إشراقات رامبو

هاشم صالح

الكتاب: آرثر رامبو. مسألة حضور ـ تأليف: جان لوك ستينميتز ـ دار النشر: تالاندييه باريس
TT

هل هي اشراقات أم عتمات؟ أم اشراقات من خلال الدياجير والعتمات؟ هذه النصوص التي تمثل آخر ما كتبه رامبو قبل أن ينطفئ شعريا ويسكت الى الأبد حيّرت الشعراء والنقاد في آن معا. فبعضهم يعتبرها قمة ما وصل اليه الشعر الفرنسي. والبعض الآخر يعتبر ان مجرد التعليق عليها أو دراستها من خلال مناهج النقد يشكل اساءة بالنسبة لها انه يخدش جمالها... فهي من الجمال والروعة بحيث انها تعلو على كل نقد، أو كل منهج أو كل تعليق. ينبغي ان نقف أمامها خاشعين، ان نتذوق طعمها، ان نُسْحر بعالمها الغريب الفتان وكفى... ولكن البعض الآخر، وبخاصة الناقد المعروف تودوروف، يرى انه من المستحيل فهمها. وهو لا يعتبر ذلك عيبا أو نقصا وانما قمة الشعر. ويرى هذا الناقد ان معنى "الاشراقات" هو انه لا معنى لها، أو قل بأنها تجعل اشكاليا كل تركيبة للمعنى... ثم يقول أيضا: اتساءل أحياناً فيما اذا لم تكن الاشراقات، أو بعض قصائدها، أو بعض عبارات هذه القصائد، تمثل التخوم القصوى للشعر: أي آخر مدى يمكن أن يصل اليه الشعر. وبالتالي فإن أكبر موقف ثناء عليها هو ان يخرس الناقد أمامها تماما... فلا مجال لتحليلها ولا لدراستها. انها تقف على حدود الغموض المطلق أو اللافهم.

ولكن الناقد جان لوك ستينميتز، الاستاذ في جامعة نانت بفرنسا، لا يتفق مع تودوروف على هذا الرأي المتطرف. فهو يعتقد بأنه لا يمكن لشاعر أن يكتب اربعاً وخمسين قصيدة من أجل ألا يقول شيئا!.. وبالتالي فإن دراسة تودوروف هي دراسة بنيوية محضة، أي شكلانية خارجية، لم تعرف كيف تنفذ الى أعماق النص. فرامبو يعبر عن فكره، عن روحانيته، في هذه القصائد العبقرية. صحيح انه يعبر بطريقة غامضة جداً، ولكنه يريد ان يقول شيئا ما، أو يخلق جواً ما على الأقل أنه يقدم رؤية معينة عن العالم ويعطي رأيه في العصر والظرف. ولكن طريقة رامبو هنا تشبه الغموض الواضح، أو بالأحرى الوضوح الغامض جداً. هناك ومضات خاطفة تخترق هذه القصائد التي تبدو ظاهريا مبهمة أو مغلقة وكأنها تستعصي على التفسير. ولكن أليس الغموض هو احدى السمات الأساسية للحداثة الشعرية؟ في الواقع أن تأثير "اشراقات رامبو" على الشعر الحديث كله ليست موضع نقاش بهذا المعنى فنحن نعيش في ظل رامبو، شعريا، منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم نحن لم نتقدم خطوة واحدة الى الأمام.. والدليل على ذلك حجم التأثير العميق الذي مارسته هذه الاشراقات الغامضة على الحركة السوريالية التي تعتبر من أهم الحركات الأدبية في القرن العشرين. والواقع ان الاشراقات بفوضاها، وغموضها، وحريتها الانفلاشية اذا جاز التعبير تبدو لنا وكأنها مكتوبة أتوماتيكيا. بمعنى آخر، فإنها هي التي مهدت للكتابة الاتوماتيكية التي اشتهر بها السورياليون لاحقا. وبالتالي فرامبو، بالاضافة الى لوتريامون بالطبع، هو أحد الآباء الكبار المؤسسين للحركة السوريالية. ويعترف بذلك اندريه بريتون. لكيلا يبقى كلامنا هنا عموميا أو تجريديا لنحاول ان نستشهد ببعض المقاطع. ولذلك فسوف أترجم قصيدة كاملة بعنوان: فجر

قبَّلتُ فجر الصيف.

