أسئلة لانهائية تعبر عن عجزنا المطلق

إيكو يقارب معطيات ما يسميه «تاريخ السقوط» من أفغانستان إلى العراق

TT

بطريقته المعروفة ولغته القاطعة يستكنه امبيرتو ايكو الظواهر الكبرى، حين يقايس التمايز بين ما هو مثير، وما يفقر صورة العالم اليوم.

 ففي كتابه "السقوط " يرى انه: "لا يوجد شيء اليوم يخلو من التشويش والارتباك، كما لا يوجد شيء بعيد عن التجهيل والالتباس". يبتدئ ايكو تعبيره الأول على هذا النحو في وجه أسئلة الحاضر منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وحرب أفغانستان حتى الحرب على العراق التي تأخذ حيزا كبيرا من الكتاب. هنا يقف ايكو معلقا: "إن الرئيس بوش يبدو لي مثل شهرزاد.. عليه أن يقدم لنا كل يوم حكاية عن الحرب في العراق قبل أن تنتهي حياة الراوي.. أيا كان الراوي.. شهرزاد.. أو السيد الرئيس".

في الكتاب إشارات ومقتربات تفسر الافتراضات حول محدودية فرص الإحساس بالأسى لدينا كمجاميع متلقية أمام عجز وسائل وأدوات التحليل والفهم لما يحدث، ذلك أن الارتباك بلغ كل تلك الأدوات مرة واحدة في عالم مولّد من طرفين مشبوكين متعالقين هما: الارتجال والإرادة المرتبكة لإدارة مستقبل العالم في ظل أحادية تنطوي على مطالب لجوجة، وفردانية تقع في اطار مشهدي في فضاء امبراطوري محض!.

ان الفترة الواقعة بين عامي 2000 و2005، هي الفترة الأكثر التباسا في الميدان السياسي والإعلامي كما يرى ايكو، إذ ارتكبت حماقات مشؤومة حولت حياتنا إلى أسئلة لانهائية تعبر عن عجزنا المطلق.

كانت ثمة حصرية مغلقة لدى النخبة السياسية وذلك استيفاء لثمن تاريخي يقدمه الإعلام كوجبات مقننة، ندفع ثمنها نحن تجهيلا وارتباكا.. وعجزا.

 ان ايكو يكرر في مقاربته لوقائع ومعطيات مرحلة مهمة من تاريخ السقوط الذي يحاول أن يؤرخ له دونما التباس او مواربة. يقول: "إن الاستعراضات الكرنفالية لسيليفيو بيرلسكوني كمدمن كلمات، وثرثار فض، وشطحات رامسفيلد التي تخلو من اللباقة، التي تحتاج الى سلسلة لانهائية من الاعتذارات، تذكرني تماما بمقتبسات مذهلة من خطب هتلر وموسليني".

يكرس ايكو نقده للتضليل الإعلامي والتعمية اللفظية وتعدد مراجعها التي جعلت الأكثرية في هذا العالم مثل ذباب يلتم على فضلات أي مليونير شهير، بحيث يبدو ان احتقار الأغلبية وسقوطها، شأنها شأن سقوط ادوات العصر ورجاله، هي حقيقة بديهية لضياع القيمة والهدف التاريخيين وانحلال منظورهما المحتمل حتى غدا غائما ومجهولا.

في نص ايكو بلاغة نقد، وصرامة تقويم تستندان إلى رؤية لا تؤل ذاتها، بل تعرض مفرداتها عارية في افعال سياسية ساقطة ومقولات رعوية. وغالبا ما يرى ايكو ان الأهداف مولّدة وفق سياق تراتبي: من مواجهة الإرهاب الى حروب النفط، الى اسقاط نظام صدام حسين من اجل كشف الأسلحة المحرمة، وصولا الى مواجهة التنين الأحمر القابع بعيدا في بكين المحتشدة بالدراجات والشغيلة الجديدة.

نحن ايضا، يستطرد ايكو، ادمنا اللغة، حيث تبدو طريقتنا في الحوار والمنطق والاستنتاج في الحاضر والمستقبل مثل عملية التنقية من الفضلات أو إصلاح البيئة لذواتنا المشبوكة في حفلات التهليل والبيعة لأحداث وحروب ومناسبات لا نريدها ان تحدث. لكننا نهذي من حولها مثل مخلوقات ضعيفة تردد عن ظهر قلب قواعد التابوهات المجهولة وغير المفسرة.

