لجنة «الضمير الثقافي» تهدد بفضح ممارسات المؤسسات الرسمية المصرية

الاجتماع التأسيسي الأول شهد خلافات تقرر حسمها فيما بعد

من أجل ضمير ثقافي
TT

قبل أيام أعلن عدد من المثقفين المصريين تأسيس لجنة لم يخل اسمها من إشكاليات فضلا عن جاذبيته، انها «لجنة الضمير الثقافي». الاسم يقدم دلالاته من دون حاجة إلى توضيحات كثيرة، فاللجنة تهدف إلى فضح ممارسات المؤسسات الثقافية الرسمية وكشف الفساد. هي إذن نواة لأول حزب ثقافي معارض إذا جاز التعبير. فبأي روحية تنطلق هذه اللجنة، وما مدى حظوظ نجاحها، وهل أعضاؤها هم من الفطنة بحيث ينجون بأنفسهم من الفخاخ التي وقعت بها المؤسسة الرسمية، التي يريدون مجابهتها؟

الإعلان عن "لجنة الضمير الثقافي"، جاء تلقائياً وعفوياً، خلال ندوة عقدت بورشة الزيتون الأدبية بالقاهرة للاحتجاج على حجب جائزة الدولة التشجيعية عن القصة القصيرة، رغم تقدم 29 متسابقا لها. الحجب لعدم وجود من يستحق الجائزة، استفز المبدعين الذين رأوا أن هذا القرار بمثابة إصدار شهادة وفاة مزيفة للقصة المصرية. بعد كلمات احتجاجية رأى الحاضرون أن الكلمات وحدها لا تكفي فولدت، فكرة "لجنة الضمير الثقافي". ومساء الخميس الماضي، عقدت اللجنة أول اجتماعاتها التأسيسية، فيما تم تخصيص اجتماع السبت القادم لحسم الأمور المختلف عليها بين المؤسسين (وهى عديدة)، وإصدار بيان تأسيسي يرصد واقع الثقافة المصرية الآن.

الإعلان عن اللجنة طرح بعض الاستفسارات عن أهدافها وأسلوب عملها، إضافة إلى تساؤل رئيسي حول مدى إمكانية احتكار جماعة ما لفكرة الضمير الثقافي. بعد نحو عشرة أيام من الانطلاقة الأولى اجتمع المؤسسون من جديد، يوم الخميس الماضي، وبدا أن التساؤل الأخير كان قد دار في أذهان بعض المؤسسين. الروائية صفاء عبد المنعم هي التي فتحت الباب أمام مراجعة الاسم، عندما قالت إن مصطلح "الضمير الثقافي" كبير جدا، ويحتاج إلى إعادة نظر. أيدها في ذلك آخرون من بينهم الناقد سيد الوكيل مؤكدا:"مصطلح الضمير الثقافي يعطى الموضوع مسحة سلطوية، وهو ما لا نرغب فيه". وهو ما دعا الشاعر شعبان يوسف للتدخل قائلا: "أنا الذي اقترحت المسمى، ووافقتم عليه في المرة الماضية لكني مستعد للتنازل عنه تماما، لقد كان ابن لحظته". وكان شعبان قد بدأ لقاء الخميس بالتذكير بما حدث قبلها بأيام:" الاثنين قبل الماضي، تم تشكيل اللجنة، في إطار الاحتجاج على حجب جائزة الدولة التشجيعية في القصة القصيرة، وقد تلى إعلاننا السابق اهتمام ملحوظ في الساحة الثقافية". اللجنة التي ولدت فكرتها في إطار احتجاجي لن يقف دورها عند هذا الحد على ما يبدو، أو على الأقل هذا ما يخطط له أعضاؤها. يقول شعبان:"نسعى من أجل وقوف اللجنة على قدميها، لكي تكون قادرة على تقديم المبادرات أيضا، وليس مجرد الاحتجاج".

كانت هناك في الاجتماع، إضافة إلى محاولة تشكيل هيكل تنظيمي محاولة لبلورة اهداف ما: "لن نستطيع أن نحدد أهدافا الآن، لكن هناك أهداف يمكن طرحها بشكل عام. سوف نسعى لفضح السلوكيات الرسمية في مجال الثقافة. نحن معنيون بالأساس بحال الثقافة في مصر، ولا بد أن نصدر بيانا عن حال الثقافة، خاصة في المؤسسات الثقافية الرسمية الكبرى التي أصبحت مترهلة"، شعبان يوسف، حدد أسماء "المجلس الأعلى للثقافة"، و"الهيئة العامة لقصور الثقافة"، و"الهيئة المصرية العامة للكتاب"، وانتقد أداءها بشكل عام، وإن ضرب مثالين لما يرى أنه يستحق الفضح من مشروعاتهما وهما "المشروع القومي للترجمة" و"مكتبة الأسرة".

