأول، وهو خيار التعايش، ولا يتأتى هذا إلا عبر تبني ثقافة المساواة، ونبذ ما من شأنه الحط من الآخر دينياً أو مذهبياً أو قومياً. إلا أن الاستقرار الطائفي، أو الاجتماعي، في وضع المنطقة المتشابكة الحدود والعابرة الطوائف والقوميات، بحاجة إلى فعل إقليمي مشترك، فترك السُنَّة مضطهدين بإيران سينعكس بالتأكيد على الموقف من الشيعة في مكان آخر، وأن بقاء الوضع الطائفي بالعراق بهذه الحمأة وتغذيته سيمتد أثره إلى بقية البلدان وبقوة. أقول هناك أرضية وحاضنة للعنف والطائفية معاً لا ينتهيان إلا بشعور الآخر بحقه في الأرض والدولة مثل غيره، وأن زوال المظلومية لا يعني الهيمنة على السلطة، مثلما يدعي البعض، بل يعني تأسيس ثقافة للتعايش، وبالتأكيد لا تضمن ذلك دولة دينية ولا سلطة قومية.