الخرطوم.. ثورة في النشر.. تراجع في القراءة

ما نشر خلال العشر سنوات الأخيرة يفوق ما نشر خلال قرن كامل

TT

يبدو أن الخرطوم تحركت من مربع القراءة إلي دائرة الكتابة والنشر، فهي تشهد ثورة حقيقية فيهما، وبات المهتمون بالمطبوعات من صحافيين ومتابعين يزورون مكتبات دور النشر السبع الكبيرة بالخرطوم كل أسبوع ليجدوا المطبوعات الجديدة من شعر وروايات وقصص ومجموعات كاملة ودراسات بما يمكن أن نسميه نهضة كبيرة غير مسبوقة في مجال النشر، فما نشر في العشر سنوات الأخيرة بالبلاد يفوق ما نشر خلال قرن كامل، كما يعلّق مدير دار عزة للنشر أكبر دور النشر في السودان.

وحصلت أيضاً في هذه العشر سنوات هناك زيادة ملحوظة، خاصة في السنتين الأخيرتين، في مجال التأليف، فقد كانت الثقافة عند الأجيال السابقة أشبه بالثقافة الشفاهية، وقليل جدا من المثقفين من يهتم بالكتابة والتوثيق، وكان التأليف في الماضي على قلّته يكاد ينحصر على الدراسات السياسية لبعض الرموز السياسية والحزبية، بحكم الحرب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي، إضافة الي بعض الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية والمجموعات الشعرية وأعمال أدبية وشعر غنائي في طبعات فقيرة للغاية. إلا أنه مع النهضة الحالية ظهرت مطبوعات أنيقة في شتي ضروب العلوم والمعرفة: أساتذة جامعيون وأكاديميون يكتبون لأول مرة بعد أن كانوا يكتفون بكتابة المقالات بالصحف من حين لآخر، وبات الكثير من الصحافيين وكتّاب الأعمدة يجمعون كتاباتهم في كتب مسلسلة كالكاتب فتح العليم عبد الله ومحجوب عروة والحاج ورّاق والبوني، وظهرت أسماء روائية جديدة تبشر بمستقبل جيد كرانيا مأمون وبركة ساكن ومنصور الصويم وأسماء جديدة في الشعر كنجلاء عثمان التوم، كما أن عشرات الأدباء والشعراء من السودانيين المقيمين خارج السودان يرفدون بمؤلفاتهم المكتبات المحلية بعضهم لأسماء معروفة وآخرون جدد ومنهم النور عثمان أبكر، صديق عبد الباقي ومحسن خالد وعبد الغني كرم الله ويوسف الحداد وغيرهم بدول الخليج. ومن المقيمين بالدول الغربية هناك عماد براكة وأحمد المك بهولندا، وروايات أخرى صدرت باللغة الإنجليزية للروائيين ليلي أبو العلا وجمال محجوب المقيمين بلندن. حتى طلاب الجامعات لهم مشاركة لا بأس بها في عالم التأليف المحموم ومنهم طلاب جنوبيون قدموا أعمالا بلغة عربية رصينة كستيلا قايتانو وجون أوريلو أوكاج. وأصدر الفنان الكابلي مؤلفاته الشعرية الغنائية في مجموعة لأول مرة، كما حفل عالم النشر بإصدار مجموعات كاملة لأدباء راحلين كالأديب علي المك والشاعر الهادي آدم في قوالب أنيقة متقنة، وإعادة طباعة كتب تاريخية اجتماعية نادرة وكانت لا توجد منها إلا طبعات بيروتية قديمة بالمكتبات الجامعية كطبقات ضيف الله وكتاب «حياتي» و«الأمثال السودانية» للشيخ بابكر بدري . وظهرت كتب لأول مرة كان كتابها محظورين كمؤلفات القائدين الشيوعيين إبراهيم نقد وعبد الخالق محجوب، وكذلك كتاب آخر لصحافي مقيم بدولة أوروبية بعنوان «تجربة صحافي في بيوت الأشباح» يحكي عن تجربته عن التعذيب في سجون الحكومة الحالية في بداية التسعينات.

الدار السودانية للكتب نشرت عشرات الكتب الجديدة، منذ بداية العام وحتي الآن، وكذلك مروي بوكشب معظمها لكتّاب خارج البلاد، كما هناك مبادرة «برانا» الثقافية ـ «براناَ تعني «وحدنا» بالعامية السودانية ـ التي أسسها شباب متحمسون، لتجنب البيروقراطية وعراقيل الطباعة والنشر، يقومون بمساهمات جماعية في التمويل اللازم للكتب. وقاموا بتدشين أول أربعة إصدارات لهم من مجموعة شعرية ورواية لأدباء شباب في طبعات أنيقة، وهم يعلنون: «انتهت أسطورة الطباعة!». ومن المقرر أن تصدر كتب جديدة قريباً، فدار«عزة» للنشر دفعت للمطبعة 35 عنوانا جديدا، وتسلم مركز عبد الكريم ميرغني 7 عناوين جديدة، ودار «آفاق جديدة» للنشر تسلمت 15 عنوانا جديدا

فما سر هذه النهضة؟

* البعض يرى أن للحريات السياسية وحرية التعبير دورها في هذه النهضة، كما أن الانفراج الاقتصادي له أثره الكبير، فقد كانت الجهود، والأحلام أيضاً، تضيع يوميا في البحث وراء لقمة العيش وأساسيات الحياة.

