المخرج التونسي نوري بوزيد لـ «الشرق الأوسط» : وحدهم المتطرفون يمتلكون جرأة التعبير عن انفسهم

نوري بوزيد: لا أستطيع التطرق لموضوع التطرف وأنا أمارس الرقابة على نفسي
TT

> "آخر فيلم"... لماذا هذا العنوان المتشائم؟

- لأنني أثناء التصوير، وفي قلب الشريط شعرت بإحباط شديد، وخفت ألا يرى فيلمي النور. أحسست أني مجهد من كثرة الجبهات المفتوحة أمامي. فالفيلم احتجز بعد عملية الميكساج، ثم أني لم أكتب جميع أجزائه مسبقا، فجاء السيناريو فضفاضا، لأني لو كتبته بدقة لرفض، وتم الاعتراض عليه، منذ البداية.

كانت هناك عجلة، وبداخلي إحساس يقول إن هذه آخر فرصة لديّ لقول الأشياء بصراحة. فجاء العنوان من صلب معاناتي السابقة والآنية مع صنع أفلامي.

لقد وصلت رسائل كثيرة إلى وزارة الداخلية تشي بنا، وتتهمنا بصنع فيلم متطرف، كتبها سينمائيون. كما تفاقمت الخلافات مع الشخصية الرئيسية للفيلم لدرجة أراد فيها التخلي عن الدور لخطورته. وبالتالي تحولت الضغوط إلى إحساس بضرورة الإسراع في إنجاز الفيلم. كانت لديّ عجلة المرأة الحامل التي تخشى أن تضع للدنيا مولودا ميتا.

> بطلك ليس شخصية نمطية. إنه شخص متمرد وبالتالي يشكل نقيضا لنموذج الأصولي الذي رسمته في فيلمك، بدليل أنه يتمرد أيضا على الأشخاص الذين سعوا إلى غسل دماغه؟

- الأشخاص الطيّعون لا يتحولون إلى انتحاريين. كان البطل منذ البداية متمردا على كل المؤسسات العائلية والدينية والتربوية. متمرد بمعنى أنه مستعد للمواجهة ولدفع الثمن. وعندما اكتشف الأصوليين وانحاز إليهم اكتشف أنهم يشكلون بدورهم مؤسسة صارمة، فكان لا بد له أن يتمرد عليها، لكنه كان قد قطع شوطا كبيرا ولم يكن بمقدوره العودة إلى الوراء، فكان الجنون ثم الموت.

> في نهاية الفيلم نكتشف أن غضب البطل تحول ضده ليدمره. هل معنى ذلك أن المواطن العربي لا حلّ لمشاكله سوى التدمير الذاتي؟ وهل أضحى الموت هو الوسيلة الوحيدة للخروج من النفق: القتل أم الانتحار؟

- أبدا. لكني أدفع الأمور إلى ذروتها لأصدم المشاهد المرتاح في قناعاته، لكي أقول إن تلك الشخصيات لم تجد مكانها في المجتمع الذي تعيش فيه. إنها صافرة إنذار أطلقها علّ الأمور تتغيّر قليلا. لكني في أعماقي لست متفائلا، فالأمور هي أبعد ما تكون عن التغيير ما دامت وسائل الإعلام العربية لا تقوم بدورها التنويري. إنها تطور خطابا لا يزعج بل يرضي الأغلبية، والدليل على ذلك كل تلك المسلسلات التي تنتجها دول الخليج.

إن بطل "آخر فيلم" عندما فجّر نفسه اكتسب صفة الضحية لأنه لم يقترف جرم القتل في حق غيره من الأبرياء. إنه أول ضحية للتلاعب، لكنه لعب بالنار فكان لا بد له أن يحترق. كان يمكن أن أضع نهاية أخرى أقل عنفا بوضعه في السجن، لكني لم أشأ أن أشجع الحل البوليسي في الكفاح ضد المتطرفين، كما أردت أن افضح المسؤولين عن تأطير هؤلاء الشباب والتغرير بهم.

