العمارة .. والسلطة

كتاب يتتبع تطورها ودلالاتها من حصون منعزلة للحكم إلى قصور داخل المدن

روبن أوستل
TT

يرصد هذا الكتاب علاقة السلطة بالعمارة في مصر، ويتتبع مراحل تطورها ودلالاتها مركزا على بنية مقر الحكم، والتغيرات التي طرأت عليها في الحقب التاريخية المختلفة منذ فتح مصر على يد عمرو بن العاص، وحتى نهاية الحكم العثماني. ويتخذ المؤلف من قلعة صلاح الدين الأيوبي نموذجا لتمثل هذه العلاقة فيرصد مقوماتها كمقر للحكم ويحلل ما تحتويه من دواوين وأسوار وأبراج وقصور ودار عدل وغيرها من المنشآت التي توحي بوجود مقر سلطاني يليق بدولة عظمى.

يأخذنا عنوان هذا الكتاب مباشرة إلى فحوى العلاقة ما بين السلطة والعمارة والسياسة، محللا تأثرها بتحولات انتقال السلطة من جماعة إلى جماعة أو من فرد إلى فرد. ويرى أن هذا الانتقال يكون له في أغلب الأحوال أثر مباشر على العمارة، يتضح بصفة خاصة في مقر الحكم. وهذا المقر إما يستمر في ضوء انتقال السلطة في أداء دوره ووظائفه، وإما تتغير طبيعة هذه الوظائف تبعاً لمراسم السلطة الجديدة وتقاليدها، أو يتغير التركيب الداخلي لهذا المقر تبعا لنمط السلطة الجديدة، فينتقل مقر الحكم إلى مكان آخر جديد بعيدا عن المقر القديم الذي يكون في بعض الأحيان محاطا بأنصار السلطة القديمة. وقد يكون المقر الجديد محاولة من السلطة لإثبات وجودها على الساحة السياسية للبلاد. ويحاول الكتاب، من خلال الدراسة التحليلية للعمارة الإسلامية الإجابة عن عدة تساؤلات مهمة حول: ماهية العلاقة بين السلطة والسياسة، والعلاقة بين المجتمع المدني والعمارة؟ وكيف تم التحول من النمط المعماري الإسلامي إلى النمط المعماري الغربي؟

في بداية الكتاب، الذي يتألف من ستة فصول، يتتبع المؤلف الدكتور خالد عزب كيفية تأسيس مدينة الفسطاط كنواة للمشروع الفكري والحضاري للدولة الإسلامية آنذاك، فعمرو بن العاص أراد أن يكون مجتمع الفسطاط منفتحا على المجتمع المصري لذا لم يشيد سورا للفسطاط، بل جعلها مدينة مفتوحة وشجع الأقباط على الإقامة بها، وشيدوا كنائس فيها، بينما حملت الدولة الفاطمية مشروعا يقوم على فرض الخلافة الفاطمية الإسماعيلية في مصر، ولذا كان مقر حكمهم منعزلا عن المصريين، ولم يشرعوا في كسب المجتمع إلا في عصر ضعفهم حين شيدوا أضرحة لآل البيت لكسب العاطفة الدينية عند المصريين. وحمل صلاح الدين الأيوبي مشروعا دفاعياً في وجه الهجمة الصليبية؛ لذا بات تشييد قلعة الجبل والأسوار في العاصمة المصرية همه الأول، بينما كانت دولة المماليك دولة تقوم على القوة العسكرية لأفرادها، وكان الاستيلاء على مقر الحكم آنذاك لا يعني فقط استيلاءً على حكم مصر وإنما أيضا بلاد الشام. وظلت القلعة رمزا للسلطة حتى في العصر العثماني. ويتابع المؤلف:"مع مجيء محمد علي بدأت المفاهيم السياسية في التغير، وأصبح دور الدولة يتعاظم داخل المجتمع، حتى صارت حياة الأفراد مرهونة بسياسات الدولة، ومع انتقال الحكم إلى المدينة بعد سنوات من عزلته، أصبحنا أمام نقلة سياسية وعمرانية. فالحاكم الذي كان يتحصن خلف الأسوار، أجبرته المدفعية على مغادرة الحصن. وصار مقر حكمه في داخل المدينة وسط الناس متحصنا بها وبهم. وتحولت المدينة كلها إلى مقر للحكم، فبها قصر الحاكم والدواوين أو الوزارات. واستتبع هذا إخضاع المجتمع لسيطرة السلطة من خلال فكرة الدولة التي تنظم كل شيء وتحدد أهدافه طبقا لسياستها، فأصبحت الشوارع منظمة والتعليم منظما، وحتى الوقت أصبح خاضعا لفكرة النظام الذي يفرض هيمنة الدولة على كل شيء".

