«الثقافة البيئية» تعيد الفرنسيين إلى الدرّاجات وتأمل الطبيعة

مئة جمعية ترسم حدوداً للعادات الاستهلاكية

باريس تعود إلى الدراجات
TT

لا حاجة اليوم لأن تكون منخرطا في منظمة بيئية أو في حزب الخضر لكي تُصّنف من حماة البيئة، يكفي أن تعيش حياتك العادية، لكن بنبرة قوية من الحسّ المسؤول، لكي تفوز بهذا اللقب المشرف. هذا ما يُقال اليوم للمستهلك الفرنسي والغربي بشكل عام، بعد أن اعتاد فخاخ الثقافة الاستهلاكية التي ضربت بجذورها في عمق المجتمع. وها هو المواطن يجد نفسه مُطالباً بأن يكون "مستهلكاً مسؤولا" تحت تأثير نشاط حركات حماة البيئة الذين بدأ خطابهم ينتشر كالنار في الهشيم، بعد الكوارث الطبيعية التي هزت العالم، ككارثة باخرة إريكا، والكلام الكثير عن خطورة ظاهرة الاحتباس الحراري التي يتابع العالم نتائجها الفتاكة كل يوم.

أصبح نشاط الجمعيات البيئية يتخطى مهمة التوعية والإرشاد إلى تشجيع ظهور ما يسمى "بالثقافة البيئية"، المتمثلة في مجموعة قيم جديدة، تهدف إلى إعادة تشكيل الأنماط الاستهلاكية للأشخاص، بما يتناسب وحماية البيئة وفي مواجهة ما يسميه باحث علم الاجتماع والعضو البارز في حزب الخضر الفرنسي، ألان ليبتز، "بالمجتمع الاستهلاكي المُوجه".

عدد هذه الجمعيات في فرنسا، بات الآن يفوق المائة، بعضها يهتم بمشاكل حماية البيئة بصفة عامة، وبعضها يتخصص في مجالات معينة كحماية الثروة الحيوانية، الثروة المائية، المساحات الخضراء، تلوث المناخ... إلخ. ربما أهمها الآن بعد مؤسسة "غرين بيس" العالمية هي مؤسسة "نيكولا هولو" التي استفادت من شهرة صاحبها منتج ومقدم برنامج "اوشويا" المعروف. وهو الشخصية التي نجحت في تحقيق ما فشل فيه حزب الخضر، أي استغلال الإعلام لخدمة القضايا البيئية. وقد بلغ نيكولا هولو أهدافه حين أعلن عن ترشحه للانتخابات الرئاسية، قبل أن يتراجع بعد أن انتزع من الرئيس سركوزي وعوداً صريحة بوضع إشكالية حماية البيئة في قائمة أولياته. تنشط المؤسسة بفضل نصرة شركات كبيرة كشركة "غاز فرنسا" وشركة "لوريال"، بالإضافة إلى تقديمات خاصة، وصلت إلى ثلاثة ملايين يورو. وهي لا تكتفي فقط بحملات توعية وإعلام للكبار، بل تتوجه أيضاً لمخاطبة عقول الصغار، عن طريق إنشاء مؤسسة تربوية هي "مدرسة نيكولا هولو للطبيعة والإنسان". حول هذا المشروع يقول صاحبه: "ان التربية هي المفتاح الوحيد الذي يسمح بإعادة النظر في العلاقة المفقودة بين الإنسان والطبيعة. ولهذا يضيف نيكولا هولو أنه ممن يؤمنون أن تأمل الطبيعة والتقرب منها، هي أولى الخطوات نحو صحوة الضمائر. وإن كنا نجد صعوبات في تغيير عقليات بعض الكبار، فإنه من الأحسن تحضير الصغار لكي يصبحوا في المستقبل مستهلكين مسؤولين عن طريق زرع قيم جديدة". تستضيف المدرسة 5000 طفل من المراحل الابتدائية في محمية "برانفري" الطبيعية، تضم 2000 حيوان من 150 فصيلا مختلفا، يعيشون في مساحات شاسعة من الطبيعة الخضراء. إقامة الأطفال في المحمية تأتي في إطار مقرر "الأقسام الخضراء" التي تتناول دروساً حول البيئة وحماية الطبيعة في قالب ترفيهي. وهي أشبه إلى الرحلة المنظمة منها إلى الدرس العلمي. لكن المحمية مفتوحة أيضاً للعائلات التي تود قضاء نهاية أسبوع في جو ترفيهي هادف. وبينما يراهن نيكولا هولو على تربية وتعليم الصغار كيف يتعاملون مع الطبيعة، فإن الدولة تصرف الملايين لإقناع المواطن بضرورة وضع حدود لثقافته الاستهلاكية المضرة على المدى البعيد، كالحملة التي حملت شعار: "لن نخفف من نفاياتنا، إنها تفيض" والتي خصصت لها ميزانية 1.6 مليون يورو، وتمت بمساهمة أطراف متعددة، من شركات وهيئات رسمية بلغ عددها 260 . الحملة بملصقاتها الورقية ولوحاتها الإعلانية الضخمة، تلاحق المواطن الفرنسي في كل مكان: في شوارع باريس وأحيائها العتيقة، في أنفاق المترو وحتى على مداخل البنايات والمتاجر. والهدف هو تذكير المواطن بأنه أصبح ينتج اليوم ضعف ما كان ينتجه من النفايات من أربعين سنة مضت. وهو ما يعادل أكثر من كيلو من النفايات يومياً!

