شهادة ناقصة على سنوات الجمر

العراقي عبد الرزاق الصافي يصدر الجزء الأول من مذكراته

TT

كانت فترة السجن من أغنى فترات حياة المؤلف، كما يقول، بسبب ما كان يتمتع به السجناء السياسيون العراقيون في الخمسينات من وضع جيد نسبياً بمعايير العراق الخمسينات، حصلوا عليه بفضل نضالاتهم وإضراباتهم عن الطعام.

يلاحظ الكثير من المتابعين لقراءة المذكرات ان العراقيين من رجال السياسة والعاملين في الحقل العام قد أخذوا يبادرون بنشر مذكراتهم وشهاداتهم عن الماضي، وهي ظاهرة جديدة نسبياً في الأدب السياسي العراقي، مقارنة بالبلدان العربية الأخرى .

وانضم أخيراً إلى هؤلاء عبد الرزاق الصافي، احد الوجوه المعروفة في الحركة الشيوعية العراقية، الذي عمل في صفوفها قرابة الستين عاماً وشغل مواقع قيادية فيها على مدى يزيد على الثلاثين عاماً، عضواً في اللجنة المركزية ومكتبها السياسي ورئيساً لتحرير جريدة الحزب الشيوعي العراقي المركزية "طريق الشعب" وغيرها من المواقع القيادية. كتاب الصافي" شهادة على زمن عاصف وجوانب من سيرة ذاتية"، الذي صدر أخيراً عن دار " قرطاس" - ليس مذكرات ولا هو سيرة ذاتية، بل هو كما يقول المؤلف في مقدمته،التي عنونها "لماذا هذه الشهادة " "ليس دراسة تاريخية ولا رواية ادبية، ولا حتى سيرة ذاتية متكاملة، بل هي باختصار شديد شهادة على زمن اعتبره عاصفاً تحوي جوانب من سيرة ذاتية "، تردد المؤلف كثيراً، كما يقول، في دفعها الى المطبعة، إذ كتبها في العام 1998، جراء شعوره بالتطلب الشديد من جانب القراء وملاحظاتهم السلبية على عدد من كتب المذكرات التي اصدرها الآخرون.

كرّس المؤلف الفصل الاول لطفولته وجعل عنوانه "طفولة قاسية"، وهي طفولة قاسية حقاً إذ تعرّض فيها لامراض عديدة، وتوالت فيها وفيات عدد من رموز العائلة، وهي كبيرة، سببت الحزن والحرمان من بهجة الاعياد حتى للاطفال الصغار. واحتوى الفصل على لمحة تاريخية مختصرة عن ممارسة بعض الشيعة لعادة ضرب رؤوسهم بالسيوف ليسيل منها الدم في العاشر من محرم الحرام كل عام، وهو ما يـُعرف بـ"التطبير" مبيناً إنها عادة دخيلة على العرب، ساعد على انتشارها في العراق تلك الايام، المنع التعسفي من قبل السلطات، منذ ثلاثينات القرن الماضي، ثم أخيراً في عهد صدام حسين، الذي بالغ في التنكيل الطائفي الى حد فاق أسلافه، كما تطرق المؤلف في هذا الفصل الى بعض الاحداث التاريخية من قبيل مقتل الملك غازي في العام 1939 وحركة رشيد عالي الكيلاني في العام 1941 من وجهة نظر طفل في المدرسة الابتدائية . وانتقد نظام امتحان الصف السادس الذي يسبق تقدم التلاميذ لاداء امتحان البكالوريا المسمى"الامتحان التمهيدي"، وكانت دورته آخر دورة عانت من هذا "الامتحان السخيف" على حد قوله.

وكرّس الفصل الثاني لـ"سنوات الدراسة الثانوية" واساتذته فيها وزملائه، وذكر المبرزين منهم ممن لمعت اسماؤهم في عالم السياسة والادب ورجال الاعمال والفن. وركز المؤلف في الفصل الثالث على بدايات "الوعي السياسي والانخراط في العمل الحزبي ". وهو فصل غني بالاحداث السياسية: إلغاء الاحكام العرفية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإجازة الاحزاب الوطنية وتشكيل "عصبة مكافحة الصهيونية"، والاضرابات العمالية، وخصوصاً إضراب عمال النفط في كركوك وإنتهائه بمجزرة كاورباغي في تموز (يوليو) 1946، وملاحقة الصحف الوطنية وتقديم مسؤوليها الى المحاكم في صيف 1946، وتعطيل حزبين من الاحزاب الوطنية ومحاكمة قادة الحزب الشيوعي في بداية العام 1947، وإجراء إنتخابات مزيفة جديدة على يد نوري السعيد تمهيداً لخلق الظروف المؤاتية لعقد معاهدة جديدة مع بريطانيا بدلاً من معاهدة 1930، التي كانت القوى الوطنية تطالب بإلغائها. وعرفت المعاهدة الجديدة بـ "معاهدة بورتسموث، التي جوبهت بمعارضة شديدة من الشعب توجت بوثبة كانون الثاني (يناير) 1948، التي اسقطت الوزارة والمعاهدة. وعزز المؤلف هذا الفصل بصور المظاهرات ومواكب تشييع قتلى الوثبة التي تُظهر أيضاً مشاركة المرأة العراقية فيها بقوة.

