مدني صالح .. أرهقته الفلسفة وتداوى بالشعر

كان عمره 23 عاما حين ألف كتابه الفلسفي «الوجود»

غلاف كتاب «ابن طفيل»
TT

رحل قبل فترة في بغداد، وبصمت، الناقد والكاتب مدني صالح عن عمر يناهز الـ 71 عاما بعد معاناة مع المرض استمرت سنوات عدة. ولد مدني صالح في مدينة هيت غرب العراق عام 1932. واكمل صالح دراسته بعد تخرجه من جامعة بغداد في جامعة كامبريدج في بريطانيا. ثم عاد إلى العراق دون الحصول على الدكتوراه لخلافه مع استاذه فيما يخص اطروحته عن ابن طفلان. ويعد الكاتب الراحل مدني صالح من اول المشتغلين والمهتمين بالفلسفة في العراق الحديث، لكنها كرس جهده كلياً فيما بعد للنقد والكتابة في الصحف اليومية، والمجلات العراقية والعربية خاصة مجلة "الآداب"، وهي كتابات كانت تثير سجالاً واسعاً للآراء المطروحة فيها، وحدتها أحياناً.

حين بلغني صديق من العراق بموت الكاتب والمفكر مدني صالح كنت أتلمس في تلاحق كلماته فجيعته في عهد كبير أنجب هذا المفكر الجميل ومات ووري الثرى معه.

عرفت مدني صالح منذ صباي، فهو قد ولد وترعرع في هيت المدينة التي ولدت فيها ولم أغادرها حتى مطلع شبابي وقد كانت في تلك الأيام البعيدة تعيش زمنها الجميل: رياض زهور وغيوم وطيور وأغان، وبساتين نخيل وتوت وبيوت بسيطة حانية تتوسطها مئذنة عتيقة مائلة على النهر، في أرض يتحول فيها التراب والحجارة إلى خلايا حساسة ناطقة، وفي زمن أوائل الثلاثينات ( 1932) باكورة العهد الجديد للدولة العراقية الحديثة وقيمها الجديدة الصاعدة ولد وتفتح هذا الشاب الخجول المنطوي على نفسه، والمتطلع للدنيا بانبهار وشغف من يحمل بين جوانحه حلماً أكبر من أفق البلدة وأبعد مما ترى عيناه. كانت المدرسة الابتدائية أعلى سقف للدراسة في هيت التي تبعد عن بغداد غرباً قرابة المائتي كيلو متر، فكان عليه أن يتجه شرقاً إلى مدينة الرمادي ليكمل المتوسطة والثانوية وهناك وجد مدرسيه الشاعرين بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي اللذين جمعتهما ربما لآخر مرة ثانوية الرمادي حيث قرأه السياب الكثير من ( أزهار ذابلة )، والبياتي الكثير من( أباريق مهشمة) اللتين ستصيران في ذاكرته أزهاراً يانعة، وأباريق شفافة طافحة وتكون له معهما هموم جمالية ونقدية في المستقبل!

وحين يعود إلى هيت في العطل الصيفية وتضيق الحقيبة المدرسية بأحلامه وتطلعاته ينكب على كتب عتيقة عبقة بشذى الأسلاف تضم ترجمات من الفلسفة اليونانية القديمة ومن وضعيات الفلسفة العربية الإسلامية والفقه والطب والتداوي بالأعشاب، ومن النصوص التهويمية في التصوف والطرق الصوفية فحدد بها أساسه الفكري لمدى بعيد، وبها أعد نفسه لمواجهة الفلسفة الجديدة، وبنعومتها أو وعورتها تلقى صدمة الحداثة!

وبحث بين الناس البسطاء عمن يعتقد أنهم يتفردون بتفكير خاص أو مختلف، ولديهم مثله عزلاتهم، وابتعادهم عن لغو الناس، وكآبتهم المتأملة مكتشفاً في أحاديثهم وتصرفاتهم مواقف ونظريات أو تجليات فلسفية لا تخطر على بالهم هم،وقد ظل طيلة حياته كثير الاستشهاد بأقوالهم ومواقفهم وحكاياتهم!

كان عمره 23 عاماً حين ألف كتاب (الوجود) الفلسفي الصعب المعقد ثم فجأة يؤلف كتاباً آخر اسماه ( أشكال وألوان) يتناول فيه قضايا حياتية واجتماعية ويومية بالنقد والتحليل.. لماذا هذا التحول؟

أعتقد أن مدني بنظرته اليقظة وحسه العملي أدرك أن المجتمع العراقي غير مهيأ بعد للفكر الفلسفي المجرد، وأن الفلسفة قد تبدو بطراً في مجتمعات ما تزال تلهث وراء لقمة العيش وأن الناس تريد حلولاً لمشاكلها الماثلة والضاغطة على صدورها، وها هو أستاذه الدكتور على الوردي يستقطب الساحة الثقافية والاجتماعية بكتبه ومقالاته التي تتناول قضايا المجتمع العراقي بجرأة وعلمية باهرة ويترك وراءه أمواجاً متلاطمة من التأثيرات الإيجابية والتنويرية!