حملة التوعية والإرشاد، وإن كلفت كثيراً إلا أنها نجحت في إيصال رسالتها حسب نتائج معهد الإحصاء "لويس هاريس" الذي قدّر نسبة الفرنسيين الذين يتبنون طريقة الفصل الاختياري في تعاملهم مع النفايات المنزلية والقاطنين بالمدن بـ %65 مقابل %76 ممن يسكنون الأرياف. وهو ما يعني أن هؤلاء أصبحوا يفصلون بين المواد المستعملة كالورق، الزجاج أو البلاستيك قبل رميها، مبدّلين بذلك من طبائعهم المكتسبة، منذ سنوات طويلة.

* العودة إلى زمن الدراجة

جان بيار عامل النظافة يقول "كل الصعوبة هي في عدم الخلط بين الألوان المخصصة لمختلف صناديق القمامة. فقد كنا نكتشف في البداية أن بعض الأشخاص، وخاصة كبار السن يضعون الجرائد والمجلات في المكان المخصص للقوارير الزجاجية أو العكس. لكن الأمر استقر الآن، ونادراً جداً ما نجد أخطاء كهذه". أكثر من كونها قضية اعتياد على بعض الحركات المسؤولة، فإن النمط المعيشي للمواطن الفرنسي بل وكل ثقافته الاستهلاكية، تبدو وكأنها تعيش على وقع خطى تغيرات جذرية. حتى استعمال السيارة للتنقل، وهو ما كان يبدو ضروريا، أصبح اليوم قيد المراجعة. فقد أعلنت بلدية باريس يوم 20 يوليو (تموز) الماضي، عن اطلاق مشروع "باريس فليب" الذي يقوم على توفير خدمة تأجير دراجات على مدار السنة، وطوال الأربع وعشرين ساعة، وكل أيام الأسبوع دون توقف، مقابل مبلغ متواضع هو يورو واحد للساعة مع إمكانية الاشتراك السنوي بمبلغ 29 يورو أو خمسة يورو للأسبوع. تخفيض الأسعار بهذه الطريقة الغرض منه تشجيع استعمال الدراجات بانتظام، كبديل عن السيارات الملوثة والمستهلكة للطاقة. فالبرغم من وجود أكثر من 200 كيلومتر من الطرق المهيأة لمرور الدراجات وسط العاصمة الفرنسية إلا أن نسبة المستعملين لهذه الوسيلة لا تتعدى %1 لأن الكثيرين يخشون حوادث المرور مع السيارات. المشروع حسب مساعدة مديرة مكتب إعلام بلدية باريس "يخدم المواطن والبيئة. فنحن من جهة نشجع اللجوء لوسائل النقل الهادئة النظيفة، ومن جهة أخرى نقدم خدمة نقل جديدة للمواطن. وهو ما لقي صدى كبيراً لدى الناس، بما أننا حققنا لغاية اليوم، رقماً قياسياً بـ349.000 دراجة مستأجرة بعد أسبوع فقط من بدء العملية.

وهو رقم يكشف عن حجم الحاجة الحقيقية لاستعمال هذه الوسيلة، ويدل أيضاً على تنامي وعي المواطنين بضرورة التخفيف من استعمال السيارات التي تتسبب في تلويث المناخ. هذا النجاح شجعنا لتطوير المشروع الذي سيضم 20.000 محطة دراجات إضافية السنة القادمة، بالإضافة إلى توسيع خدمات الإعلام إلى لغات أجنبية جديدة كالعربية، الصينية واليابانية للسّياح الأجانب". ولنفس الغرض كانت البلدية قد أطلقت منذ سنوات عملية "باريس تتنفس"، وهي التي تقضي بإغلاق بعض الأحياء وخاصة السياحية كأحياء لبارج دولسان، مونمارت، كانال سان مارتان، لغوزييه، لوكسمبورغ، في وجه السيارات، وهذا لعدة أيام في السنة، خلال عطلة نهاية الأسبوع، للتخفيف من الضغط والحدّ من التلوث. وهي العملية التي ترى مساعدة مديرة مكتب الإعلام أنها "دعوة للباريسيين للتمتع بمزايا المدينة النقية الهادئة".

