الشخصية السكندرية .. ملامح وسمات سينمائية اختفت مع الحرب

أخذت من البحر ثورته في بعض الأحيان وهدوء أمواجه في أحيان أخرى

TT

يتناول هذا الكتاب الشخصية السكندرية في السينما المصرية التي تحتفل هذه الأيام بمئويتها، ويشكل الكتاب بفصوله المتنوعة رحلة بحث شيقة عن خصوصية هذه الشخصية التي ارتبطت بمدينة تعد إحدى البوابات المهمة لواحدة من أكبر حضارات العالم وهي الحضارة اليونانية.

يرصد المؤلف سامي حلمي الإسكندرية بمختلف جوانبها، من حيها الإفرنجي إلى حيها الشعبي. ومن سكانها الأصليين لسكانها الوافدين. ويحلل سمات الأفلام التي تناولتها كمكان له تاريخ وروح خاص، أو كأشخاص اكتسبوا من طبيعتها المتوسطية هوية الأفق المفتوح على الذات والعالم، كما يعرج على حاناتها وحناطيرها ولاعبي البيانولا الذين كانوا ينتشرون في أرجائها.

يحصر حلمي قصة السينما في الإسكندرية ما بين عام 1896 وحتى 1939 على يد المصورين " عزيز بندرلي وأمبرتو مالافاس دوريس" اللذين كانا يمتلكان محلا للتصوير الفوتوغرافي بمحطة الرمل، وقد تميز كل منهما عن أقرانه من الأجانب الذين يحترفون التصوير الفوتوغرافي، وهو ما جعلهما يختصان بتصوير وتسجيل نشاطات السلطان " عباس حلمي الثاني" وحاشيته من تحركات ومناسبات وطنية واجتماعية ورياضية، وأصبحا نجمين في مجالهما وقد طورا من إيقاع الصورة الفوتوغرافية الثابتة إلى الصورة المتحركة على الشاشة.

ويذكر المؤلف أنهما سعيا إلى صنع أول شريط سينمائي في مصر، وكان ذلك في عام 1907، وكان الفيلم بعنوان " زيارة جناب الباب العالي للمعهد العلمي بمسجد أبي العباس "، ويروي عرضاً لموكب الخديوي عند الوصول إلى ساحة المسجد وتفقده للمعهد العلمي به، واستقبال الجماهير له عند الوصول وتوديعهم له عند المغادرة. ويشير المؤلف إلى أن"عزيز ودوريس" امتلكا ذكاء الصانع الماهر في هذا الشريط، الذي يختص بمباهج المناسبة الدينية، وعلاقة الحاكم بالجماهير، وهو ما أعطى أثراً طيبا لدى المشاهد بما يعرض عليه، ويمس مشاعره، وهنا تحقق لهما ما أرادا من نجاح لشريطهما الأول، الذي دفعهما إلى تكرار التجربة في أشرطة أخرى على أرض الإسكندرية.

ويروي المؤلف أنه خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وجد العديد من المبدعين وصناع السينما الذين قدموا نشاطا ملموسا بالثغر، عبر استوديوهات أقاموها بالمدينة مثل: سيتشيا، الفيزي، لاماو توجو، وإلى جانب هذا كانت هناك محاولات لأفراد في نفس المضمار، وهو ما أدى إلى ازدياد في صالات ودور العرض السينمائي، ولم تتوقف حركة الأفلام الوافدة من الخارج، لذا تطلب كل ذلك وجود منظومة إدارية واعية تعمل نحو تنظيم الحركة السينمائية، وهو ما أسفر عن ظهور شركات إنتاج وتوزيع أجنبي ـ مصري، وهي شركات يمتلكها أفراد أو تجمع لأكثر من فرد، كانت لديهم الأموال وخبرات السوق التجاري لأنهم يعملون في مجالات تجارية وصناعية متنوعة، لكنهم وجدوا في النشاط السينمائي المتزايد فرصة لإضافة أنشطة وأرباح أخرى، إضافة إلى البريق والاهتمام بهذا النشاط الجديد داخل أوساط المجتمع بكافة شرائحه الاجتماعية. وقد تخصصت بعض هذه الشركات في توزيع أفلام لدول بعينها، وشركات أخرى لأكثر من دولة منها: فلاديميراندرياس، اندريه صليب ومنتخبات بهنا فيلم.