> أنت تذهب إلى أبعد من طرح فكرة سوسة الإرهاب التي تنخر معظم الدول العربية. إنك تدينها، كما تدين طرق مكافحتها. بمعنى أن خطابك يزعج مرتين الأصوليين والسلطات العامة. فلماذا لم يستسغ الغرب هذا الخطاب، ورفض توزيع "آخر فيلم" في أوروبا في حين نجح فيلم "الجنة الآن" لهاني أبوأسعد، الذي يتناول نفس الموضوع، من سنتين؟

- لا أعرف. فقد عرض الفيلم في أمريكا، حيث قوبل بالترحاب، وحصل على جائزة أحسن سيناريو وأحسن دور رجالي، لكن مهرجان "كان" رفضه ولم يطلبه أي مهرجان فرنسي. أظن أن الغرب في كفاحه ضد الإسلاميين المتطرفين يحبذ القمع والقوة العسكرية، ولا يريد الاقتراب من روح أولئك الذين يفضلون تفجير أنفسهم ساعين إلى الشهادة وباحثين عن الجنة. في حين سعيت في فيلمي لفهم الآليات التي تحكمهم وتساءلت: لماذا لا نؤمن لهؤلاء الشباب حياة مختلفة تحول بينهم وبين الوصول إلى طريق مسدود. هذا التعاطف مع من اعتبرتهم ضحايا، لا يقبله الغرب كما لا يقبل الطريقة التي صورت بها هؤلاء الشباب، البعيدة كل البعد عن الصورة الكاريكاتيرية النمطية.

أظن أني في"آخر فيلم" صوبت كل سهامي إلى أكثر من مرمى. كان المرمى الأول أنا ذاتي وعلاقتي بكل ما هو مقدس. أما المرمى الثاني فكان عائلتي وقصتي معها، ثم واجهت قصص الحب قبل أن أواجه السلطات العامة والمتطرفين.

> جاءت فكرة إقحام هواجس المخرج في الفيلم، وشكوك البطل في صلب الفيلم أثناء التصوير أم كانت في ثنايا السيناريو الأصلي؟

ـ لقد اتخذ الفيلم منعطفا آخر. فلطفي، البطل الرئيسي، بدأ يخشى على نفسه ويتعبني، فكثُرت مناوشاتنا. لم يكن ممكنا بالنسبة لي أن أتطرق إلى موضوع التطرف وأنا أمارس الرقابة على نفسي. كان الأمر يقتضي مساحة كبيرة من حرية التعبير، أي من المخاطرة، وذلك ما لم يقبله لطفي الذي بدأ يخشى أن يصيبه أذى من الأطراف التي يفضحها وأن يعاقبه الله، فزاد توتره وكثُرت انفعالاته.. وإرهاقي. لم يكن لطفي ينام الليل وكان كثير الغضب كما قرر أن يتوقف عن التمثيل ويترك الفيلم، فرأيت أنه من الضروري نقل كل تلك الانفعالات إلى صلب الفيلم دون أن أحيطه علما بذلك.

لقد تم تصوير أربع وعشرين ساعة من المناوشات والخصومات بيني وبين بطل الفيلم، لكني لم أدمج سوى الأجزاء التي تعمق وتبرز الخلاف والرهان المرتبط بمصير الفيلم.

كان لطفي يريدني أن أهدأ في الوقت الذي لم يكن هو فيه مستعداً للهدوء. لقد بلغت حدة تماهيه بالدور الذي يقوم به لدرجة أصابته بالرعب. دام التصوير سبعة أسابيع مع كل الخوف الذي كان يلبسنا والمخاطر المحيطة بنا.

تجربة هذا الفيلم، تجربة خاصة مع الممثل لطفي عبدلي. لقد ورطته كثيرا في العمل واستعملته بطريقة جعلتني أطوعه للشخصية التي أردت منه أن يجسدها، ولذا أنا سعيد بكل الجوائز التي نالها كأحسن ممثل، لأنها تمثل بالنسبة لي تعويضا للأضرار النفسية التي ألحقتُها به.

>أنت نفسك تحولت في هذا العمل من مخرج إلى طاغية. لقد جعلت بطلك يصبح مجنونا وقتلته في النهاية، على الرغم من أنه مجرد ضحية.

- أردت أن أكون معادلا للمتطرف عبدو، الشخصية التي سعت إلى التلاعب بالمشاعر الدينية للبطل، وقد سيّرت الممثل لطفي عبدلي مثلما سيّر "عبدو" المتطرف "بهتة" الراقص. الدور كان، أصلا، مكتوبا للطفي، فقد اشتغلت معه في"عرائس الطين" ووجدت انه تلقائي ويتصرف بالسليقة، لكنه في الوقت نفسه منضبط ومستعد للخضوع لكل مراحل التصوير، ولكل التغيرات الجسمية والشكلية، فاستغللت انضباطه كما استغللت جنونه.

