طفرة في مصر لتجسير الفجوة المعرفية

TT

تشهد مصر ارتفاعا ملحوظا في حجم الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، حيث صار الكتاب المترجم، يحتل المكانة الأولى لدى القارئ المصري بحسب ناشرين مصريين. ولعل الواقع السياسي والعلاقة المتوترة بين الشرق والغرب هي التي أفرزت هذا التعطش العربي للكتاب المترجم في كافة المجالات، لا سيما الكتب السياسية والعلمية. كما أن هذا الواقع السياسي نفسه وضع الغرب أمام "الحالة الشرقية" في أبرز تجلياتها، الأمر الذي عكسه اهتمام السفارات والمراكز الثقافية الأجنبية بالترجمة ومحاولة نقل افرازات الحداثة الغربية وروافدها العديدة خاصة، في النظرية السياسية والانتقال إلى الديمقراطية والحكم الرشيد والتحديث.

وفي سياق الاهتمام المصري بالترجمة، لا يزال "المشروع القومي للترجمة" وإصداراته الهامة، تتصدر الواجهة في مصر، مما يعكس إدراك الدولة للفجوة المعرفية الواسعة بين الشرق والغرب. فمع بداية المشروع الذي دشنه "المجلس الأعلى للثقافة" في مصر في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، اتسعت آفاق الترجمة، وطرقت أبواب ثقافات، لم يكن لها حظ من قبل في مشاريع الترجمة مثل اليابانية والصينية والكورية وغيرها. واحتفل المشروع في فبراير من العام الماضي بإصداره الكتاب رقم ألف. وتعزيزا لأهداف المشروع، تم تحويله إلى هيئة مستقلة تحت مسمى "المركز القومي للترجمة" برئاسة الدكتور جابر عصفور الذي يرجع إليه الفضل في تأسيس المشروع، إبان توليه منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة. ويعتبر هذا المشروع امتدادا لمشروع الألف كتاب الأولى الذي بدأ في أغسطس عام 1955 وتضافرت في دعمه عدة مؤسسات وإدارات ثقافية، وتولى الإشراف عليه نخبة من أقطاب الحركة الثقافية في مصر منهم: طه حسين،سليمان حزين، حسين مؤنس. وبرغم توقف المشروع في الستينيات، إلا أنه حقق نجاحا كبيرا في ميدان الترجمة، فأصدر عدة مئات من الكتب في الأدب والفن، وبعض الكتب في العلوم، كما قام بإصدار كتب مبسطة، على غرار السلاسل الأوروبية الشهيرة.

ومن الجهود التي بذلت في مجال الترجمة العلمية، ما قام به "المجلس الأعلى للعلوم" منذ إنشائه في عام 1956، حيث وضع برنامجا لترجمة أهم الكتب المرجعية في العلوم الأساسية، كإسهام في تعريب التعليم الجامعي. وقدم المجلس بالفعل أكثر من ثلاثين كتابا تعد من المراجع العلمية الأساسية في علوم الكيمياء والفيزياء والحيوان والنبات والحشرات والرياضيات، وغيرها. وزود الكثير منها بكشافات تضم المصطلحات العلمية الأجنبية ومقابلها باللغة العربية. لكن هذا الجهد توقف حين صدر قرار بإلغاء المجلس في عام 1961. وفي السياق نفسه شهدت مصر تجربة أخرى شبيهة، قامت بها مؤسسة "فرانكلين" في أوائل الستينات، حين أخرجت إلى المكتبة العربية عدة مئات من الكتب المترجمة، لكن هذه التجربة طواها النسيان بعد توقف نشاط المؤسسة ورحيلها عن مصر.

هذه المشاريع وغيرها، بما اكتسبته من خبرات خاصة مع الواقع الثقافي المصري، كانت إحدى البوصلات المهمة للقائمين، حاليا، على مشاريع الترجمة.

