صحوة «المجتمع المدني» عاصفة إيجابية تضرب لبنان

لقاء في «سان كلو» ومبادرة نخبوية في بيروت

برنار كوشنير خلال مؤتمر «سان كلو»
TT

استضافت فرنسا اخيرا منتدى تشاوريا في ضاحية «سان كلو» الباريسية، ضم شخصيات سياسية لبنانية، إضافة الى خمسة ممثلين عما يسمى بـ«المجتمع المدني»، وذلك في اطار محاولة لفتح باب الحوار بين الأفرقاء اللبنانيين المتوغلين في نزاع تاريخي. بدت علامات الرضا واضحة على ملامح راعي اللقاء، وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير عندما سئل في معرض تقديمه ملخصا للصحافة

حول أعمال المنتدى وعن مساهمة فعاليات المجتمع المدني في إطاره. فقد رد الوزير باعتزاز واضح، أنها المرة الأولى

التي يجري الاعتراف فيها بدور ما لهذا المجتمع، ليس على صعيد لبنان وحده، وإنما في الشرق بأكمله.

لفهم أسباب اعتزاز وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، بعد هذا اللقاء في سان كلو، لا بد من العودة الى سجله المهني وتجاربه الحياتية. وفي هذا السياق يروي د. كامل مهنا، رئيس مؤسسة عامل، التي تقدم نفسها كمنظمة غير حكومية، ذات منفعة عامة، أن معرفته بالطبيب كوشنير تعود الى بدايات الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975 يوم جاء الى لبنان مع مجموعة متطوعين من جمعية «أطباء بلا حدود» التي كان يترأسها، بهدف المساهمة في معالجة مصابي الحرب. آنذاك كان مهنا، وهو طبيب أطفال، يمارس عملا تطوعيا مماثلا، بين منطقة النبعة ومخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين. التقى الطبيبان في احدى المستشفيات المتواضعة، حيث عملا معا على تخفيف الآلام الكثيرة التي خلفتها الحرب. ويتذّكر محدثنا أن احتدام القصف دفع طبيب التخدير الوحيد في المستشفى الى مغادرته، حرصا على حياته. فكان أن جرى تدريب أحد المتطوعين ممن لا علاقة له بمهنة الطب، على تقنية التخدير، ليحل محل الطبيب طيلة فترة لا بأس بها. يضيف مهنا أن صلته بكوشنير استمرت بعدما تولى هذا الأخير منصب وزير الشؤون الإنسانية في بلاده، في العام 1989 بالتزامن مع اندلاع فصل جديد من فصول الحرب الأهلية اللبنانية، تحت اسم «حرب الإلغاء». يومها جرى إرسال 570 جريحا لبنانيا الى فرنسا لتلقي العلاج.

شكلت هذه الخلفية التي استند اليها الوزير الفرنسي حافزا لطرحه مبادرة تتعلق باستضافة فرنسا لقاء لفعاليات المجتمع المدني اللبناني، بعد فشل أكثر من مبادرة سياسية، وذلك تعبيرا عن ثقة، تبررها التجربة، بقدرة الفعاليات المشار اليها، على ابتداع الحلول المؤهلة لإصلاح ما أفسدته السياسة. لكن المستمعين الى اقتراح كوشنير من المجتمع المدني اللبناني رأوا ان في دعوتهم وحدهم للتشاور، تماثلا مع القرار باعتماد المتطوع بديلا لطبيب التخدير. ثم أمكن الاتفاق بعد نقاش على اطار سياسي للمنتدى التشاوري، يجري تطعيمه بحضور من المجتمع المدني. ليست المرة الأولى التي يجد اللبنانيون أنفسهم فيها مضطرين للجوء الى الحوار، سواء داخل لبنان، أو خارجه، ويذكر المخضرمون منهم هيئة الحوار الوطني، عشية الحرب الأهلية عام 1975، كما يذكرون مؤتمرات جنيف ولوزان، والطائف الذي أنتج اتفاقا، لا يزال موضع جدل، لكن الجديد هذه المرة هو مشاركة فريق من خارج الإطار السياسي، أي من قوى المجتمع المدني، الذي كان تغييبه في المرات الماضية يعكس حالة من عدم الاعتراف بفكرة المواطنة، والانحياز الى مقولة الخانة الإحصائية، أو الى مقولة القطيع، وفقا للتوصيفات المتطرفة، حيث بامكان الراعي اختزال جمهوره، واحتكار التعبير عنه، والنطق باسمه.

لعل من شأن كل ما سبق، أن يبرر السؤال عن تعريف هذا المجتمع، وخصائصه، ومجالات فعله وهو الذي يضم مختلف قطاعات المجتمع بما فيهم كتاب ومثقفون وفنانون. يرى الباحث جميل هلال ان مفهوم المجتمع المدني انبثق تاريخيا من القناعة بضرورة حماية الفرد من تسلط الدولة، وارتبطت نشأته الحديثة بالحركات التي شهدتها دول أوروبا الشرقية في عقد الثمانينيات، والتي هدفت الى تقليص سيطرة الدولة على الاقتصاد والتشكيلات السياسية وصولا الى النقابات. وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي منح المفهوم بعدا «تنمويا» من خلال منظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ويضيف هلال أن المجتمع المدني دخل إلى الخطاب السياسي والفكري العربي من باب الحاجة إلى الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، أي من مدخل وضع المجتمع المدني في مواجهة الدولة (خلق ثنائية المجتمع والدولة وفق علاقة تنافر واستبعاد بينهما)، وليس من مدخل إعادة تنظيم الدولة والمجتمع المدني باعتبارهما ركيزتين أساسيتين للمواطنة، ولإرساء أسس الديمقراطية السياسية والاجتماعية. فإعادة تنظيم الدولة على أساس فصل السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، وتشريع حرية الرأي والتنظيم والتظاهر على أساس دستور يضمن الحريات المدنية أمور ضرورية لترسيخ المواطنة بما هي حقوق وواجبات. كما أن توسيع دور المجتمع المدني بما هو، بالأساس، أحزاب ونقابات وحركات اجتماعية تستند الى حرية المواطن في التنظيم والدفاع عن مصالح ورؤى وانتماءات، هو المدخل لتكريس الديمقراطية كتجسيد لتعددية المصالح والرؤى في المجتمع، وحق الأحزاب والقوى المختلفة في التنافس السلمي على السلطة سعيا وراء التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