>شخصياتك في"صفائح الذهب" "عرائس الطين " و"رجل الرماد" أو"ريح السد" مهزومة، مكسورة، تعيش دائما الشك والتوتر، وغالبا ما تكون نهايتها مفجعة، هل ذلك اعتقاد منك بلا جدوى أي مشروع اجتماعي كفيل بإخراج المجتمعات العربية إلى التطور، من ناصرية وشيوعية وإسلاموية؟

- شخصياتي مهزومة إلى أقصى حد، لأني لست بائعا للأوهام الكاذبة ولأني لا أستطيع تجاهل ضياع وحيرة الشباب العربي الناجم عن الهزائم المتلاحقة. الهزيمة هي قدرنا، وشخصياتي تعكس بصدق هذا القدر. هل لك أن تذكري لي انتصارا واحدا منذ هزيمة 67 إلى الآن؟

أفضل أن أكون متشائما، أغرز السكين في الجرح لكي أحرك المتفرج وأدفعه إلى التساؤل، لعل شيئا يتغير.

>يقال ان الأصل في الإبداع هو الجرح. فما هو جرحك؟

- في طفولتي عانيت من العنف. كان أخي يضربني بشدة كما ضربني المعلمون. الضرب كان القصد منه تربيتي. ومن هذا الإحساس بالاضطهاد صرت أقرب إلى المستضعفين، من فقراء ومضطهدين. بعد ذلك بسنين شكلت هزيمة 1967 جرحا غائرا في ذاتي. وذلك واضح في فيلمي"عندما سكتت شهرزاد عن الكلام المباح" حيث تحدثت عن عبد الناصر، الأب الذي أصبح من غير الممكن العيش معه ولا العيش بدونه.

لقد حدث الأمر نفسه مع الحبيب بورقيبة الذي وضعني، والكثيرين، في السجن، لكنه ظل أبا متنورا ومتسامحا على الصعيد الاجتماعي، في حين لم يرض أبدا بأن يشاركه أحد الحكم، على الصعيد السياسي.

القهر والاضطهاد أهم عنصرين في تربية أجيال عديدة وبالتالي بدأت بإدانتهما منذ أول فيلم أخرجته حيث تناولت موضوع اغتصاب الطفولة. لقد كنا مهزومين منذ أن وُلدنا. مهزومين مسبقا.

وقد جاء اعتناقي للشيوعية تعزيزا لمساندتي للمغلوبين على أمرهم وكأنما أنتقم لهم من القدر الحتمي. أظن أن القاسم المشترك بين كل أفلامي هو تمرد الشخصيات المقهورة على وضعها الحتمي، وبالتالي اتسمت أفلامي بديناميكية وحيوية تشكل لوحدها عنصرا إيجابيا ينفي التشاؤم بدليل أن الأخ الأصغر لـ"بهتة" بدأ يردد أغنية الأخ الذي فجّر نفسه، أي أنه بدأ يعي الأسباب التي أودت بأخيه ويطرح لها بديلا عبر وعي حقيقي وجديد.. لكن هذه الطاقة التي تمتلكها الشخصيات تظل غير مُوظفة في الغالب الأعمّ.

هذا الفيلم الأخير لا يحمل سني. إنه مرتبط بسن الشخصية الرئيسية (25 عاما)، لكني لم أقتل أبدا الطفل الذي بداخلي. إني أنميه دوما، كما أحاول استعادة طفولة ضاعت مني في كل فيلم أنجزه.

> الإبداع، أيضا، إجابة عن أسئلة ملحة تحاصر المخرج. فما هي الإجابات التي سعيت إلى إيجادها عبر هذا الفيلم؟

- عبر "آخر فيلم" حاولت الإجابة عن سؤالين، أولهما عام، حول السر في تحول شخص ما إلى التطرف. أي كيف يصبح شاب يحب الحياة انتحاريا؟ أما السؤال الثاني فخاص بي وبمدى الحق الذي أمتلكه في الحديث عن موضوع مثل هذا؟

عندما عرض الفيلم بتونس، تساءل الناس: لماذا أتحدث عن موضوع الإرهاب وهو ليس موجودا عندنا. فتأكد الهاجس الذي كان يسكنني بضرورة مناهضة هذا الإرهاب الزاحف عبر فضحه، وبضرورة الكفاح من أجل مزيد من الحرية في التعبير عن كل القضايا التي تشغلنا مهما كانت حساسيتها، ومنه جاءت بنية الفيلم متوافقة مع هذين المحورين. فالبطل المتمرد انتهى إلى الخضوع ثم تمرد من جديد على وضعه الخانع. مساران متقاطعان في فيلمي يتعاكسان باستمرار: رفض الإرهاب والحق في الحديث عنه.

> وماذا عن الأسئلة التي حاولت طرحها في أفلامك السابقة؟

- لقد فكرت في الأمر كثيرا. وأنا حاليا بصدد تحرير كتاب حول كتابة السيناريو أورد فيه أمثلة صورتها في أفلامي.

