الإرهاب.. من الألوية الحمراء إلى بن لادن

كان يساريا قبل أن يصبح يمينيا في عصرنا الراهن

TT

يقدم هذا الكتاب الجماعي لمحة تاريخية عامة عن كيفية ظهور الإرهاب لأول مرة في التاريخ، وذلك أثناء العصور اليونانية والرومانية القديمة، ثم عند الهنود القدماء أيضا، وفي حضارات أخرى متفرقة أثناء العصور الوسطى.

ثم ينتقل إلى دراسة ظاهرة الإرهاب في العصور الحديثة، أي بدءا من الثورة الفرنسية، حيث اخترع المصطلح لأول مرة وانتهاء بالحركات اليسارية المتطرفة التي رافقت ثورة مايو الشهيرة عام 1968 والثورات العمالية والطلابية الأوروبية الاخرى. وفي تلك الفترة ظهرت الألوية الحمراء في إيطاليا وهي التي اختطفت رئيس الوزراء آنذاك ألدو مورو وقتلته، كذلك الأمر فيما يخص عصابات العمل المباشر في فرنسا، أو جماعة بادر ماينهوف في ألمانيا..إلخ. وكلها حركات سياسية يسارية متطرفة. وبالتالي فالإرهاب كان يساريا في الواقع قبل أن يصبح يمينيا أو دينيا في عصرنا الراهن. وهذه ظاهرة تلفت الانتباه.

ثم يردف جيرار شاليان قائلا بما معناه: وهكذا حلّ بن لادن محل الألوية الحمراء وأشباهها، وحلّت الآيديولوجيا الدينية مكان الآيديولوجيا الشيوعية كغطاء لتبرير العمليات الإرهابية وقتل الناس بشكل عشوائي أو اعتباطي أعمى.

وأما القسم الثالث والأخير من الكتاب فيتمركز على الفترة المعاصرة من تاريخ الإرهاب، أي الفترة التي تلت الموجة اليسارية عام 1968 والممتدة حتى وقتنا الراهن. فهنا نلاحظ أن جيرار شاليان يكتب بحثا مهمّا بالتعاون مع آرنو بلان لدراسة كيفية الانتقال من الإرهاب اليساري إلى الإرهاب الأصولي المتطرف. والواقع أن زبدة الكتاب تكمن هنا وفي الفصول التالية التي كتبها الباحث فيليب مينو والمتعلقة كلها بالحركات الإسلامية الراديكالية. وهي تتخذ العناوين التالية: جذور الأصولية الراديكالية، القاعدة، مستقبل الحركات الأصولية في العالم العربي والإسلامي، العمليات الانتحارية ما بين الحرب والإرهاب (للباحث فرانسوا جيري)، الولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب الأصولي (للباحث آرنو بلان)، الوجه الجديد لـ«القاعدة»: خطر الإرهاب الأصولي بعد 11 سبتمبر (للباحث روهان غوناراتنا).

المراحل الأربع للإرهاب المعاصر

يرى هذا الباحث أن هناك أربعة تواريخ أساسية بالنسبة للإرهاب المعاصر. التاريخ الأول هو عام 1968: حيث انتعشت حركات العنف الأميركية اللاتينية من جهة، والفلسطينية من جهة أخرى. والغريب انه لا يفرق هنا بين المقاومة والارهاب. فهل المقاومة حق مشروع للشعوب المحتلة ام لا؟ ولكنه يفرق بين التيار الاساسي في منظمة التحرير والتيار المتطرف والمتمثل بالجبهة الشعبية التي مارست اختطاف الطائرات. واما التاريخ الثاني للارهاب فهو عام 1979: حيث حصلت قطيعة مع الماضي عندما انتقلنا من الإرهاب العلماني أو الماركسي على طريقة الجبهة الشعبية، إلى الإرهاب الديني على طريقة «القاعدة». والغزو السوفييتي لأفغانستان ساهم في انتعاش الحركات الراديكالية. وهنا ايضا نلاحظ انه لا يفرق بين حركات مقاومة ضد المحتل كحماس وحزب الله من جهة، وبين حركات الارهاب المجاني كالقاعدة وسواها من جهة اخرى. ثم يردف المؤلف قائلا:

لقد استغلت أميركا تورط السوفييت في افغانستان لكي تمنيهم بهزيمة قاصمة تشبه الهزيمة التي منوا هم بها في فيتنام. وعندئذ قادت أميركا تحالفا مع باكستان ودول عربية اخرى لدعم الجهاديين القادمين من مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي وعلى رأسهم عبد الله عزام وبن لادن نفسه. وأميركا كانت تقدم الخبرة والأسلحة المتطورة للمجاهدين، وباكستان كانت تقدم المخابرات ومعرفتها بالمنطقة.