وحسب داليا إبراهيم، مدير عام النشر في "دار نهضة مصر للطباعة والنشر"، فإن الترجمة في مصر استوعبت هذه التجارب، لتنطلق في ما، تشهده من طفرة كبيرة، حالياً، سواء في مجال الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية أو من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى. إذ بدأت دور نشر مصرية، تتلقى طلبات للحصول على حقوق النشر والترجمة من دور نشر عالمية خاصة في مجال الكتب الدينية والروايات وكتب الأطفال، ومنها على سبيل المثال أعمال الكتاب المصريين المخضرمين، أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس وعباس محمود العقاد، وكذلك أعمال الجيل الحالي من الأدباء والمبدعين مثل، جمال الغيطاني وعلاء الأسواني وغيرهم. وقالت إبراهيم "ان عالم ما بعد 11 سبتمبر، أفرز اهتماما خاصة بالثقافة العربية والإسلام وبدأت المؤسسات الثقافية الغربية في تمويل مشاريع تنموية للترجمة تهدف إلى إمداد المكتبة العربية بمئات من الكتب الأجنبية الحديثة التي يفتقر إليها المشهد الثقافي العربي، ولا سيما الكتب العلمية والموسوعات. حيث قام "المركز الثقافي الأمريكي" في مصر بتمويل مشروع ضخم للترجمة، بدأنا فيه منذ ثلاث سنوات، على ثلاث مراحل، لإمداد مكتبات المدارس الحكومية بكتب مؤلفة ومترجمة من شتى صنوف المعرفة، خاصة الكتب العلمية والمعاجم والموسوعات التي يجد القارئ العربي صعوبة في شرائها لارتفاع أسعارها". وأضافت إبراهيم "ان عدد الكتب المترجمة ضمن هذا المشروع، وصلت إلى 400 كتاب تقريباً، من أصل أكثر من 700 عنوان مؤلف ومترجم، مشيرة إلى أن منحنى إنتاج الكتب المترجمة في "دار نهضة مصر" يشهد أيضا ارتفاعا ملحوظا وصل إلى نحو 200 كتاب مترجم سنويا من اللغات الأجنبية المختلفة إلى اللغة العربية خاصة في مجال الأطفال. حيث يشهد السوق المصري إقبالا كبيرا على كتب الأطفال المترجمة، لا سيما سلسلة "هاري بوتر" التي تتولى "نهضة مصر" ترجمتها وتوزيعها في المنطقة العربية، إضافة إلى إصدارات "ناشيونال جيوغرافيك" العلمية المهمة والتي نقوم بإصدارها على هيئة مجلة شهرية وسلسلة كتب أيضا. كما أن هناك سلسلة شهيرة من دار النشر الإنجليزية البارزة DK بعنوان Eyes Wittiness Guide تحظى بأهمية خاصة، كونها موسوعة شاملة وسلسلة مرجعية مهمة للطفل المصري".

ولا يغفل في هذا السياق المراكز الأجنبية التي أصبحت تشكل حلقة مهمة من حلقات الطفرة التي يشهدها عالم الترجمة، حيث بدأت هذه المراكز لا سيما المركز الثقافي الأميركي والفرنسي ومعهد جوته الألماني، في تقديم مشروعات للترجمة للناشرين المصريين، من خلال عرض قائمة بإصدارات أجنبية محددة يختار منها الناشرون العناوين التي يرونها صالحة للبيئة المصرية. وتقوم هذه المراكز، بتمويل شراء حقوق الطبع من دور النشر الأجنبية، وكذلك تمويل تكلفة الترجمة، بينما تقوم بعض هذه المراكز بشراء عدد محدد من النسخ، تسمح للناشر بتكرار التجربة. غير أن هذه المشاريع لا تزال تعمل في إطار محدود من خلال تقديم عناوين محدودة، لكن تظل هذه المراكز رافدا من روافد إنعاش حركة الترجمة في مصر.