هذا الزخم السينمائي الكبير الذي شهدته الإسكندرية في تلك الفترة فرض نفسه على الكثير من الصحف العربية والأجنبية فأبرزته باهتمام لافت مثل جريدة "لايفورم" باللغة الفرنسية، "الأهرام" بالعربية ومجلة "اللطائف" المصورة. ثم ظهرت على الساحة المجلات المتخصصة بفن السينما على وجه الخصوص كمجلة "سنجراف جورنال" ومجلة "سينما" بالفرنسية، ومجلة "معرض السينما" بالعربية. وكان القاسم المشترك في هذه الإصدارات، رائد النقد السينمائي " السيد حسن جمعة" الذي كان يقيم بالإسكندرية ويعمل بمهنة التدريس، حتى أثارت الأنشطة السينمائية بالمدينة اهتمامه، واقترب من العاملين بالمهنة، خاصة "الأخوين لاما"، كما أنشأ ناديا للصور المتحركة عام 1923 ومعه مجموعة من المهتمين بهذا الشأن، كان من أبرزهم " زكريا محمد عبده " الذي عمل بالنقد السينمائي إلى جواره.

بعد ذلك يتناول المؤلف مسيرة رواد السينما بالإسكندرية، مثل الفيزي أورفانيللي 1919، ومحمد بيومي مؤسس المعهد المصري للسينما بالإسكندرية عام 1932، مرورا بالأخوين لاما أو الشقيقين " بدر وإبراهيم لاما " اللذين جاءا إلى الإسكندرية من شيلي ويتحدران من أصول فلسطينية، ثم توجو مزراحي الذي قدم علي الكسار وليلى مراد، ثم محمود خليل راشد أول من استخدم الخدع السينمائية في الفيلم المصري من خلال فيلمه " مصطفى والساحر الصغير " 1932 . ويذيّل المؤلف هذا الفصل بمجموعة من الوثائق للأنشطة السينمائية بالإسكندرية، من خلال شركات الإنتاج والتوزيع والجمعيات والإصدارات التي ظهرت في تلك الحقبة.

وبنظرة حثيثة إلى تاريخ الفن السابع سنجد علاقة الإسكندرية بالسينما قد بدأت عام 1896 وظلت وطيدة حتى عام 1939، لينتقل بعد ذلك النشاط السينمائي بالكامل من الإسكندرية إلى القاهرة عام 1939. ويرجع المؤلف سر هذه النقلة إلى بداية الحرب العالمية الثانية وهو ما دفع الأجانب المقيمين إلى الهروب إلى خارج البلاد، واكتفى البعض بالهروب إلى القاهرة. فكانت بدايات الأنشطة السينمائية خاصة بعد إنشاء ستديو مصر عام 1935، والذي شكل نقلة جديدة في تاريخ السينما المصرية، مما شجع وحفز آخرين على الولوج في عالم السينما، وأصبحت القاهرة " هوليود الشرق". وكان فيلم" العزيمة" الذي أنتج عام 1939 محطة هامة في تلك الفترة، كما ظهرت في هذه الأثناء جريدة مصر السينمائية أو الجريدة الناطقة التي لا تزال تصدر حتى الآن.

ويؤرخ سامي حلمي في كتابه لأهم سمات وملامح الشخصية السكندرية، مقسما عروس المتوسط إلى شطرين: الحي الإفرنجي والحي الشعبي، ثم السكان الأصليين والسكان الوافدين. ويرى حلمي أن الشخصية السكندرية تكونت ما بين شخصية أصلية وأخرى وافدة لكن الجميع انصهر في بوتقتها دون تمايز فيما بينهم، ثم يستعرض الملامح والسمات التي تميز كل فئة من حيث المظهر الخارجي، وكيف تم تناولها من خلال الأعمال التشكيلية والسينمائية.