وهكذا تم الأمر وانتصروا على السوفييت. ولكن النتيجة كانت تشكل كتلة كبيرة من الجهاديين والأفغان العرب المتطرفين جدا والعاطلين عن العمل والذين ارتدوا على البلدان العربية، حتى وصلنا الى لبنان ونهر البارد! هذا دون ان نتحدث عن العراق الجريح الذي يدفع الثمن باهظا عن كل العرب حاليا. نعم ان ثمن التحرير الفكري من أخطبوط الاصولية الظلامية يدفعه اليوم شعب العراق عدا ونقدا ونيابة عن كل الشعوب العربية التي تقف متفرجة.. وأكبر دليل على ذلك ما حصل مؤخرا للطائفة الايزيدية التي أصيبت اصابة بالغة من خلال الهجمات البربرية لعصابات هولاكو والتكفيريين. فأشلاء الضحايا البريئة من أطفال ونساء ورجال تسد شاشات التلفزيونات العالمية.. فمن يستطيع ان يرى المشهد؟ من يستطيع ان يحدق فيه ولو للحظة؟ ومع ذلك فان بعض المثقفين العرب، او أشباه المثقفين، يحاولون ايجاد التبريرات او التخريجات المخجلة والملتوية، هذا من دون ان نتحدث عن بعض الفضائيات المهللة والشامتة. وهذا أنكى من المجزرة ذاتها. انه يشكل جريمة على جريمة ويدل على ان الوعي العربي لا يزال أبعد ما يكون عن الحس الحضاري والانساني. نعم اني لا أشعر بأي احترام لما يدعى بالشارع العربي او لقسم منه على الاقل. فشارع يصفق للزرقاوي وأشباهه لا خير فيه.

هؤلاء هم الذين انقلبوا على أميركا لاحقا. وهنا نصل إلى التاريخ الثالث المهم للإرهاب المعاصر والذي يقع بين عامي 1991 - 1993: فالأصولية الراديكالية لم تعد مجرد أداة في يد أميركا لطرد السوفييت وإلحاق الهزيمة بهم في أفغانستان، وإنما أصبحت قوة مستقلة بذاتها وذات ديناميكية خاصة بها. وعندئذ شهدنا انتشار الأفغان العرب في شتى الأمصار ومساهمتهم في الحرب الأهلية للجزائر، حيث حصلت مجازر مرعبة طيلة التسعينات، ثم مساهمتهم في الشيشان، والبوسنة، وسوى ذلك، ثم قيامهم ببعض العمليات الإرهابية ضد السفارة المصرية في كراتشي، أو ضد القوات الأمريكية في الخبر بالسعودية، أو حتى ضد العرب المسلمين في السعودية ذاتها. وعندئذ تشكل الثلاثي بن لادن، الظواهري، محمد عاطف وسيطروا على حكومة طالبان في أفغانستان. وفي فبراير من عام 1998 أعلن بن لادن حربه المدمرة على الصليبيين واليهود.

ثم يردف جيرار شاليان قائلا: وأما التاريخ الرابع المهم أو المرحلة الرابعة الأساسية فتتمثل في 11 سبتمبر بالطبع. فهنا وصل الإرهاب الأصولي الراديكالي إلى ذروته ودخل في مرحلة جديدة لا نزال نعيش في ظلها وتفاعلاتها وامتداداتها حتى الآن. فقد نتجت عنها أكبر عملية مضادة للإرهاب في التاريخ: حرب أفغانستان التي قلبت نظام طالبان، وحرب العراق التي قلبت نظام حكم صدام حسين.

ويرى جيرار شاليان أنه من السابق لأوانه أن نحكم على حرب العراق. ولكن يمكن أن نستخلص بعض النتائج المؤقتة. على صعيد الإرهاب نلاحظ أنها أنعشت الحركات الأصولية بدلا من أن تقضي عليها. فهي لا تزال تقوم بعمليات مؤلمة للأميركان وغير الاميركان في العراق.