أما المطران غريغوار حداد، مؤسس «الحركة الاجتماعية» التي انبثق عنها لاحقا «تيار المجتمع المدني»، فيتحدث عن عناصر كثيرة من سوء الفهم تجعل من وجود المجتمع المدني في لبنان هدفا صعب المنال، بالرغم من وفرة الجمعيات المعبرة عنه، والساعية لترسيخه. صعوبة الإنجاز، برأي حداد، لا تنفي امكانية تحققه، مما يحتم ضرورة هذا التحقق ما دام ممكنا.

في معرض سرده لهذه العوامل يشير المطران حداد الى إسقاط بعض العلامات التاريخية الغربية لمفهوم المجتمع المدني على التجربة اللبنانية، ويذكر على سبيل المثال حركة العلمانية التي نشأت في فرنسا، مطلع القرن الفائت، والتي اصطدمت بالكنيسة الكاثوليكية هناك، مما جعل أي سعي لبلوغ الدولة المدنية موضع شبهة الحادية من قبل الجمهور. وقد عزز من هذا الشعور، يضيف حداد، أن العديد من التجارب المشابهة في بعض الدول آلت الى حالة مماثلة، أي الى موقف عدائي من الدين. وهو يفسر ذلك بالقول ان القيم الكبرى تتسم دوما بنوع من الخطورة، مما يستلزم تمكنا من الأساليب المثلى لتطبيقها، بما يزيل عنها الأبعاد السلبية.

كما يشدد المطران حداد على ضرورة إزالة الالتباسات الكثيرة التي تدور في أذهان العامة حيال مفهوم المجتمع المدني، وترسيخه وفق تعريفه العلمي بوصفه ارتقاء فوق المصالح الفئوية، وفرصة لترسيخ علاقات سليمة بين الأفراد على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص والعدالة، والتحرر من السلطة القبلية.

لكن محدثنا لا يبرىء بعض دعاة المجتمع المدني في لبنان من شبهة تسخير مطالبتهم بتحقيقه لخدمة بعض مصالحهم الذاتية، ويتحدث هنا عن جملة من التوظيفات الخاطئة لهذا المفهوم، منها الاستعمال التسلقي الذي يمارسه بعض الراغبين في الارتقاء بمهامهم الوظيفية، ممن يصطدمون بالكوتا الطائفية المحددة في النظام الحالي، ومنها أيضا الاستعمال القانوني لدى الساعين الى تسهيل شؤونهم، لاسيما المتعلقة منها بالأحوال الشخصية. أما الأخطر فهو ذلك الاستخدام الذي يستند الى أسس طائفية، كأن يطرح المسيحيون العلمنة الشاملة بهدف إحراج المسلمين المعترضين على علمنة الأحوال الشخصية، ليبدو الامر كما لو أن المسلمين هم الذين يعيقون تحقيق هذا الإنجاز، الذي رفضته الكنيسة أصلا، وحاربته بضراوة.

الموجة المدنية اللبنانية لم تقتصر على «سان كلو» فقد تزامنت المناسبة مع تداعي حوالي ثمانين شخصية مثقفة، نخبوية، بينهم الشاعر أدونيس، الى لقاء برعاية رئيس المجلس النيابي السابق حسين الحسيني، أعلنت في ختامه ولادة «المركز المدني للمبادرة الوطنية» الذي تضمن اعلانه دعوة اللبنانيين الى حكم أنفسهم بأنفسهم على قاعدة الحرية والمساواة، وبناء الدولة الحقيقية المتجاوزة للشعارات نحو جوهر العمل المؤسساتي.

ويقول أحد المؤسسين، الذي رفض ذكر اسمه، بانتظار صدور الوثيقة الفكرية الناظمة لعمل المركز، إن اطلاق مبادرة وطنية على أسس مدنية جاء استنادا الى قناعة راسخة بضرورة تفعيل القدرات الكامنة لدى الشعب اللبناني، وتحرير طاقة الفعل لديه، بعد رصد امكانات ايجابية شتى كامنة في المجتمع اللبناني، تمتلك القدرة على الفعل والتأثير، فيما لو أزيلت العواقب الطائفية التي تمارس الكابح، بل ربما المعطل لأي مشروع تغييري. وجدير بالذكر ان هيئات المجتمع اللبناني كانت قد لعبت دوراً مهما جداً اثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، ونشط المثقفون ضمن الناشطين فكان للرسامين والمسارح والفنانين والكتّاب من الفعل، ما يستحق المراجعة والمعاينة، لدرس أبعاد هذه الظاهرة، للعمل على الدفع بها إلى الأمام، وهو ربما ما يحدث اليوم.