الجزائر تحاور ذاتها في ساحة موريس أودان

مهرجان كبير بإمكانيات متواضعة

TT

يقام حاليا في الجزائر العاصمة واحد من أهم الفعاليات الثقافية وأبسطها في الوقت نفسه، في المكان الممتد بين ساحة موريس أودان والجامعة المركزية. انه معارض عديدة في معرض واحد، فيه تحف فنية تقليدية وحلي وملابس عريقة وهدايا، وجدت لها زبائن كثيرين من السياح الأجانب والجزائريين المقيمين في أوروبا، الذين يجدون ضالتهم هنا حتى يعودوا الى بلدانهم، وهم محملون بتلك الذكريات الجميلة على شكل تحف وهدايا تحمل الخصوصية الثقافية الجزائرية وعراقتها.

تعبر ساحة موريس أودان (المناضل اليساري الفرنسي الذي أيّد الثورة الجزائرية وساهم فيها بقوة) وهي تحاذي الجامعة المركزية الجزائرية العريقة، قلب الجزائر العاصمة المزدحم في كل أيام السنة. في هذا المكان المتفرع عن شارع ديدوش مراد ولغاية البريد المركزي يعرض الكثير من الفنانين الحرفيين الجزائريين تحفهم للمشاهدة والبيع، التي وجدت إقبالا غير عادي. المعرض الذي تنظمه بلدية الجزائر الوسطى، يشارك فيه الحرفيون بالمجان، وهو مساعدة لهم من أجل أن يستمروا في إبداعهم. وهو منوع بين ألبسة تقليدية من منطقة القبائل وأوان نحاسية وهدايا صغيرة، ودمى قادمة من عمق الصحراء، وأشياء غيرها. عند ساحة أودان مباشرة، يبدأ المعرض الذي انطلق مع الصيف ويستمر إلى نهاية الشهر الحالي. في قسم النحاسيات يقف محمد بوشنافة، وهو جزائري عاصمي، ويقول بأنه مجرد بائع ينوب عن صاحب التحف الذي يقيم في ذات الوقت معرضا آخر عند منطقة سيدي فرج، وهو منتجع سياحي ساحلي غرب العاصمة. ومحمد الذي يقول بأنه في الأصل صائغ، وجد في المعرض فرصة كبيرة من أجل التفكير في تغيير نشاطه والاتجاه من الذهب إلى الفضة. ولم تخطر له الفكرة بسبب المال لأن لا شيء يدوم، مثلما قال، ولكن لأنه أحب هذا الفن الذي يفكر في اقتحامه وهو في سن متقدمة بعض الشيء. وعن نوعية الزبائن الذين يشترون، يؤكد محمد أن معظمهم من الجزائريين المقيمين في أوروبا ويقضون عطلة الصيف في الجزائر، حتى إذا عادوا أخذوا معهم ما يذكّرهم بوطنهم الأم. وغير بعيد عن محمد يعرض آخرون أعمالهم وسط إقبال ملحوظ، منهم شاب اسمه سفيان غزالة، يبيع أواني فخارية جزائرية تقليدية. وسفيان القادم من إحدى ضواحي العاصمة، هو كذلك مجرد بائع. وفي غياب صاحب المعرض الحقيقي ينوب عنه سفيان في البيع، ويقول إن العرض الذي يدوم في الليل والنهار، يجعلهم دائمي الحضور هناك إلى ساعة متأخرة من الليل حيث تهدأ حركة المرور ولا يبقى من يحرس التحف من أي غريب يريد بها سوءا.

وعن نشاطه والمؤسسة الصغيرة التي يشتغل فيها خارج هذا المعرض، الذي يدوم حوالي شهرين كل سنة، يقول سفيان بأنهم دائمو الترحال من ولاية (مقاطعة) إلى أخرى، من وهران إلى مستغانم إلى قسنطينة إلى تامنغست قرب الحدود مع النيجر ومالي، إلى غيرها من المناطق.

وعند حائط الجامعة المركزية الجزائرية، هناك معرض آخر متخصص في الألبسة النسائية التقليدية لمنطقة القبائل بألوانها المزركشة وشكلها الجميل. وهناك يقف عدد من البائعين، منهم إسحاق وهو دون العشرين، قادم من تادمايت قرب مدينة تيزي وزو، بمنطقة القبائل الكبرى.

يقول إسحاق إن صاحب المعرض من منطقة عزازقة قرب تيزي وزو، أما الملبوسات النسائية التقليدية تلك فتصنعها نسوة فقيرات في منطقة فريحة القريبة من هناك، ويبعنها لصاحب المعرض الذي يتجول بها في البلاد. ويؤكد إسحاق أن الإقبال كبير على تلك الملبوسات من الجزائريين والأجانب، غير أنه يؤكد أن أحد الأثواب البسيطة والرخيصة الثمن هي التي تباع بكثرة دون غيرها. والملبوسات التقليدية الخاصة بالبنات الصغيرات تباع أكثر من تلك الخاصة بالنساء.

ويستمر المعرض من ساحة أودان إلى غاية البريد المركزي، حيث تنتصب خيمة هناك في الميدان، غير بعيد عن قصر الحكومة، والخيمة بداخلها زبائن يتناولون الشاي مع فستق العبيد والنارجيلة، يوجد بجانبهم بعض أفراد فرق موسيقية تقليدية يعزفون ألحانا محلية. وداخل الخيمة نلتقي فاتح عطاء الله، وهو شاب في الثلاثينات، يقول بأنه صاحب الخيمة، التي تعتبر مؤسسة ثقافية صغيرة اسمها «خيمة التجول والترحال»، بدأت قبل سبع سنوات من منطقة المسيلة بوابة الصحراء الجزائرية من الجهة الشرقية، ومنذ ذلك الوقت، لم يتوقف صاحبها عن التنقل بها من منطقة إلى أخرى، ويعود في كل مرة إلى العاصمة بعد أن يزور ولايات الجزائر الثماني والأربعين. وأثناء جولاته الكثيرة، استطاع فاتح عطاء الله أن يضم إلى قافلته، وبالتالي خيمته، أفراداً آخرين من مختلف مناطق الجزائر، وكل واحد منهم يثري الخيمة بخصوصياته الثقافية المحلية حتى غدت الخيمة المتنقلة ملتقى للثقافات المحلية التي تقاوم الانقراض.

الكثير من المظاهر الثقافية الجزائرية التقليدية أصبحت مهددة بالاندثار، وحتى لا تندثر تلك الذاكرة يقام هذا المهرجان الفني الكبير بتلك الإمكانات المادية المتواضعة، في قلب العاصمة. وهو فرصة للحرفيين التقليديين من أجل مواصلة العمل الذي يقومون به للحفاظ على الخصوصية في زمن لا يعترف بالخصوصيات.