ولكن على صعيد تحجيم انتشار أسلحة الدمار الشامل من كيماوية أو ذرية أو بيولوجية فنلاحظ أن حرب بوش حققت بعض النتائج. فقد أدت إلى إجبار ليبيا وإيران على تقديم تنازلات مهمة لفرق التفتيش الدولية.

ولكن يبدو أن النظام الباكستاني هو المهدد أكثر من غيره. والبعض يقول بأن سبب فشل الحركات السنية هو أنها لم تحظ بقيادة شخصية ذات هيبة كارزمية وجاذبية كبيرة كشخصية الخميني. يضاف إلى ذلك ان طبقة رجال الدين الشيعة في إيران أكثر تنظيما وتراصا من طبقة رجال الدين في العالم السني التي تبدو اكثر تبعثرا.

وأما الباحث فيليب ميفو فيدرس تاريخ الحركات الجهادية المعاصرة وكيف انتقلت من مرحلة الإخوان المسلمين إلى مرحلة القاعدة والطالبان الأكثر تطرفا وتشددا. وهو يفتتح بحثه بثلاثة استشهادات: الأول من حسن البنا، والثاني من بن لادن، والثالث من القرآن وهو يناقض الاستشهادين السابقين. يقول حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين بما معناه: الإسلام عقيدة وإيمان، وطن وقومية، دين ودولة، فكر وممارسة، كتاب وسيف!

وأما بن لادن فيقول عام 2001 ما معناه: من حمانا وساعدنا على قهر الإمبراطورية السوفييتية يمكن أن يحمينا من جديد ويساعدنا على قهر الإمبراطورية الأميركية. وبالتالي، فنحن نعتقد أن هزيمة أميركا شيء ممكن بعون الله، بل وستكون أسهل علينا من هزيمة الإمبراطورية السوفييتية قبلها.

وأما الآية القرآنية فتقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).

يريد المؤلف بذلك أن يقول بأن روح القرآن الكريم مضادة تماما لتشدد بن لادن والإخوان المسلمين بشكل عام لأنه يدعونا إلى العدل، حتى مع الناس الذين نكرههم أو الذين بيننا وبينهم عداوة. وبالتالي فلا يدعونا إلى قتلهم أو سحقهم كما تفعل الحركات الراديكالية المتطرفة في الإسلام. والقرآن لا يبرّر العنف الأعمى الذي يصيب المدنيين بشكل اعتباطي في المخازن، أو المقاهي، أو الحافلات، أو الشوارع والأسواق. وقد نهى الاسلام نهيا قاطعا عن قتل النساء والشيوخ والأطفال أثناء الحروب. ومعروفة توصيات ابي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما بهذا الشأن.

ويرى الباحث الفرنسي فيليب ميفو أن الحركات الجهادية ظهرت في بداية السبعينات واعتمدت على آيديولوجيا قديمة نسبيا هي آيديولوجيا الإخوان المسلمين. وهذه الآيديولوجيا تمثل تيارا أصوليا قديما، وصورة أسطورية عن بدايات الإسلام الأولى وتعتقد أن كل شيء تحقق في ذلك الزمن. وبالتالي فنحن نتدهور وننحط، كلما ابتعدنا عن زمن الوحي والدولة التي شكلها النبي (ص) في المدينة. وبالتالي فينبغي أن نعود إلى تلك الفترة وأن نشكل دولة إسلامية على غرارها وأن نطبق الشريعة حرفيا وعندئذ تنحلّ كل مشاكلنا وهمومنا دفعة واحدة. لكنهم يجهلون انه تفصلنا عن تلك الفترة أربعة عشر قرنا من الزمن.. وهذا أكبر دليل على مدى استلابهم العقلي او انعدام الحس التاريخي لديهم. ثم يردف الباحث قائلا:

ولكن هذا التيار الأصولي يعرف كيف يلعب على وتر العصبية الدينية عند المسلمين وكيف يتلاعب بعقول الفقراء والمهمّشين لكي يعبئهم ضد الأنظمة الحاكمة أو لكي يزجّ بهم في عمليات تخريبية أو انتحارية على المستوى المحلي او الدولي.

والحركة الجهادية المعاصرة تتبنّى مشروعا سياسيا طوباويا يتعذر تحقيقه على أرض الواقع، لكنه قادر على تجييش الملايين! من هنا يبدو الطابع التناقضي للحركات الأصولية، فهي قادرة وعاجزة في آن معا.