لم يكن شيء يتحرك بعد في واجهة القصور. الماء كان ميتا. ومعسكرات الظلال لم تكن تترك طريق الغابة. مشيت، موقظا الأنفاس الحية والفاترة، والجواهر نظرت، والأجنحة انطلقت بدون ضجيج.

أول مبادرة، في الدرب الضيق المليء بالاضاءات الطرية والشاحبة، جاءت من زهرة قالت لي اسمها.

ضحكت لمنظر الشلال الاشقر الذي راح يتفرع كجدائل الشعر عبر أشجار الصنوبر: في القمة الفضية عرفت الآلهة.

عندئذ رحت اكشف الحجب، الواحد بعد الآخر. في الممر عن طريق التلويح بالأيدي. في السهوب حيث أدنتها عند الديك. في المدينة الكبيرة كانت تهرب بين الأجراس والقباب، وراكضا كشحاذ على أرصفة الرخام، رحت أطردها.

في أعلى الطريق، بالقرب من غابة الغار، أحطتها بحجاباتها المتكدسة، وشعرت قليلا بجسدها الضخم. الفجر والطفل سقطا في أسفل الغابة.

عند الاستيقاظ كان الوقت ظهرا.

كيف يمكن ان نفهم هذه القصيدة؟ أليست متفككة وبلا معنى كما يقول تودوروف؟ ثم هل هي قصيدة واقعية ام حلم رآه الشاعر في المنام؟ في الواقع ان العبارة الاخيرة توحي لنا بان الشاعر كان يحلم، ثم استيقظ فجأة، وكان الوقت ظهرا.. فالقصيدة بتفككها، وانفلاشها، وحريتها، تشبه الحلم الذي ينط من حالة الى حالة، ومن وضع الى وضع بدون أي ترابط منطقي. ولكن هل الشعر بحاجة الى منطق لكي يسحرنا ويعجبنا؟ متى كان الشعر بحاجة الى منطق؟ ثم ألم تخلق هذه القصيدة جوا معينا، ومناخا محببا الى النفس؟ الا يكفيها هذا كمعنى يا سيد تودوروف؟! لماذا نريد من القصيدة معنى جاهزا، مكتملا، يمكن القبض عليه باليد؟ هذا المعيار لا ينطبق على شعر الحداثة، وانما على الشعر الكلاسيكي السابق له. وهنا تكمن احدى المشاكل الكبرى التي أدت الى حصول القطيعة بين الشعر الحديث والجمهور. لكن لننتقل الى مقاطع اخرى من هذه القصائد التي تشبه الجواهر: اشراقات رامبو.

طفولة

* في الغابة يوجد عصفور، غناؤه يوقفك ويجعلك تحمّر من الخجل.

توجد ساعة توقيت ولكن لا تدق.

يوجد مستنقع مع عش لحيوانات بيضاء.

توجد كاتدرائية تهبط وبحيرة ترتفع.

توجد سيارة صغيرة مهجورة في الدغلة، او تنزل في الطريق الضيق راكضة، مزينة بالشريط.

توجد فرقة من الممثلين الصغار بالازياء، وقد لُمِحوا على الطريق عبر حافة الغابة.

يوجد اخيرا، عندما تكون جوعانا وعطشانا، شخص لكي يطردك.

اما القصيدة التي ادهشت جميع النقاد وسحرتهم حرفيا فهي تلك التي تحمل عنوان "عبقري" او "عبقرية" (يجوز الوجهان والمعنى واحد في النهاية). وهي آخر قصيدة من قصائد "الاشراقات". وفيها يتجلى الخيال الاستشرافي ان لم نقل النبوئي لرامبو، ويبلغ الذروة في التعبير الشعري الحر والواثق من نفسه. لنستمع اليها اذن بشكل كامل:

عبقري

* "انه المودة والحاضر لانه جعل البيت مفتوحا على الشتاء المزبد وعلى ضوضاء الصيف، هو الذي طهَّر الاشربة والاغذية، هو الذي يمثل سحر الاماكن الهاربة والنعيم الفوق بشري للمحطات. انه المودة والمستقبل، القوة والحب الذي نحن (واقفين في الهيجان المسعور والضجر) نراه يمر في سماء العاصفة واعلام الانخطاف.

انه الحب، المقياس الكامل والمعاد ابتكاره، العقل الرائع وغير المتوقع، والابدية: الآلة المحبوبة من قبل الصفات المحتومة. كلنا شعرنا بالهلع لتنازله وتنازلنا: آه، لذة الاستمتاع بصحتنا، واندفاعة قوانا، والمودة الانانية والوله كله له، هو الذي يحبنا لأجل حياته اللانهائية...