الكلام هو نظاراتنا الزجاجية

في هذا الفصل يؤكد ايكو ان أولوية الهدف الحياتي هو الكشف عن وفضح "سلطة إدمان اللغة"، وهي عملية مخادعة وجميلة يمارسها الآخر لتعميم الخدر. ويستعرض مقاطع متنوعة من خطب موسليني وهتلر ورامسفيلد وبيرلسكوني وسياسيين آخرين كاشفاً التجهيل الذي تنطوي عليه تلك المصادر اللغوية التي يستقي منها هؤلاء مادتهم، ويقول عن ذلك: "ربما اللغة هي عملية ذاتية مهمة.. لكن بالرغم من ذلك يحتاجها المرء في كل سقوط أيضا".

اللغة لديه إزاحة خارجية لغائية مبهمة تشكل ثقل هؤلاء الخطباء المجهولي القيمة في المعيار المعرفي والمنطقي أيضا لدى الأغلبية المشوشة عمدا!.

لكن الكلام المعرفي كوسيط، كما يرى ايكو، هو استعمال دلالي للغة ليكون العالم واضحا لدينا كأفراد أسوياء، لكنه في كل نكوص عند البعض هو إسقاط ومساقطة ثقافية ومعرفية تحمّل الثقافة مسؤولية التعويض النفساني نحو هدف سوائي يستهدفه مدمنو اللغة النمطية في وسائل الإعلام للتشويش على العموم كتلك الحالة التي يمثلها الرئيس بوش لـ (ألف ليلة وليلة العراقية اليوم).. ويقول ايكو إن السقوط نسبيا هنا واضح في مثل هذا التساقط النفساني الاستباقي لتلقينا الواعي لكي نظل أسرى سحر الحكاية، وخوف العقاب الذي ينتظر شهرزاد فيما لو اخفقت في إتمام الحكاية حتى الفجر.

يستعرض ايكو في هذا الفصل، بحدة وجلاء معا، الفروقات بين الحروب الكلاسيكية وحروب ما بعد الحداثية في ظل العولمة والإرهاب والحروب الدينية، وبين المعرفة والسحر. هذا العالم الذي تغزوه ظواهر كاسحة مثل رواية وأفلام هاري بوتر وحضور الأخ الأكبر بصور تقنية شتى في حياتنا المراقبة بعمق بالصورة والصوت من قبل قوى خفية داهمة تشتغل على تنميط السلوك واللغة معا.

في ذات الوقت يسقط امبيرتو ايكو معايير مرحلة مهمة للتجربة الاشتراكية على النتائج المنطقية الحمقاء للتجربة البروليتارية في ظل الماركسية وتطبيقاتها. لقد كانت تلك النظرية قائمة على نبل نظرية فائض القيمة، ونبل اندماج الطبقة العاملة في بنية مجتمع جديد متساو وموعود بالرفاهية. وإذا به على العكس، حيث تخرج الطبقة العمالية من محفل الآمال والوعود إلى كرنفال الاستهلاك المضني مجبرة على الانسحاب من المعرفة الطبقية الى معرفة الإعلان والأطباق الجاهزة عند مطاعم ماكدونالد والبيغ بورغر حتى لتبدو نظرية فائض القيمة مثل مزحة تاريخية.

منظور تاريخي

لا يكتفي ايكو بنقد وتقويم مظاهر السقوط المعاصر، بل يذهب عميقا إلى التاريخ والى كتابته، معتبرا ان التاريخ هو "تصميم الانتلجنسيا في كل عصر منذ اوغسطين حتى اليوم". ويرى ان مظاهر القوة التاريخية أيضا هي نوع من التسويغ لإرادة فردية غائية لها أهداف الإزاحة أو المرور بالحدث من دون تفسيره أو الإسهام فيه من دون أن تكون للغالبية غير مهمة التجمع الأهوج الذي يحصل اليوم في تاريخنا الحاضر على أبواب سلسلة مطاعم البيغ ماك.. والوجبات السريعة..

أمام سلطة القوة الفارغة لمظهرية الإعلان الذي يستدرج المجموعات إلى التجمع حول الفضلات اللغوية والفكرية لمدمني الكلام ممن سوغوا لنا التجهيل والعجز والهامشية، حتى ليبدو زمن السقوط هذا ليس سقوطهم هم.. بل سقوطنا نحن.

* شاعر وكاتب مقيم في السويد