ولكن عندما تعجز عن الوصول إلى السلطة فإنها تلجأ إلى الإرهاب والضرب الأعمى. ولكن الباحث يرى أن الإرهاب الجهادي لا يمكن أن ينتصر لسبب بسيط هو أنه لا يمتلك أي مشروع سياسي حقيقي. إنه مهووس بتشكيل "دولة المدينة" على هذه الأرض في القرن الواحد والعشرين. فالدولة التي بناها النبي(ص) في المدينة قبل ألف وأربعمائة سنة هي النموذج الأعلى للجهاديين. لكنهم يحملون عنها صورة أسطورية لا تاريخية ولا يدركون أن الظروف اختلفت وتغيرت كثيرا عما كانت عليه قبل أربعة عشر قرنا. وهنا تكمن مشكلة الحركات الجهادية: فهي مستلبة عقليا، بمعنى أن عقلها مشدود إلى الماضي باستمرار لا إلى الحاضر أو المستقبل. ولذلك فإن الفشل هو مصيرها حتما. فليس لها أي مشروع مستقبلي قادر على الاندماج في الجماعة الدولية وتحقيق المصالحة بين الإسلام والحداثة.

وإذا لم نقم بدراسة تاريخية سوسيولوجية للعالم الإسلامي، فإننا لن نفهم سبب ازدهار الحركات المتطرفة فيه حاليا. ولن نفهم لماذا تسوده أو تملأ شوارعه من أقصاها إلى أقصاها.

ويرى الباحث الفرنسي أن الإمام محمد عبده كان مستنيرا في فهمه للإسلام ويميل إلى العقلانية. ولكن تلميذه رشيد رضا مشى في اتجاه الانغلاق درجة، ثم جاء تلميذه حسن البنا لكي يمشي في التعصب درجة اخرى، حتى وصلنا إلى سيد قطب وأبو الأعلى المودودي الباكستاني الأصل. ومعلوم أنهما أدانا الديمقراطية صراحة لأنها تقول بسيادة الشعب في حين أنه لا سيادة إلا لله. ولم يدركا ان سيادة الله جل جلاله لا تنفي سيادة الشعب اذا ما فهمناها بشكل صحيح ولا تتعارض معها. فسيادة الشعب زمنية سياسية وليست دينية على عكس السيادة الإلهية. وقد نتج عن ذلك مصطلح الحاكمية. بمعنى أن الشرعية إلهية فقط ولا يمكن أن تكون بشرية، ولا حكم إلا لرجال الدين والاصوليين الذين يزعمون بانهم يجسدون الإرادة الإلهية على الارض.. ولهذا السبب كفّر علي بلحاج الديمقراطية في الجزائر واعتبرها بدعة. وهنا نصل إلى خلاصة الفكر الجهادي والحركات الراديكالية المتطرفة. فهم يعتقدون بأنهم يمثلون ظل الله على الارض وبالتالي فالحكم ينبغي ان يكون لهم وليس للشعب. هذا هو معنى الحاكمية المضادة للديموقراطية. ان الحاكمية تعني الثيوقراطية أي حكم رجال الدين الذين يعتبرون انفسهم بمثابة الناطقين الرسميين باسم الله في حين انهم بشر في نهاية المطاف.. ووهم الحاكمية لا يزال يسيطر على جماهير المسلمين، حتى اليوم بسبب الجهل والأمية والتخلف وعدم وجود أي تفكير نقدي عقلاني عن الاسلام، كما حصل في المسيحية الاوروبية.

لقد كفّر سيد قطب المجتمع المصري، وقال بأنه ارتد عن الإسلام ويعيش حياة الجاهلية لأنه أخذ بأساليب التطور وقلّد الحداثة الغربية. ونتجت عن سيد قطب جماعة اخرى أكثر تطرفا منه هي: جماعة التكفير والهجرة التي دعت أتباعها للانفصال عن المجتمع الكافر والذهاب إلى الصحراء للعيش في الكهوف! فهذا المجتمع الجاهلي الوثني بحسب رأيها لا يمكن أن نتزاوج منه أو نختلط به أو نأكل معه على نفس المائدة.

فالمجتمع أصبح رجسا من عمل الشيطان ولا يمكن بعد الآن التعايش معه. ثم وصلنا بعدئذ إلى عبد السلام فرج صاحب الفريضة الغائبة. وهو الذي أفتى بقتل السادات لأنه اعتبره مرتدا عن الإسلام بعد كامب دافيد. وهو يرى أن أركان الإسلام ستة لا خمسة. ولكن المسلمين نسوا الفريضة السادسة، أي فريضة الجهاد، وأسقطوها من حسابهم بمرور الزمن. وهذا هو معنى الفريضة الغائبة.