ويوضح المؤلف أنه في ضوء كل ما سبق خضوع دور الولاية الجماعية والولاية الخاصة إلى أبعد حد ممكن تصوره لصالح الدولة. فبعدما كانت حركة العمران تخضع لسلطة المجتمع المتمثلة في فقه العمارة، والتي كانت قانوناً يطبقه الجميع دون الرجوع إلى الدولة، فرضت الأخيرة على المجتمع قوانين عمرانية ومعمارية، وأنشأت جهازا يتولى تنفيذ هذه القوانين ورقابة حركة العمران في المجتمع، هو ديوان الأشغال.

ومن هذا المنطلق يحاول الكتاب رسم صورة متكاملة لطبوغرافية لمقر الحكم منذ صورته البسيطة في الفسطاط حتى صورته المركبة في القاهرة إلى صورته الأكثر تركيبا ووضوحا في قلعة الجبل، كما يرصد أثر التحولات السياسية على هذا المقر في العصور المختلفة، ومدى تأثر هذا المقر بتركيبة السلطة الحاكمة، وما طرأ من تغير على مقر الحكم نتيجة لتغير نمط السلطة وفكرها مع أسرة محمد علي.

لذا فقد حدد المؤلف مفهوما للتغيير، بأنه الخروج عن النمط المعتاد.أما التطور فهو إحداث إضافات تتواءم مع المستجدات. وما حدث في العصور الإسلامية المتلاحقة هو تطور طبيعي وتلقائي نتيجة للخبرة المتراكمة. أما ما حدث في عصر أسرة محمد علي فهو تغيير جذري في نمط الحكم وطبيعته، وبالتالي في طبيعة مقر الحكم وتركيبته. ولم يجئ هذا دفعة واحدة، بل جاء على مراحل متتالية وصلت أوجها في عصر الخديوي إسماعيل. ويرى خالد عزب أن الدراسات المتعلقة بالعمارة في العصور الإسلامية المختلفة ارتبطت برؤى جزئية، ترى الأجزاء المتفرقة دون جمعها تحت مظلة واحدة. ومن هنا نبعت فكرة هذا الكتاب لجمع هذه الأجزاء، في محاولة لفهمها وطرح رؤية تحلل أسباب وجود العديد من الأنماط المعمارية، مشيرا إلى أن ثمة ثلاثة مستويات من العمائر: المستوى الأول يتعلق بالسلطة، ويتمثل في مقر الحكم أيا كان موقعه من العاصمة أو المدينة. والمستوى الثاني له علاقة بالخدمات والمرافق داخل المدينة، وهذا المستوى مشترك بين السلطة والمجتمع، ويبرز بصفة خاصة في مؤسسة يمكن أن نعتبرها وسيطة، هي مؤسسة الأوقاف. والمستوى الثالث: عمائر المحكومين، وهي لا تخضع لسيطرة السلطة إذ إن حركة العمران داخل الأحياء تخضع للسيطرة الجماعية لقاطنيها ولحقوق أفراد المجتمع. ويذكر المؤلف أن المدينة في العصور الإسلامية تشكلت فيها المسؤولية عن طريق الولاية أو ما نعرفه حالياً بالمسئولية، فهناك ولاية عامة وجماعية وخاصة. فالولاية العامة دورها كان يتجسد في أغلب الأحيان في السلطة الحاكمة ونراه بصفة خاصة في دار الإمارة والمسجد الجامع وأسوار المدن. والولاية الجماعية تظهر الهياكل الحضرية الوسيطة واستمرارها كالأحياء السكنية والتنظيمات الحرفية والدروب المشتركة والملكيات الجماعية وغير ذلك. أما دور الولاية الخاصة فيرتبط بالحياة الفردية من بناء المساكن واستعمالها اليومي والتصرف فيها. وانطلاقا من موضوع الكتاب الأساسي، يجيء حديث المؤلف حول نشأة مقر الحكم في مصر منذ فتح العرب لها. فيتعرض في فصله الأول لطريقة بناء مدينة الفسطاط عاصمة الحكم، محللا بساطة مقر الحكم بها، فهذه المدينة لم تشهد دارا للإمارة إلا عندما بناها عبد العزيز بن أحمد بن مروان وعرفت بدار الذهب، ثم بناء ضاحية العسكر مقرا لحكم العباسيين في مصر، إلى أن بني أحمد بن طولون القطائع مقرا لحكمه، ثم عودة مقر الحكم إلى العسكر بعد قضاء العباسيين على الدولة الطولونية .وتعرض الفصل لاتخاذ الحصون كمقار للحكم منعزلة عن العاصمة، وهو ما جسده في القاهرة حصن الفاطميين في مصر. وتحول هذا الحصن بمرور الوقت ومع سقوط الدولة الفاطمية إلى جزء من التكوين الحضري للعاصمة المصرية. وكان الحكام قد أدركوا سرعة اندماج الحصون في الحياة الحضرية للمدن؛ ومع الحروب الصليبية أدركوا أهمية اتخاذ القلاع التي شيدت على الجبال أو على الهضاب مقار للحكم. وهذا يفسر اتجاه صلاح الدين الأيوبي لتشييد قلعة الجبل كمقر للحكم. وخصص الفصل الثاني لنشأة قلعة الجبل ( قلعة صلاح الدين )، مشيرا الى أنها مرت بمرحلتين أساسيتين: الأولى هي مرحلة التأسيس على يد صلاح الدين وامتدت بانتقال الكامل بن العادل إلى القلعة ليتخذها مقرا لحكمه عام 604 هـ /1207م. وفي هذه المرحلة باتت القلعة تستكمل مقوماتها باعتبارها مقرا للحكم. وتناول الفصل التغييرات التي طرأت على القلعة حتى عصر الأشرف خليل. وتوقف المؤلف عند اتخاذ الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة مقرا لحكمه وبين مدى أهمية قلعة الجبل في تلك الفترة.