حماة البيئة: من أجل قيم جديدة

منظمات حماية البيئة تروج أيضاً لقيم جديدة في المجتمع تقوم على العودة للطبيعة، وتبنّي البساطة في كل شيء. ولهذا فهي تبني نشاطها على التعاضد ومساندة المنتجين الصغار، في مواجهة الشركات المتعددة الجنسيات التي تحتكر الأسواق العالمية للغذاء. "التجارة العادلة" أو "قفة الفلاح"، هي بعض مظاهر هذا التوجه الجديد. فبينما تعتمد الأولى على تقاسم الربح بالمناصفة بين المسوقين وفلاحين فقراء، يعملون بوسائل بدائية لكسب قوتهم، تعتمد الظاهرة الثانية على تناوب مجموعة أشخاص في إطار تعاوني على شراء محصولات الفلاحين، مباشرة من المزرعة، وبأسعار ثابتة، مقابل تعهد هذا الأخير بعدم استعمال المواد الكيميائية أثناء عملية الزراعة. وهي العملية التي لاقت نجاحاً كبيراً في فرنسا، بعد ترويج منظمات خيرية لها كمنظمة "أماب" التي تشجع زراعة المواد الغذائية العضوية (biologique)، وقد أصبح وزنها في السوق يعادل المليار ونصف المليار يورو، من مجموع سوق المواد الغذائية بفرنسا، تحتكرها مجموعات تجارية معينة كشبكة "بيوكوب" لتسويق الأغذية العضوية التي بات لها 270 نقطة بيع أو محلات "الرفوف الخضراء" و"الروبنسون الجدد" التي تبيع في محلات وعبر شبكة الانترنت.

التعامل باقتصاد مع الطاقة والثروات الطبيعية، التزام البساطة، الرجوع إلى الطبيعة ووضع الحدّ لجنون الاستهلاك المفرط هي ميزات "البيئيين الجدد". وعلى عكس الصورة الكاريكاتورية التي كانت تقدمهم على أنهم شباب ذوي أفكار مثالية، ينعزلون في الأرياف للعيش وسط الأبقار والدجاج، فإن نماذج كثيرة من هؤلاء موجودة في مختلف طبقات المجتمع. مؤسسة "نيكولا هولو" لحماية البيئة، كانت قد رصدت هذه الميزات في دراسة قامت بها سنة 2007. فهم%49 نساء و%51رجال، كما أن معظمهم بين 30 و49 سنة، ينتمون لمختلف الطبقات والمستويات التعليمية. كما توصلت هذه الدراسة إلى أن %85 من هؤلاء مستعدون لتغيير أسلوب عيشهم واستهلاكهم أكثر، من أجل حماية البيئة وأن %81 منهم، بدأوا في ذلك فعلاً، من خلال قيامهم يومياً بحركات جديدة، كاعتماد 50% منهم إطفاء الأجهزة الكهربائية تماماً بعد انتهاء عملها. كما أن 81% من هؤلاء يحبذون الدوُش بدل الصنابير لتوفير الماء و56% يتبنون مبدأ الفصل في رمي النفايات. كثير منهم أيضاً يتقيدون بمبادئ أخرى، كالتقليل من استهلاك اللّحم، التنقل بواسطة الدراجة، مقاطعة المراكز التجارية الكبيرة الموجودة خارج المدن والتسوق بالمتاجر الصغيرة والقريبة أو المزارع، الاكتفاء بماء الحنفية، وكل ذلك حرصاً على الاقتصاد في الطاقة والثروات الطبيعية.

في محلات روبنسون

كثير من الفرنسيين لم ينتظروا نيكولا هولو، ولا تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري لتغيير أسلوب حياتهم. "نتالي" التي التقيناها في محلات "روبنسون"، موظفة في معهد البحوث الفرنسيCNRS، وهي مطلقة وأم لطفلين، تقول أنها اكتشفت فوائد المواد الغذائية الناتجة عن الزراعة العضوية، منذ 5 سنوات بعد إصابة ابنها بحساسية جلدية خطيرة، جعلتها تختار أغذيتها بعناية شديدة، رغم ارتفاع أسعارها بنسبة %20 عن أسعار المواد الأخرى، إلا أنها تداوم على شرائها باستمرار. وتقول نتالي أنها كانت دائمة القرب من الطبيعة، فهي لا تتعاطى إلا الأدوية الطبيعية، لا تستعمل مواد التنظيف الكيماوية ولا تنظف نوافذها إلا بالماء والورق المستعمل حتى انها لا تشتري إلا نادراً ملابس وأجهزة جديدة، وتكتفي بشراء أشياء سبق وأن استعملت. وتضيف ضاحكة أن البعض يصفها بالبخل، لكنها لا تعبأ بذلك، طالما أنها واثقة من أن ذلك في صالحها وصالح أطفالها في المستقبل. أما فيليب الموظف في بنك، فهو يعترف أنه "ليس من الزبائن المداومين على شراء الأغذية العضوية، نظراً لارتفاع أسعارها لكنه أكثر انتظاماً في إجراءات أخرى كاستعمال وسائل المواصلات الجماعية بدل السيارة، اعتماد الفصل عند رمي النفايات وإطفاء الأجهزة المنزلية في الليل".

انه "منعطف ثقافي" يعيشه الفرنسيون، هكذا وصف "ألان لبيتز"، الباحث في علم الاجتماع وعضو حزب الخضر توجه المجتمع الفرنسي، نحو أنماط استهلاكية جديدة أكثر عقلانية ومسؤولية، متأثرين بخطاب حماة البيئة. لكن السؤال الذي يبقى مطروحاً: إلى أي حدّ سيتمكن هؤلاء من مقاومة جبروت اللوبيات الاقتصادية الكبرى؟