ثم ابتدع عبد السلام فرج بدعة جديدة وهي أن الجهاد ينطبق أيضا على المسلمين! بمعنى انه يحق قتل المسلمين ايضا، وليس فقط أبناء الديانات الاخرى. ويقصد بذلك المسلمين الذين خرجوا على الإسلام في نظره كالسادات لأنه عقد الصلح مع اليهود. فهؤلاء ينبغي أن نعلن عليهم الجهاد مثلما نعلنه على اليهود والنصارى.

وطبقا لما يقوله الباحث فإن الفتوى التي أجازت قتل الرئيس أنور السادات لم تصدر عن عبد السلام فرج لأنه لا يتمتع بالأهلية الدينية الكافية، وإنما صدرت عن الشيخ عمر عبد الرحمن الذي يعتقد بأنه كتبها بخط يده! ومعلوم ان هذا الشخص مسجون في اميركا الآن لانه متهم في حادثة التفجير الارهابية الاولى التي أصابت مركز التجارة العالمي في نيو يورك.

ثم يقول الباحث الفرنسي أنه بعد هزيمة السوفييت في أفغانستان وانسحاب جيشهم شعر الأميركان بأنهم صنعوا من المجاهدين العرب سلاحا ذا حدين. فتعصب هؤلاء المجاهدين لأفكارهم كان مخيفا وينذر بأوخم العواقب.

ولكنهم، أي الأميركان، تركوا مهمة حل مشكلتهم للجيش الباكستاني، وفي نهاية المطاف تركوهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم. وكان عددهم يقدّر بعشرات الآلاف. ووجدوا أنفسهم أمام ثلاثة احتمالات: الأول هو العودة إلى بلدانهم الأصلية لقلب الأنظمة "الكافرة" بالقوة. بالطبع فهم يحددون من هو كافر ومن هو غير كافر من خلال فتاواهم الاعتباطية الجاهلة. وهذا ما حاولوا أن يفعلوه في الجزائر عندما شكّلوا الجماعة الإسلامية المسلحة التي اشتهرت بأعمالها الإرهابية هناك. ومعلوم انها كانت تطلق الفتاوى جزافا ضد المثقفين تمهيدا لتصفيتهم جسديا.

والاحتمال الثاني هو العودة إلى أوروبا من أجل العيش في أوساط الجاليات المهاجرة وتحويل أبنائها إلى الإسلام الراديكالي. والاحتمال الثالث هو المساهمة في الجهاد العالمي في مناطق كالبوسنة، وكشمير، والشيشان، أو حتى الجزائر.

وهنا يطرح المؤلف هذا السؤال: من هو عبد الله عزام هذا الذي نسيه الناس الآن ولم يعودوا يتذكرون إلا اسم بن لادن؟ والجواب هو أنه أردني من أصل فلسطيني (1941 - 1989). وكان من المحاربين القدامى في حرب 15 يونيو 1967. لكنه قطع علاقاته مع منظمة التحرير وياسر عرفات لأنها ضحت بالجهاد ضد إسرائيل من أجل زعزعة الأردن وقلب الملك حسين والحلول محله. وبعد سبتمبر الأسود عام 1970 نال شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية من الأزهر، ثم ذهب إلى جدة في المملكة العربية السعودية للتعليم في جامعتها. وهناك كان لديه تلاميذ عديدون من بينهم شخص يدعى أسامة بن لادن! وبعدئذ ذهب إلى باكستان لتأسيس "مكتب خدمات المجاهدين العرب" من أجل مقاومة الغزو السوفييتي لأفغانستان.

وفي مقالة بعنوان: التحقوا بالقافلة، أي قافلة المجاهدين يقول بما معناه: عندما يدخل العدو إلى أرض الإسلام فإن الجهاد يصبح واجبا على كل فرد. وإذا لم يستطع أن يشارك فيه بشخصه فينبغي أن يشارك بماله.

وفي تلك الفترة بلور عزام لأول مرة فكرة تشكيل جيش عالمي دائم للجهاد، وهي الفكرة التي سيأخذها عنه بن لادن عندما أسس منظمة القاعدة، بل ان مصطلح القاعدة نفسه من اختراع عبد الله عزام وليس بن لادن. الشيء المؤكد هو أن اسم بن لادن لم يلمع فعلا إلا بعد اغتياله. فما دام عزام موجودا فإنه كان يغطّي على الجميع بهيبته وقوة شخصيته.