فلم لا يتأثر به ويتخذه قدوة؟ وقال مدني لاحقاً، وبعد تجربة طويلة في تدريس الفلسفة، ان الطلبة في الجامعة لا يستوعبون أكثر من ثماني محاضرات فلسفة في العام، فكيف بالناس العاديين وقدراتهم في استيعاب الفلسفة؟ بعد أن أنهى دراسته بتفوق في كلية الآداب ذهب إلى إنجلترا ليدرس في جامعة كمبردج الفلسفة. كان موضوع أطروحته عن ابن طفيل (أبو بكر محمد المولود في غرناطة عام 1100 – والمتوفى في مراكش عام 1185 ) وقصته الشهيرة حي بن يقظان التي حاول أن يوفق فيها بين الفلسفة والدين! (واسم بطلها الإنسان (الحي) بن (اليقظان) يحمل دلالة على الحياة مع اليقظة والوعي وفلسفة الإنسان بذاته ولذاته حتى ولو عبر ذات أخرى مثالية!). مع عكوفه على أطروحته الفلسفية أنزل " ضرة" أخرى على الفلسفة حين فتح خط اتصال مع الشعر العربي الحديث في بيروت، وأخذ يكتب لمجلة شعر ويعقد صداقات مع بعض شعرائها. وفي توغله في دراسته ومناقشاته أخذت تبرز خلافاته مع أستاذه المشرف ولم يعد يقبل ما يقترح عليه من تغييرات أو تعديلات على أطروحته متلمساً لديه تعصباً ضد الفلاسفة المسلمين كما وجد اللجنة المشرفة على مناقشته تقف مع أستاذه ضده، فألقى كل شيء خلفه وخرج من الجامعة دون أن يحصل على الدكتوراه!

لم يكن مدني صالح يرى في الأستاذ المشرف حلاقاً على الطالب أن يسلمه رأسه ليرسمه كيف يشاء، وهو أيضاً لم ير نفسه طالباً، وإنما أستاذاً فهو صاحب مؤلفين شهيرين في بغداد ومقالات ومناظرات، ولديه خزين يراه أكثر غنى وعمقاً مما لدى أستاذه! وكان مدني أيضاً لا ينسى أنه مواطن عراقي جاء إلى بلد احتل بلده وحكمه وصنع واقعه السياسي. وإذا كان قد عجز عن أن يعترض على سرقة نفطه أو التحكم بإرادته وسيادته، فإنه غير عاجز الآن عن الدفاع عن قيم فكرية وفلسفية شرقية يراها تنتهك أو تصادر أو تلوى أعناقها مثلما لويت أعناق الخيول العربية المهزومة حديثاً أو قديماً!

لم يرق لإستاذه في كمبريدج أن يقول مدني صالح أن رواية حي بن يقظان كان لها أثر كبير على الرواية الإنجليزية والأوروبية، وما حكاية روبنسن كروسو إلا من بعض أصدائها، بل أن طرزان وأفلامه هي من وهج هذه الرواية التي كان أثرها كألف ليلة وليلة على الرواية الغربية. حين عاد إلى بغداد عين مدرساً في كلية الآداب لمادة الفلسفة ووجد طلابه وزملاؤه لديه من العلم ما يؤهله ليكون في مركز قيادة فكرية متميزة، فصار لدى بعضهم مرجعية وقدوة، ولدى البعض الآخر مركز خطر ومشاكسة أو مناورة شخصية لجلب الانتباه!

لم يكن نشاطه الجديد في بغداد مقتصراً على الفلسفة أو على متطلبات عمله الأكاديمي مع طلابه،إذ أخذ يظهر ميلاً للدخول بقوة إلى ميدان نقد الشعر والشعراء منطلقاً من ذائقته وخبرته الخاصة التي تقلبت ما بين عمود الشعر القديم والشعر الحر كما اطلع عليه في العراق أو درسه عبر اللغة الإنجليزية في منجز لحركات شعرية أوروبية وعالمية فاصدر كتابيه: "هذا هو البياتي" و"هذا هو السياب" إلى جانب مقالات ومداخلات تناول فيها ظواهر وأسماء شعرية مختلفة وقد وجد فيها نقاد يقينية وعمومية لا يحتملها الشعر، بينما عدها آخرون جرأة وفتحاً في عالم النقد العراقي الكسول والمحدود! بينما عدها آخرون هروباً من ميدانه الأساسي كمعني بالفلسفة وتساءلوا لماذا لا يستمر مدني صالح على ما بدأه من جهد مرموق في الفلسفة ويمضي كعبد الرحمن بدوي في مصر وباريس مثلاً ويعرف العراقيين بشتى المدارس والتيارات الفلسفية وقد اكتسب هو خبرات وثقافات كثيرة خلال وجوده الطويل في إنجلترا، هل أصيب هو بإحباط جراء ما حصل له في جامعة كمبردج،وإن كل ما يظهره من لامبالاة إزاء شهادة الدكتوراه هي مجرد مكابرة!

لكن مدني لم يكترث للأقوال التي أرادت حبسه في قفص الفلسفة التجريدي وظل يرفد فلسفته ببحوثه ومؤلفاته فأصدر وعلى مدى زمن طويل: كتابه "بعد خراب الفلسفة" وبحوثاً عن الفارابي والغزالي وعن الوجودية والتصوف، و"ابن طفيل.. قضايا ومواقف" وفي العودة إلى طروحات مدني الفلسفية ودراساته لفلاسفة من أمثال الفارابي وبن رشد نجد إنه ينطلق من فلسفة مادية وإن كان بالطبع لا يلتزم بالقوانين الجدلية التي اكتشفها ماركس أو قام بتصحيحها وقلبها عما كانت عليه لدى هيجل، لذا يمكن القول إنه مفكر مادي يتبنى قوانين موضوعية وعلمية في تفسير ظواهر الكون والوجود وإنه في رؤيته للتاريخ وتفسيره لأحداثه ومسيرته تقدمي فهو يؤمن بالتجديد والتطور ويقف مع المظلومين ضد الجائرين والمستغلين!