زيناتي قدسية: المسرح قضية كبرى تحتاج إلى رجال على مقاسها

بعد 40 عاما من الكدّ على الخشبة

زيناتي قدسية المسرحي المقاوم
TT

بعد دخوله ميدان العمل المسرحي عام 1967 في الأردن، انتقل زيناتي قدسية للعمل في المسرح السوري منذ 1971، غير أن قدسية – فلسطيني المولد - بقي مخلصا لقضيته حيث عمل في المسرح المقاوم حوالي 15 عاما، ساهم خلالها في تأسيس المسرح التجريبي في سورية، بالتعاون مع المسرحيين الراحلين، سعد الله ونوس وفواز الساجر عام 1977، ليؤسس بعدها بالتعاون مع الكاتب الراحل ممدوح عدوان فرقة "مسرح أحوال"، حيث شكلت مسرحية "حال الدنيا" التي كتبها عدوان، وقدمها قدسية (مخرجا وممثلا) ولادة حقيقية للمسرح الفردي (المونودراما) في المشرق العربي. لم تقتصر إنجازات قدسية عند ذلك، حيث أسس "فرقة القدس" المسرحية عام 1988، كما تعاقد بصفة خبير لشؤون المسرح مع وزارة الثقافة السورية، إضافة إلى ترؤسه لعدد من المهرجانات المسرحية وعمله في المسرح القومي منذ عام 1980 وحتى الآن.

يقول زيناتي قدسية عن تجربته المسرحية: "أربعون عاما حاولت خلالها أن أمسك بتلابيب هذا الفن الصعب والمعقد. وبعد كل هذه السنوات لا أستطيع الادعاء بأني أفلحت في تحقيق هذا الهدف، ولكني ومنذ وقت مبكر أدركت أني مقبل على خوض معركة استثنائية قد تطول. ومع مرور الزمن أدركت أكثر أن المسرح قضية كبرى وتحتاج إلى رجال على مقاسها".

لكن قدسية بقي مخلصا لتجربته الطويلة مع ممدوح عدوان التي بدأت عام 1972 في المسرح الجامعي في سورية واستمرت 33 عاما، مرورا بالمسرحين، الفلسطيني والقومي، وانتهاء بفرقة "أحوال" التي أسست لفن المونودراما، عشقُ قدسية المستمر. تجربة يعتبرها قدسية من أجمل وأنضج التجارب التي عاشها مع رفيقه الكاتب الكبير، ممدوح عدوان الذي "يعبر في كثير من رؤاه الإنسانية والشعرية والجمالية عن أدق الخلجات في نفسي. إنه كاتب متجدد يتعامل مع بشر من لحم ودم، لا يتصيد مواضيعه من السماء، بل يلتقطها من على أرصفة الشوارع وأزقة الحارات وزوايا البيوت، ويكشف ما وراء الجدران بمجهر قلاب". غير أن قدسية خلال حديثه عن رفيق دربه (عدوان) الذي تركه وحيدا يواجه الوحشة بالإبداع، لا ينسى ذكر تجربته مع رائدي المسرح السوري، سعد الله ونوس وفواز الساجر، اللذين أسس معهما المسرح التجريبي في سورية، لكنه يفصح عن شعوره بالخوف والارتباك، كلما تحدث عن هذه التجربة التي أنتجت عددا كبيرا من العروض والحوارات العميقة في شؤون المسرح والفن عامة، ويكتفي بوصفها بـ"الأكاديمية المزدوجة".

ينصرف قدسية عن سرد ذكرياته مع رفاق الدرب الذين رحلوا ليسرد قصة راحل آخر أسس لوعيه الفكري والفني، إنه غسان كنفاني الأديب الفلسطيني الكبير الذي شكل أدبه مرآة صادقة للواقع الفلسطيني البائس بدءا بالنكبة وانتهاء بالشتات.

يقول قدسية: "كنت أقرأ قصة قصيرة لغسان فأتعرف على جزء من نفسي والمحيط الذي أعيش فيه. كل قصة لغسان كانت تشكل بالنسبة لي إجابة عن سؤال كبير وصعب. كل رواية من روايات غسان، كانت ولم تزل تفتح أمامي أبوابا مستعصية، وتدخلني في عوالم كنت أعتقد باستحالة اكتشافها. غسان هو الذي جعلني أدرك الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تلك الهزيمة الكبرى. باختصار هو معلمي الأول، فاتحة إدراكي لهذا العالم".