ثم يردف الباحث قائلا: والآن أصبح الدرب مفتوحا أمام بن لادن لكي يجمع حوله كل الجهاديين السلفيين المتعطشين لخوض المعارك وسفك الدماء.

وفي 2 فبراير من عام 1998 أصدر الفتوى التي يدعو فيها كل مسلم إلى قتل الأميركان من عسكريين ومدنيين حيثما كانوا وأخذ أملاكهم حلالا طيبا.

وبعدئذ ابتدأت التفجيرات ضد الأميركان في السعودية، وافريقيا، ومناطق أخرى. وعلى الرغم من أنه يرفض دائما تبنّي هذه العمليات بشكل رسمي إلا أنه يعلن رضاه عنها وابتهاجه بها مثلما فعل مع ضربة 11 سبتمبر.

ولكن هذه الضربة الكبرى سوف تكون القشة التي قصمت ظهر البعير. فبعدها أصبحت القاعدة في حرب مفتوحة ليس فقط مع أميركا وإنما مع العالم الأوروبي كله، بل والعالم أجمع. وهذا الخط المتهور ما كان ليوافق عليه عبد الله عزام. فقد كان أكثر حكمة وذكاء من بن لادن. كان يريد التركيز على فلسطين أولا وليس مهاجمة الغرب في عقر داره وبشكل مباشر وخطير وغير محسوبة عواقبه.

ويرى الباحث الفرنسي أن بن لادن أخطأ في التقدير خطأ جسيما. فقد فكر على النحو الوهمي التالي: بما أنني هزمت الجيش السوفييتي في أفغانستان فإنني قادر على هزيمة أميركا! ولم يتنبه إلى أن هزيمة السوفييت عائدة بالدرجة الاولى إلى الأسلحة الأميركية المتطورة والمعلومات الاستخباراتية التي قدمتها أميركا للأفغان. يضاف إلى ذلك أن الإمبراطورية السوفييتية كانت في طور التفكك أو على وشك الانهيار وليس فقط بسبب أفغانستان. أما الإمبراطورية الأميركية فكانت في طور الصعود لكي تصبح القوة العالمية الأولى. وبالتالي فقد تحداها في الوقت غير المناسب على الاطلاق تماما كما فعل صدام من قبل. وهذا اكبر دليل على مدى غبائهما السياسي ورعونتهما.هنا يكمن الخطأ الكبير في التقدير. يضاف إلى ذلك أن المشروع السلفي الذي يحلم به بن لادن لم يستطع أن يشكل أي دولة في أي منطقة من مناطق العالم العربي أو الإسلامي. فالخميني نجح في تشكيل دولة سلفية شيعية في إيران. أما بن لادن فقد فشل في اسقاط أي نظام على الرغم من كل محاولات الاغتيال والتفجيرات وسفك الدماء هنا أو هناك. ومعلوم ان المملكة العربية السعودية تخوض حربا ضروسا ضد هذه الفئة الضالة المضللة ومع ذلك فان بعض وسائل الاعلام الغربية تتهمها بأنها هي التي تقف خلف الارهاب! وعلى الرغم من انها سحبت الجنسية السعودية من بن لادن قبل 11 سبتمبر بسنوات عديدة الا انهم لا يزالون يحسبونه عليها حتى الآن.

الدولة الوحيدة التي كانت قائمة على المشروع السلفي في أكثر صوره تخلفا وظلامية هي دولة الطالبان. لكنها سقطت ولم تحل محلها أي دولة أخرى حتى الآن. بالطبع فهو، أي بن لادن، يحلم بأن تسقط باكستان وقنبلتها الذرية الإسلامية في أيدي الأصوليين. ولكن هذا الشيء ليس مؤكدا على الإطلاق فمشرف لا يزال قابضا على الأمور حتى هذه اللحظة.

وأما الشيء الثالث الذي قضى على كل آمال بن لادن في تشكيل الدولة السلفية والعودة إلى الماضي فهو عدم استجابة الشعوب العربية أو الإسلامية له. صحيح أن هناك شريحة كبيرة في الشارع تتعاطف معه، لكنها تخشى من وصوله إلى السلطة. فالدول العربية سوف تكون أول ضحية للمشروع الراديكالي السلفي.