وتناول الفصل الثالث المرحلة الثانية التي مرت بها القلعة باعتبارها مقرا للحكم. وتتمثل في عصر الناصر محمد بن قلاوون حين وصلت القلعة في هذه المرحلة إلى قمة ازدهارها، واستكملت مقوماتها على أنها مقر لحكم مصر والبلاد التابعة للسلطنة المملوكية. وتتمثل هذه المقومات في المساجد بخاصة المسجد الجامع للقلعة، ودار العدل، القصر الأبلق وقاعة الأعمدة والحوش السلطاني والنطاق الشمالي وما يحتويه من طباق للجند وأسوار ودواوين ودار النيابة، والاسطبل، والميدان.

هذه الدراسة الرأسية صاحبتها دراسة أفقية موازية لها عن التحولات التي طرأت على القلعة منذ عصر الناصر محمد إلى دخول الفرنسيين مصر، وما طرأ على القلعة من تقسيم في العصر العثماني نتيجة لطبيعة الحكم في ذلك العصر، وكذلك ما أحدثه الفرنسيون من تدمير في القلعة. وفي الفصل الرابع يتناول الكتاب القلعة في عهد محمد علي وخلفائه، إذ تدل أعمال محمد علي في القلعة على استيعابه لتقنيات العصر، ولنا في ذلك ثلاثة إجراءات اتخذها: الأول كان إنشاؤه قلعة فوق جبل المقطم اعلى قلعة الجبل. والثاني إقامة أبواب جديدة للقلعة تسمح بمرور العربات التي بدأت تشيع في مصر منذ دخول الفاطميين. والثالث تشييده دارا للصناعات الحربية في القلعة منها: سراي الحرم وسراي الجوهرة ودار الضرب وسراي العدل والقصر الأحمر ومسجده. ويوضح هذا الفصل مدى اهتمام خلفاء محمد علي بالقلعة والإضافات والتجديدات التي أحدثوها. بينما عرض الفصل الخامس لانتقال مقر الحكم من القلعة إلى القصور متتبعا جذورها كمقار جديدة للحكم في مصر، وذلك منذ عصر محمد علي الذي تنقل بين القلعة وقصري الأزبكية وأثر النبي، إلى أن استقر في قصر شبرا. وفي عهد عباس حلمي الأول الذي تنقل بين القلعة وقصره بالحلمية وقصر العباسية، بينما تنقل سعيد باشا بين قصوره والقلعة. واستقر مقر الحكم في عهد الخديوي إسماعيل في قصر عابدين الذي شيد على طراز عصر النهضة الفرنسي المستحدث ليواكب اتجاهه نحو تغريب مصر وتحويلها إلى نمط الحكم الغربي.

وخلص المؤلف إلى أن ثمة ثلاثة مستويات كانت منطلقه في بحث علاقة العمارة بالسياسة. المستوى الأول :العمارة شاهدا سياسيا، وفي هذا المستوى تكون العمارة سجلا للعديد من الأحداث السياسية التي مرت عليها، أو حدثت في المنشأ المعماري، أو تركت أثرها عليه، والمستوى الثاني: الرمزية السياسية للعمارة، وفي هذا المستوى تجسد العمارة قوة الدولة وتوجهاتها السياسية. ومثل هذا النوع من العمائر شاع في العمارة الإسلامية. وتتمثل هذه الرمزية في عدد من التعابير المعمارية، يحمل بعضها مضمونا حضاريا، وبعضها الآخر يحمل مضمونا سلطويا سياسيا، ويجمع بينهما بعض العمائر ذات التعابير المتعددة. أما المستوى الثالث فيتمثل في العلاقة الفكرية بين السياسة والعمارة. وهذه العلاقة هي التي تحكم طبيعة العمارة وموضوعاتها وحركيتها وتخطيطها. وهي تنبع من التوجه السياسي للسلطة. وهذا التوجه يكون غالبا أيديولوجيا، ينعكس على العمارة في صور متعددة، وهو لا يحدث دفعة واحدة، بل يطل على العمارة القائمة على مراحل حتى يكسبها ـ عند التحول من نمط إلى نمط بتغير السلطة ـ شخصية جديدة، تعرف عند الآثاريين والمعماريين بالطراز المعماري.