ويخصص المؤلف جزءا من كتابه لابن بحري، إذ يرى أنها شخصية سكندرية صريحة موجودة بشكل أساسي في المدينة القديمة، لها علاقة بالبحر، وهي شخصية مقدامة شجاعة، أخذت من البحر ثورته في بعض الأحيان وهدوء أمواجه في أحيان أخرى. وقد احتلت هذه الشخصية مساحات مهمة في عدد من الأفلام السينمائية، وفي أعمال الروائيين المبدعين. فنجدها، مثلا، عند نجيب محفوظ الكبير في رواية "الطريق"، التي تحولت إلى فيلم يحمل نفس الاسم من إخراج حسام الدين مصطفى. ونجد المخرج القدير يوسف شاهين السكندري المولد في مجموعة من أفلامه سكندرياً حتى النخاع، فدائما ما توجد مدينته الأثيرة لديه في مشاهد من أفلامه عبر المكان والشخصية، كما كانت الإسكندرية محطة مهمة في بداياته مع السينما في فيلم " صراع في الميناء" الذي تدور أحداثه بالكامل في الإسكندرية بالفعل، حيث يحمل الفيلم ملامحها وسمات شخوصها، كما يجسد بمكوناته الشخصية، انفعالاتها وثورتها وحبها لبيئتها، ودفاعها عن كيانها.

أما شخصية المثقف السكندري فيراها المؤلف وليدة حي الأثرياء أو الأحياء الراقية في منتصف المدينة، ترتدي الملابس الأوروبية وتلم بمعرفة أكثر من لغة أجنبية إلى جانب العربية.

أما الفصل الثالث في الكتاب والذي جاء تحت عنوان "الإسكندرية المكان والشخصية في الأفلام المصرية" فيرصد فيه المؤلف بعض المشاهد التي لا تنسى في الأفلام المصرية، التي جسدت المدينة ونقلت الواقع السكندري بتفاصيله وزخمه اليومي الحي. ويوثق لأبرز الأفلام التي قدمت الإسكندرية كمكان مميز له خصوصيته وسحره، بداية من فيلم" البحر بيضحك "لاستيفان روستي، مرورا بأفلام:"حميدو "،"ريا وسكينة"، "رصيف نمرة 5"،" السمان والخريف"، "ميرامار"، "إسكندرية ليه"، "الصعاليك"، وحتى فيلم "البحر بيضحك ليه" للمخرج محمد كامل القليوبي عام 1995، وتناول المؤلف هذه الافلام من حيث التنوع في الشكل أو الطرح مع اختلاف الاجيال.

ويختتم هذا الجزء بالتطرق للأغنية السينمائية التي اتخذت من الإسكندرية خلفية ثرية لإيقاعها ومشاهدها، مشيرا إلى ما قدمه مدير التصوير الرائد وحيد فريد من استثمار مثالي لجماليات الإسكندرية في هذا المجال. ويذكر سامي حلمي في نهاية كتابه أن الإسكندرية قدمت نجوما ونجمات للسينما حققوا المكانة والشهرة، ففي المرحلة الأولي قدمت: بهيجة حافظ وفاطمة رشدي، وكاميليا، وكيتي وزينات صدقي، وحسن فايق وغيرهم. وواصلت الإسكندرية ضخ النجوم مثل عمر الشريف وشكري سرحان ومحمود مرسي ومحمود عبد العزيز، وهند رستم وزهرة العلا وسمير صبري ومديحة كامل ونادية الجندي وشويكار، كما أفرزت الإسكندرية من نجوم الصف الثاني: وحيد سيف ويوسف داود وأحمد آدم وأحمد رزق وطلعت زكريا، إلى جانب مخرجين مثل شادي عبد السلام ومحمد فاضل وأسماء البكري ومحمد علي.