ونحن نتذكره وهو يرحل... واذا ما انتهى الولع، دقّ، وعده دقّ كالجرس: "فيما وراء هذه الخرافات، هذه الاجساد القديمة، هذه العائلات والاعمار انه عصرنا كله هو الذي غرق!".

انه لن يذهب انه لن ينزل من سماء ما، ولن يحقق الافتداء من غضب النساء وبهجة الرجال وكل هذه الخطيئة: ذلك انه حصل، هو كان، وهو محبوب.

آه، يا لانفاسه، ورؤوسه، ومساراته، والعجلة الهائلة لاتقان الاشكال والانخراط.

آه، يا لخصوبة الروح واتساع الكون!

جسده! الانفلات المشتهى، تحطُّم الالهام المختلط بالعنف الجديد!

منظره، منظره! كل الخنوعات القديمة والذنوب ترفع بعد مروره.

نهاره! انحلال كل الآلام الصاخبة والمتحركة في موسيقى اكثر كثافة.

خطواته! هجرات اكثر ضخامة من الغزوات القديمة.

آه، هو ونحن! الخيلاء الاكثر تعاطفا من الرحمات الضائعة.

آه، ايها العالم، والنشيد الواضح للتعاسات الجديدة!

لقد عَرَفنا جميعا، وجميعا احبنا. لنعرف، في هذه الليلة الشتائية، من محطة الى محطة، من قطب صاخب الى قصر، من الجمهور الغفير الى الشاطئ، من نظرات الى نظرات، بقوى وعواطف متعبة، ان نناديه من بعيد وان نراه، وان نطرده، وتحت مد البحر وجزره وفي اعالي صحارى الثلج، ان نتتبع خطواته، انفاسه، جسده، نهاره".

من هو هذا الشخص الاستثنائي، هذا الشخص العبقري؟ هل هو رامبو نفسه؟ ام انه المنقذ او المخلِّص الذي سيجئي ويفتح لنا الطريق جميعا؟ كل الاسئلة تبقى مفتوحة ومشروعة امام قصيدة رامبو المليئة بالغموض والاسرار والمفتوحة على تعددية المعنى: أي على الحرية.. فلا يمكن ان نسجن قصائد رامبو في معنى واحد.

كالقنص.

بعد الطوفان

* مباشرة بعد ان هدأ الطوفان، أرنب بري توقف بين العشب والنرجسات المتمايلة ورفع ابتهاله الى قوس قزح عبر خيوط العنكبوت.

آه! يا للجواهر التي تختبئ ـ والازهار ـ التي أخذت تنظر.

في الشارع الكبير الوسخ دكاكين التجار تنهض، وسحبوا القوارب نحو البحر المنضد في الأعلى كما على النقوش.. الخ..

هكذا نلاحظ ان القصيدة كلها عبارة عن تدفق لشريط من الصور الحية، المتبعثرة، التي لا يربط بينها رابط. بهذا المعنى كان رامبو الرائد الذي شق الطريق امام الحركة السوريالية قبل ان يظهر السورياليون بزمن طويل. وهنا تكمن عبقريته ايضا. فقد استبق على التطور اللاحق الذي سيحصل للشعر وتقنياته الحديثة في التعبير والتصوير.

انه كمعظم الرواد الكبار الذين يجيئون قبل الاوان ولا يفهمهم احد في وقتهم ولكن يمهدون الطريق للآتي وعندئذ يُفْهَمون. فعبثية الصور ـ او التشابيه ـ تبدو لنا واضحة جلية، ولكن هذا لا ينقص اطلاقا من جمالها، على العكس. نقول ذلك ونحن نعلم ان التشبيه العبثي اصبح بعد رامبو الاداة الاساسية للحداثة الشعرية. قلت بانه عبثي، ولم أقل بانه مجاني. فالشاعر الكبير لا يسقط في وهدة المجانية، او السهولة، او السطحية. لنستمع الى بعض المقاطع الاخرى من قصيدة بعنوان: طفولة. وهل هناك اجمل من الطفولة؟ نقول ذلك وبخاصة ان الشاعر الذي نحتفي به طفل بكل ما للكلمة من معنى. فقد كتب شعره كله قبل العشرين!.. وهكذا ختم انتاجه الادبي بسرعة البرق...