وتحدث المؤلف في هذا الفصل عن العقوبات التي عوقب بها جراء نشاطه السياسي ومن ثم تقديمه مع بضعة عشر شاباً من ابناء مدينته كربلاء الى المجلس العرفي العسكري، في صيف 1948، وما اعقب ذلك من سعيه للانخراط في العمل الحزبي .

وفي الفصل الرابع تحدث المؤلف عن دخوله كلية الحقوق ونشاطه السياسي والحكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ، ومن ثم الحكم عليه بتنفيذ الحكم بشكل تعسفي، وإرساله الى السجن قبل شهرين من موعد امتحان التخرج في كلية الحقوق في العام 1952. ولذا كرّس الفصل الخامس للفترة التي قضاها في السجن. وهي فترة من أغنى فترات حياته، كما يقول، بسبب ما كان يتمتع به السجناء السياسيون من وضع جيد نسبياً بمعايير العراق، حصلوا عليه بفضل نضالهم وإضراباتهم البطولية عن الطعام. هذا الوضع الذي لم يستمر طويلاً بسبب الاحداث المفجعة في العام 1953، الذي ارتـُكبت فيه مجزرتا سجني بغداد والكوت، اللتان اودتا بحياة عدد من السجناء وجرح ما يزيد عن المئة. وهو نفس العام الذي سعى فيه مع عدد من زملائه المفصولين من كلية الحقوق الى العودة الى الكلية من دون ان يوفقوا في ذلك إلا في بداية العام 1954. وبعدها لجأ المؤلف الى الاختفاء عن أنظار الشرطة لمواصلة نشاطه السياسي في البصرة، حيث قضى فيها سنة إنتهت بإعتقاله وتقديمه الى محاكمة جديدة بتهمة "التشرد وعدم وجود وسيلة جلية للتعيش"!

وبعد فشل دائرة الامن في سجنه مرة اخرى أرسل لقضاء ستة اشهر في الدورة العسكرية التي ابتدعتها حكومة نوري السعيد لحجز المئات من الاساتذة والمدرسين والطلبة المفصولين . وكرّس لهذه الدورة الفصل التاسع تحت عنوان "ضابط احتياط سلاح سز!".

وكان الفصل العاشر مكرساً للحديث عن المؤتمر الرابع لاتحاد الطلاب العالمي في براغ، إذ ترأس وفد الاتحاد العام للطلبة العراقيين، والتقى هناك بياسر عرفات. وكرس الصافي الفصل التالي للحديث عن انتفاضة خريف 1956 دعماً لنضال الشعب المصري وتأميم قناة السويس باعتبارها "تمرين نضالي اخير يسبق ثورة الرابع عشر من تموز 1958". وهو فصل غني بالمعلومات عن الانتفاضة وتفنن وزارة نوري السعيد في قمعها.

وجعل المؤلف خاتمة الكتاب اعتذاراً متأخراً لأبيه لما بدا منه من قسوة تجاهه بالقول له في رسالة وجهها اليه في العام 1952 عندما نفـّذ الوالد تهديده بأنه لن يمدَّ يد المساعدة اليه اذا ما اعتـُقل لاحقاً، " ان الحصرم الذي اكلتموه هو الذي ضرّس اسناننا ". ويستطرد المؤلف بالاعتذار فيقول:" " سيكون اعتذاري مطلوباً بإلحاح اكبر إذا ما قارنت وضعه وجيله، بوضعي وجيلي . فهو لم يكن من العاملين في الحقل السياسي، وحقق جيله دولة منقوصة السيادة تسير في طريق التطور ببطء، في حين كنت كادراً شبه محترف، قبل احترافي العمل الحزبي منذ ثورة 14 تموز 1958، وعنصراً قيادياً في أكبر حزب سياسي بعدها. وعلى الرغم مما حققه جيلنا، بتضحياته الكبيرة، من مكاسب للشعب، غير ان وطننا وشعبنا عانى في حياة هذا الجيل ما لم يسبق له مثيل. فكم من الحصرم اكلنا؟ وكم تضرست اسناننا، وتضرست وتتضرس اسنان الجيل الذي جاء بعدنا؟"

إن الكتاب شهادة غنية يحتاجها جيل المؤلف وابناء الجيل الحالي ودارسو تاريخ العراق والمجتمع العراقي. ولكنها تظل ناقصة لانها توقفت عند ثورة الرابع عشر من تموز، وخلت من تقييم مفصل للعهد الملكي أشمل من القول ان ذلك العهد تحققت فيه دولة منقوصة السيادة تسير في طريق التطور ببطء. ولعل الأجزاء القادمة تسد هذا النقص.