كان قد رافق الإعلان عن مولد اللجنة اختيار الروائي فتحي امبابي مقررا لها. وهو المنصب الوحيد الذي تم شغله في الهيكل التنظيمي، ويبدو أن عدم تحديد بقية الهيكل جعل انسياب المعلومات بين المؤسسين صعبا في بعض الأحيان. فقد بدأ امبابي حديثه بكلمات سريعة عن أهمية تشكيل لجنة لصياغة بيان عن حال الثقافة في مصر، ثم انتقل مباشرة للحديث بالتفصيل عن مشروع جائزة للقصة القصيرة، على اعتبار أن الاحتجاج بدأ أساسا بسبب حجب جائزة الدولة التشجيعية. كان يبدو أن امبابي قد استغرق وقتا طويلا لوضع هيكل للجائزة، أوضح قائلا:"يجب أن تكون هناك لجنة إدارية للجائزة ولجنة تحكيم منفصلة يتم تشكيلها من النقاد والمبدعين غير المتقدمين للجائزة. وأيضا نحن في حاجة للجنة إجرائية تتولى وضع لائحة الجائزة". بعد أن استغرق فتحي امبابي في شرح فكرته، طرح سيد الوكيل سؤالا مفاجئا:" أود أن أعرف فقط، ما هي هذه الجائزة". سؤال الوكيل كان مهما لأنه كشف أن خطوط الاتصال في حاجة إلى تفعيل، فعدد من الحاضرين أكدوا فيما بعد أنهم كانوا يتساءلون داخليا عن موضوع الجائزة الذي ركز عليه امبابي، كما لو كان يختزل دور اللجنة في جائزة للقصة، دون أن يمتد مجالها حتى إلى الأنواع الإبداعية الأخرى، وهو ما يجعل دور اللجنة مجرد دور احتجاجي على موضوع محدد من دون غيره.

أكدت ليلى الرملي أن الجائزة لا ينبغي أن تكون أساسا في هذه المرحلة، فهناك قضايا مهمة في مجال الثقافة يجب التصدي لها:" لا بد أن تكون لنا مواقف بديلة، أو على الأقل يعلو صوتنا ضد الممارسات الخاطئة". فكرة الجائزة توارت قليلا لتعود للظهور بعد قليل من خلال تساؤل: هل ستكون جائزة باسم اللجنة؟ أم أنها هي نفسها تلك الجائزة التي أعلنت عنها صفاء عبد المنعم باسم زوجها الشاعر الراحل مجدي الجابري.

وكان إعلان صفاء عن جائزتها قد تم في نفس الندوة التي شهدت ميلاد اللجنة. غير أن صفاء تضع شرطا رأى بعض الأعضاء في حواراتهم الثنائية بعد انتهاء اللقاء أنه سبب أساسي لرفض اختزال جائزة اللجنة فيما سبق أن أعلنته صفاء من قبل، خاصة أنها تشترط ألا تكون الأعمال المطبوعة المتقدمة من إصدار هيئة رسمية! استبعاد رسمي تم الاعتراض عليه من الجماعة الثقافية، يرد عليه المثقفون باستبعاد بديل، وهو ما يؤدي الى حالة عناد ثقافي يخرج باللجنة عن إطارها، كما أنه يقود إلى استبدال سلطة ظالمة بأخرى لا ترفض الظلم إذا خرج من أصحابها. الغريب أن صفاء كانت منتبهة قبل إعلان شرطها هذا بلحظات إلى كل ماسبق عندما رفضت مصطلح الضمير الثقافي:" هل هناك ما يسمى بضمير الثقافة أم أنه مناخ عام ينبغي أن يسود؟ اتساءل لكي لا نفاجأ أننا نستبدل سيفا بسيف". تحفظ سيد الوكيل على فكرة الجائزة كان له ما يبرره:" لدي هاجس، لا ينبغي أن نصبح جهة بديلة عن المؤسسات الرسمية. دورنا مراقبة أداء هذه المؤسسات، وفضح ممارساتها. لكن أيضا لا ينبغي أن يقتصر الأمر على المؤسسات الرسمية، فهناك أدباء أو أشخاص تحولوا إلى مؤسسات، وكذلك حدث مع صحف وصفحات ثقافية ودور نشر. قبل أيام رفض ناشر نشر مجموعة قصصية لمبدعة وطلب منها رواية. أي أنه فعل ما كان سببا في اعتراضنا أساسا، وهو حجب تشجيعية القصة، لا بد أن نراقب الأداء الثقافي بشكل عام، من خلال متابعة لهذه الأدوار واستبيانات دقيقة".

