تحرير الحقيقة من الأسطورة

في عهد ليليت نشأ أول شكل من أشكال الصراع بين الرجل والمرأة

ليليت والحركة النسوية الحديثة ـ المؤلف: حنا عبود ـ الناشر: وزارة الثقافة السورية
TT

لم تكن السلطة للرجل في البداية، ولم يستطع أن ينشئ أفكارا خاصة به عن الحياة. ومع ظهور الثور و الحصان، استطاع الرجل، الذي روضهما، أن يسود في الأرض، فاستفاد من الثور في حراثة الأرض، وسخر الحصان من أجل الأعمال الحربية، والتوسع، وإنشاء الإمبراطوريات، وبدأ بالطبع في انتزاع السلطة من المرأة.

يهدف مؤلف هذا الكتاب الصادر حديثا عن وزارة الثقافة السورية إلى تحرير الحقيقة من الأسطورة، حقيقة من هي ليليت، وإذا كانت ليليت هي المرأة الأم، فما هي الحقيقة في ذلك؟ يقال ان ليليت أسطورة، هم لا يقصدون بذلك معناها الأصلي، أي القصة الكاملة لحدث أو شخصية، بل يقصدون أنها من نسج الخيال، وإذا كان الكاتب يوافق على ذلك، فإن كتابه هذا مؤلف من أجل ان يثبت أن الخيال يقدم لنا الواقع بأصدق مما قدمه المؤرخون الذين كتبوا عن الإناث، وأن الحقيقة، وهي حبيسة الأسطورة، لا تحتاج إلا إلى تحرير.

من هي ليليت إذن في الأسطورة وفي الخيال؟ ليليت هي المرأة إطلاقا، أو هي المرأة مع القطب الآخر، المرأة التي ظلت منذ تلك الأيام السحيقة (يعيدنا الكاتب إلى حضارات ما بين النهرين) تناضل من أجل الاحتفاظ بحقوقها، والإبقاء على ملكية الأولاد، والإشراف على تربيتهم.

ولدت ليليت في الألف الثالث قبل الميلاد، منسوبة إلى الأم الكبرى التي هي "الأرض". وكان اسمها يعني الهواء والريح والنفس أو الروح، ثم صار اسمها يعني الليل، ولكن ليليت هي كائن بشري. كائن أنيطت به، أو أناط بنفسه المهمة الإنسانية الأكثر نبلا، مهمة تربية الأطفال، وإعدادهم للحياة، ولكن أي نوع من الحياة؟ كان هذا أول شكل من أشكال الصراع بين المرأة والرجل، هل تعد الأطفال من أجل أن يعم السلام والأمن والعدالة والحب؟ أم تعدهم أن يكونوا مقاتلين وغزاة مثلما بدأ الرجل يدعو ويطالب؟ لم تكن السلطة للرجل في البداية، ولم يستطع أن ينشئ أفكارا خاصة به عن الحياة. ومع ظهور الثور والحصان، استطاع الرجل، الذي روضهما، أن يسود في الأرض، فاستفاد من الثور في حراثة الأرض، وسخر الحصان من أجل الأعمال الحربية، والتوسع، وإنشاء الإمبراطوريات، وبدأ بالطبع في انتزاع السلطة من المرأة. أما المرأة بدورها فقد انقسمت على نفسها: ليليت من جهة، وإنانا من جهة أخرى. وفيما تعاونت إنانا مع الرجل، ورضخت لمطالبه، وصارت شريكة له، وربة للحرب والفتن، أصرت ليليت على عدم المساومة، وعلى أن تظل تربية الأطفال من نصيبها. ولكن تحولات السلطة، والملكية العامة، مكنت الرجل من انتزاع حقوق ليليت في تربية الأطفال، وفي ملكيتهم أيضا. ثم دفع بها في أساطيره لتكون قاتلة، ذلك أن تربية الأطفال على الرحمة والسلام والحب، اعتبرت قتلا بنظر الرجل المقاتل الباحث عن الثروة، والسيطرة. وهكذا أضحت ليليت ما يسميه العوام "بالتابعة" التي تقتل الأطفال ليلا.

ولكن النساء ثرن في الزمن الماضي على ذلك التقسيم الجائر للعمل بين الذكر والأنثى، وأنشأن مجتمعات مستقلة لم تضم سوى النساء، عرفت باسم "الأمازونات"، وتحولت تلك المجتمعات فيما بعد إلى مجتمعات محاربة، وإذا كان كثير من الباحثين ينكرون وجود الأمازونات، ويرجحون أنهن ولدن من الأسطورة وحدها،وأن مجتمعهن اختلاق ميثولوجي،لم يكن له أي أساس واقعي، فإن الباحث هنا يؤكد وجودهن استنادا إلى الأدلة الأثرية المكتشفة، فقد تبين أن القبور في سكيثيا (في آسيا الوسطى) هي قبور للنساء فقط، وعثر إلى جانب الهياكل العظمية النسائية، على أسلحة مثل الخناجر والأقواس والنبال والسكاكين الصغيرة، وتم الإقرار عام 1997 بوجود مجتمعات أمازونية. يذكر حنا عبود بأن الجيش البربري الذي تصدى للحملات العربية على شمال أفريقيا، كانت تقوده امرأة عرفها العرب باسم "الكاهنة" وفي عام 1535 واجه القائد الأسباني "فرانسيسكو دي أوريلانا" أكثر من جيش مكون من النساء حصرا، في جبال الأنديز، وخاض معارك ضارية حتى استطاع الانتصار عليهن، وبسبب ذلك أطلق على النهر الكبير الذي صادفه اسم نهر الأمازون، ولكن الأمهات حولن ليليت بالقابل إلى تعويذة، ورحن يرسمنها على شكل يد وفي راحتها المفتوحة عين مفتوحة أيضا برموش طويلة، يعلقنها على مهود الأطفال وفي أعناقهم. وما زلنا نرى حتى اليوم، هذا الرمز موجودا في حياتنا اليومية، كإشارة لطلب الحماية من ليليت.ثم بدأت الأمهات تغنين لأطفالهن ترنيمة للنوم يذكرن فيها اسم ليليت وهي "يا ليل يا عين" وهكذا فإن يا ليل بحسب عبود إيجاز لاسم ليليت، أما يا عين فهي العين الراعية، بحيث أنهن كن وما زلن يناشدن ليليت حماية ورعاية أبنائهن.

ليليت وإنانا إذن نمطان أنثويان، ليليت هي المرأة التي ما تزال تصر على استعادة حقوقها في تربية الأولاد، وإنانا هي المرأة التي تحاول التوفيق بين مصالح الأنثى ومصالح الرجل. يصف حنا عبود إنانا بالانتهازية، وينتصر لليليت.

يفرد الكاتب الفصل الرابع من كتابه للحديث عن الحركة النسوية الحديثة ويعرض لبضعة كتب فكرية وروائية كتبتها نساء في العصر الحديث عن موضوع حرية المرأة، أو تحررها على وجه الدقة. وإذا كان الكتاب لا يقدم لنا التفصيلات الضرورية في هذا الباب، فإنه بالمقابل لا يتذكر أي نضال قامت به المرأة العربية في أمر تحرير النساء، ومع ذلك فإن بوسع القارئ أن ينظر إلى هذا الكتاب النوعي، والشيق، والمليء بالمعلومات، والاستنتاجات العميقة، على أنه أشبه ببيان جديد في بدايات القرن الواحد والعشرين، عن تحرير المرأة.