من جانب آخر يقدم قدسية تصورا مختلفا عن المسرح المقاوم الذي يرى فيه شرطا أساسيا للدفاع عن حرية الإنسان وكرامته في الحرب والسلم، مشيرا إلى أن "المفكرين والمثقفين والعلماء والشعراء ورجال المسرح في مختلف أنحاء العالم، حين ينتصرون للإنسان من أجل حريته وكرامته الإنسانية وحقه في الطعام والماء والصحة والتعليم والحب وإبداء الرأي والدفاع عن حقه في الوجود، إنما هم ينتمون بشكل أو بآخر إلى الثقافة المقاومة، العلوم المقاومة، الشعر المقاوم، المسرح المقاوم، وإن لم يضعوا إنجازاتهم العلمية والثقافية والإبداعية تحت هذا العنوان المباشر". وحول مفهوم المسرح التجريبي يؤكد قدسية أن التجريب في المسرح يعني "هضم واستيعاب كل تجارب الماضي، وبهذا المعنى يصبح التجريب الحقيقي نقيضا للتبعية والتقليد والنسخ". وينتقد قدسية محاولات المخرجين العرب المبهورين ببعض النزعات الغربية لجهة التعاطي مع مفردات تجريبية غريبة، ليس لها علاقة بالابتكار، إضافة إلى محاولتهم "هتك النص وإزاحته كما حدث في أوروبا وأميركا". لكنه يؤكد بالمقابل على أهمية النص في العرض المسرحي ويعتبره في موقع القلب من الجسد، مشيرا إلى أن كبار المخرجين المسرحيين التجريبيين الذين قدموا إضافات مهمة في مجال المسرح، لم يفكروا بإزاحة النص أو نفيه. وهنا يقول قدسية: "لو تذكرنا شكسبير أحد عمالقة التجريب في العالم، فإن ذاكرتنا ستمضي حتما باتجاه نصوصه العظيمة التي ورثها للبشرية والتي حملت في ثناياها كل إنجازاته التجريبية. وهذا ينطبق على ستانسلافسكي التجريبي الفريد والذي خلّف لنا منهجا خلاّقا ما زلنا وسنبقى ننهل من كنوزه ونكتشف أسراره يوما إثر يوم. وكذلك الأمر بالنسبة لبريشت كواحد من عباقرة التجريب في القرن العشرين، والذي ولدت في زمنه أعظم النصوص المسرحية".

ويحدثنا قدسية عن أهمية لغة الجسد في العرض المسرحي، مشيرا إلى محاولات بعض المسرحيين الغربيين لجهة تمجيد عنصر النص المكتوب على حساب عناصر العرض الأخرى، خاصة لغة الجسد بما لها من أهمية قصوى في التعبير عن مكنونات النفس البشرية. ويشير إلى ظهور دعوات من بعض المسرحيين في ثلاثينات القرن الماضي للاهتمام بلغة الجسد وعدم إهمالها كي لا يفقد المسرح حيويته وسحره، لكنه يؤكد أن هذه الدعوات أخذت منحى مغايرا لدى بعض المسرحيين العرب الذين أوغلوا في تمجيدهم لغة الجسد على حساب النص تحت شعار التجريبية والحداثة.

ويخلص إلى المزاوجة بين المفهومين لنجاح العرض المسرحي، معتبراً أن التقليل من أهمية النص المسرحي هو "تقليل من هيبة المسرح وفرادته وسطوته"، كما أن الإهمال المطلق للغة الجسد التعبيرية هو"نيل من عنفوان الحياة في المسرح".

وفي ذات السياق يشير قدسية إلى دعوة أطلقها بعض المسرحيين الجادين في الغرب وتعتمد على "تحرير وتفجير الجسد"، لافتا في الوقت نفسه إلى أن بعض الباحثين والنقاد العرب التقطوا هذا المفهوم وطبقوه بشكل خاطىء ومتطرف لدرجة تحولت معها العروض المسرحية إلى انتهاك لحرية الجسد وكرامته. وهنا يقول قدسية شارحاً: "المسرح يحتاج إلى لغة جسدية تعمل على صيانة هذه الكرامة، لغة تعمل على تفجير الجسد بهدف بناء منظومة أفعال جديدة ومبتكرة تعبر عن كوامن هذا الجسد بأدق وأصدق ما يكون التعبير. لغة قادرة على استحضار القصي والنائي والمسكوت عنه، لغة تحرر الجسد من خجله وعجزه عن الاستجابات لمتطلبات النفس والروح الإنسانية".

أما النقد المسرحي بالنسبة لقدسية، فهو مرتبط جدليا بالفعل المسرحي لأن النقد عامة هو "نتيجة لقاء ذهنية الناقد بذهنية المبدع، لا كما هي في ذاتها بل كما تحققت في المنتج الإبداعي. بتعبير آخر، لا يجوز لناقد مهما علا شأنه أن يُلبس المنتج الإبداعي رداءه الفضفاض، ثم ينعته بالهزل، وشتان بين أحجام هزيلة تتعامل مع النقد بهذه الرداءة وبين القامات الشامخة للمبدعين الحقيقيين".

ويرى أن واقع النقد المسرحي في العالم العربي ما زال يسبح في بحيرة المتاهات العجولة والتعليقات الهشة والباهتة والهامشية، وليس له أي أثر أو انعكاس في الواقع الاجتماعي بمعنى أنه لم يحقق شيئا على الإطلاق، مبررا ذلك بكون تجربة المسرح في العالم العربي ما زالت دون المستوى المطلوب. بالنسبة لقدسية أهمية المسرح ودوره يتجلى في "إنعاش الذاكرة وتنشيطها وتحريك الوجدان واستنهاض الذائقة الجمالية والمعرفية، وبالتالي تحضير المجموعات البشرية للدخول الواعي في قابليات الازدهار الإنساني." ولهذا فإن المسرح خصوصا والفن عموما هو الإمكانية الوحيدة للتعويض عن انعدام التوازن بين ما نعيشه وما ينبغي أن نكون عليه.