فلطالما حاولت محاربة الإقطاعية المعرشة بداخلي والمنتشرة في محيطي. كل مواضيع أفلامي تمحورت حول محاربة الإقطاعية المتفشية في مجتمعاتنا الحديثة في كل أشكالها، وأظن أني ذهبت في فيلمي الأخير إلى أقصى مدى في محاولة اجتثاثها.

أنا الآن سعيد لأن أعمالي لاقت إقبالا وحظيت، على مرّ السنين، بالاعتراف. أنا رجل رفض دوما أن يتحول إلى بائع للأوهام، ففضل التدريس وكتابة السيناريوهات للآخرين على أن يصنع أفلاما دعائية، وبالتالي فإني، عندما أصنع فيلما، تهمني بالأساس مساءلة الناس في حياتهم اليومية ودعوتهم إلى مراجعة أنفسهم وواقعهم لكي يتمكنوا من وعي ذواتهم. السينما التي أصنعها تشبه مرآة تعكس الصورة الحقيقية للناس، تريهم عيوبهم، لذا تبدو صعبة ومنفرة أحيانا. فالناس يرفضون رؤية صورتهم ويصرون على التأكيد ـ حين يناقشون أفلامي ـ على أنهم ليسوا كذلك. هذا النفور لطالما أشقاني في السابق، لكني اكتشفت أن الناس لا ترفض أفلامي بل ترفض صورتها المنعكسة فيها، وأنهم مع الزمن بدأوا يستمتعون بها، لأنهم أحسوا بمدى التعاطف الذي أحمله لشخصياتي. ثم أني لا أسقط أبدا في الميلودرامية، وذلك أمر يحبه الناس. السينما التي أصنعها خرجت من صلب السينما المصرية لكنها كانت الابن الذي تمرد على أبيه وأراد قتله، فجاءت بالتالي نقيضا لها.

> تقول في أحد الحوارات أن الفيلم أعاد إليك علاقتك بعائلتك. فهل يعود ذلك إلى نظرة المجتمع التونسي للسينما كفن غير مقبول؟

- مشكلتي لم تكن مع المجتمع التونسي، فهو كان دائما منقسما حول أفلامي. إذ إني أشكل بالنسبة إليه فخره وخزيه في الآن نفسه. لكنه في فيلمي الأخير لم ير سوى مفخرة له. تظل مشكلتي الأساسية مع عائلتي، فقد قطعت صلتي معها منذ أن قررت الاحتفاظ باستقلاليتي وتحمّل تبعات خياراتي. لقد دخلت السجن خمس سنوات بسبب أفكاري السياسية ولم تؤازرني عائلتي المحافظة، كما كانت دائما متحرجة من كل أفلامي. حدثت القطيعة عندما أحسست بالحاجة إلى المحافظة على ذاتي ولم أكن أبدا ضدهم، وذلك ما صعُب عليهم فهمي.

بعد عرض الفيلم طلبت مني أختي الحضور إلى البيت وهي على فراش الموت وتمتمت أن الشمل اجتمع أخيرا. كانت تنتظر مجيئي لتموت في سلام.. أظن أن الفيلم تضمن صدقا شعر به جميع الناس، خاصة بعد أحداث ديسمبر ـ يناير في تونس، عندما لاحق الأمن التونسي أفراد الجماعات الإرهابية. كان هناك تعطش لفهم ما حدث بتونس. وقد لاحظ الجمهور أن فيلمي يجيب عن أسئلتهم حول هذا الموضوع لأنه تطرق لها قبل وقوعها، كما لاحظ أنني أقف إلى جانبه ولست ضد بلدي.

> من أبرز همومك إعادة الاعتبار للسينما التونسية والعربية عموما. فهل يعود تراجع هذه السينما على تقليص مساحة الحرية في الوطن العربي أم للمقتضيات الجديدة للسوق؟

- ليست حكاية انعدام الحريات، بدليل أن العرب الموجودين بالخارج يعيشون عجزا عن القيام بدورهم الطليعي. فإذا كانت الحريات مفتقدة علينا بافتكاكها. ظني أن هناك أزمة فكر في الوطن العربي لأن هناك انعدام مشروع مجتمع. لقد غدت اهتمامات المفكرين مادية أكثر وابتعدوا عن الاهتمامات الفكرية الحقة. الوحيدون الذين يمتلكون جرأة التعبير عن أنفسهم هم المتطرفون. أصبحت طليعتنا خلف أظهرنا. إن دور السينما يتلخص في إظهار ما يخفى عن النظر في حياتنا اليومية، كيف تفسرين أنني، وأنا في مثل هذه السن، أكثر جرأة في طرح المواضيع مقارنة بأجيال أقل مني سنا وأكثر ثقافة؟