واقترح الوكيل استعارة فكرة منظمات المجتمع المدني ودورها في مجالي السياسة والاقتصاد وتطبيقها في مجال الثقافة: "الحراك الثقافي أولى بوجود جمعية أهلية ذات طابع مدني". تحفظ شعبان يوسف على ذلك قائلا: "لو تحولنا إلى مؤسسة سيكون هناك هيمنة وتمويل". وأكد عمر شهريار على أهمية عدم تحول اللجنة:"إلى مؤسسة بديلة تطرح أفكارا مناوئة فقط. ينبغي أن نتذكر أن دورنا هو مراقبة الحراك الثقافي بشكل عام". وهو ما أيدته الأديبة هويدا صالح التي بدأت بوصف مسمى الضمير الثقافي بأنه فضفاض:"لكننا نسعى لخلق مناخ سائد، عندما نفضح ممارسات هيئة ما، أو الكشف عن شخصيات أدبية تحولت إلى كيانات لا يمكن التصدي لها، وينبغي أن نحافظ على عدم تحول الصحافة إلى سلطة علينا، كما انبه إلى أهمية تداول السلطة في اللجنة بين أعضائها".

الناقد يسري عبد الله مضى في السياق نفسه عندما قال:" نحن أمام محاولة لإعادة الاعتبار للجماعة الثقافية، لكن مسمى الضمير الثقافي يعطى انطباعا بأن الضمير قاصر علينا وأن الآخرين لا يملكون ضميرا". ويقترح حلا وسطا يحفظ للاسم جاذبيته ويخلصه من كونه فضفاضا:"الاسم يتضمن صرخة يجب الحفاظ عليها لذلك اقترح أن يتحول إلى: من أجل ضمير ثقافي. وبخلاف الاسم ارى ان هناك اشكاليات عديدة في الوسط الثقافي يجب مجابهتها. فما حدث في جائزة الدولة التشجيعية للقصة يتعدى كونه مجرد حجب إلى محاولة لتنميط الذائقة الإبداعية وفرض أشكال بعينها". في تعليق له اكد شعبان يوسف أن اللجنة شكل احتجاجي:" نحن نحتج على المؤسسة المهيمنة. إنها تأخذ أموالنا وتمنحها أحيانا لمن لا يستحقون. وعندما تعلن احدى لجان هذه المؤسسة وفاة القصة القصيرة في مصر، فإنها جريمة. وما حدث اليوم مع القصة القصيرة وقصيدة النثر، سيحدث غدا مع الشعر والرواية". وهنا تساءل الدكتور صلاح فاروق:"لو أن جائزة الدولة التشجيعية أعطيت العام المقبل لمن يستحقها هل يتوقف الاحتجاج؟". رد عليه شعبان يوسف بالنفي مؤكدا أن أسباب الاحتجاج متعددة. فاستطرد الدكتور فاروق:"هذا ما اود الوصول اليه. اللجنة ليست رد فعل على جائزة، وانما محاولة لإيجاد ضمير ثقافي مناهض لكل هذا الفساد. والأهم هو الكشف عن الواقع الثقافي الحقيقي الموجود. أتمنى ألا يقتصر أداء اللجنة إذا قدر لها الاستمرار على رد الفعل. نحتاج إلى خطط واضحة وفلسفة أداء محددة وجدول زمني. هناك اعتراض دائم لدى المثقفين على فكرة العمل المؤسسي، لكن العمل العام في كل أنحاء العالم الآن، بات قائما على المؤسسات الاهلية. أود أن أنبه إلى أن الإصرار على العمل الفردي لن يحقق شيئا".

انتهى الاجتماع التأسيسي الأول للجنة الضمير الثقافي بأوجه خلاف أكثر من جوانب الاتفاق، وبتساؤلات فاقت الإجابات. تعددت الأهداف وإن ركزت كلها على أهمية فضح مممارسات مؤسسات الثقافة الرسمية، بينما أصبح اسم اللجنة ذاته مهددا بالتغيير بعد أن منحها جاذبية في البداية لكنه تسبب في الوقت ذاته في التساؤل عن ضمانات عدم تحولها إلى محكمة تفتيش في ضمائر عدم المنتمين إليها. اختلف الأعضاء على الجائزة ، ولم يتفقوا على قدرة اللجنة على المبادرة أو قصر دورها على ردود الفعل على كل ماهو سلبي في حياتنا الثقافية. وهو دور مرغوب فيه لا يقلل من قيمتها. إضافة إلى كل ذلك، يبقى العدد القليل الذي حرص على الحضور مصدر قلق لأن لجنة كهذه تحتاج إلى قاعدة شعبية عريضة تستند إليها، وتمنحها ثقلا يدعم دورها الرقابي. لكن كل هذا لا يقلل من قيمة الحدث، فالواقع الثقافي يحتاج لمراجعات حقيقية.

شرارة صغيرة قد تتحول إلى حرائق كبرى، لكن الشرارة نفسها يمكن ألا تصمد في وجه نسمة، والمستقبل وحده هو الذي يثبت مدى قدرة الشرارة الطفلة على النمو... أو الانطفاء!