مع مدير دار عزة للنشر نور الهدي محمد يجيب مفسرا هذه النهضة بقوله: «لا شك أن تكنولوجيا الطباعة لها الأثر الكبير، فبعد أن كانت طباعة الكتاب الواحد تكلّف الكثير من المال وتستغرق شهورا وتتطلب سفرا الي بيروت أو لندن، بات الأمر يتم في غضون يوم واحد، بل لو أتيتني الآن بمخطوطة سأسلمها لك بعد ساعتين في كتاب جذاب! وتكلفة النشر أيضا قلّت بصورة كبيرة؛ فألف دولار فقط هي تكلفة ألف نسخة جيدة الإخراج، وطبعا الأسعار تتفاوت حسب نوع الورق والغلاف. والحقيقة أن لهذه النهضة إيجابياتها في إبراز العديد من المؤلفات لأدباء وكتّاب كانوا ينظرون الي النشر كمعجزة صعبة التحقق وأخرجوا مخطوطاتهم القديمة من الأضابير فظهرت أسماء جديدة نبشر لها بمستقبل باهر، كما أن لتلك السهولة واليسر في الطباعة والنشر تشجيع في التأليف للكثيرين».

أين الترجمة؟

* موقع الترجمة من ثورة المنشورات الحالية ما زال خجولا؛ فبإجراء مراجعة سريعة على المنشورات الحديثة، نجد أن أعمال الترجمة تكاد تكون منعدمة والقليل الذي صدر منها يخص ترجمة الأدب السوداني والدراسات السودانية. ولكن في مجال التاريخ كان هناك إنجازا حقيقيا بترجمة كتب قديمة وقيّمة لأول مرة ومنها ترجمة كتاب «سجين الخليفة ـ 12 عاما أسيرا في أم درمان» للبريطاني شارلس نيوفلد. والكتاب صدر عام 1899 بعد سقوط دولة المهدية، ويذكر مترجمه محجوب التجاني محمود المقيم في الولايات المتحدة في مقدمته أنه عثر على نسخة نادرة منه بمكتبة بولاية تينسي الأميركية، ويقوم المترجم أيضا بالبحث في الكتب والمؤلفات التاريخية القديمة والحديثة التي تخص السودان وترجمتها مما يعد إضافة قيّمة للمكتبة السودانية، كما كانت ترجمة «مذكرات إدوارد عطية» العام الماضي، وهناك ترجمة لموسوعة ضخمة وهي «تاريخ الفلسفة» التي قام بها محمد عثمان مكي من اللغة البولندية الي العربية. أما الترجمات التي تتناول الأدب فهناك ترجمة رواية السودانية ليلي أبو العلا «المترجمة» التي قام بها الراحل الخاتم عدلان.

لكن من الملاحظ ان هناك نقصا كبيرا في ترجمة أعمال لروائيين عالميين، وفي ترجمة البحوث والدراسات الأجنبية. يفسر نور الهدى محمد هذا النقص بقوله: «نحن لا نستطيع أن ننافس دور النشر الكبيرة، كالساقي على سبيل المثال، التي تستعين بمترجمين معروفين، ولها أسواق في كل البلدان العربية. لكل شعب اهتمامه ونوع قراءته الخاصة، والسودانيون عامة يميلون الى قراءة الكتب السياسية والشعر والتاريخ والسير الذاتية، أما الشباب فيميلون الي الشعر والروايات العربية والأجنبية المترجمة».

التفاؤل ممنوع!

* ولكن رغم كل الأرقام السابقة والأسماء الجديدة اللامعة في عالم التأليف فما يجدر الإشارة إليه هو أن أعلى نسبة طبع لأي كتاب صدر حتى الآن لا تزيد على ألف نسخة، فثورة النشر لا تعني أن هناك ثورة في القراءة! وتبقى الحقيقة والإحصائيات المرّة القائلة إنه في الثمانينات كانت هناك 186 مكتبة والآن تقلص العدد لتصبح سبع مكتبات فقط بالخرطوم. وتعتمد دور النشر في التوزيع على المعارض الموسمية والملفات الثقافية بالصحف.

المسؤول عن دار «آفاق جديدة» للنشر عبد الحميد محمد يقول عن ذلك:

«رغم زيادة معدل النشر حاليا، إلا أن سوق الكتاب ضعيف. وتبعاً لذلك، يرتفع سعر الكتاب فيقل القراء!».

ليس كل ما ينشر أدبا!

* ليس ضعف القراءة وبطء عمليات التوزيع فقط ما قد يئد هذه النهضة. فنسبة ملحوظة من الكتب المنشورة حديثا لا تستحق النشر من الناحية الأدبية، وهناك روايات لأدباء شباب تفتقد مقومات الرواية مبنى ومعنى وإبداعا وروحا، كما هناك دواوين شعر تفتقد لمقومات الشعر، ولم ينجح الغلاف المصقول ولا التبويب الفني في تلميع القصائد الهزيلة.

يجيب مأمون التلب أحد مؤسسي مبادرة «برانا» الثقافية على سؤالنا له عن مرجعيتهم الفنية بقوله إنهم لا يعرضون ما يقدم إليهم من مخطوطات على مختصين، ويضيف: «نحن نتعمد النشر لغير المشاهير بل ولأسماء جديدة لم تكن لها سابق أعمال، وتحت الإعداد للنشر حاليا 30 عنوانا جديدا». ويعلّق نور الهدى محمد على ذلك قائلا: «ما نطالب به هو التريث وعدم الاستعجال، فكثير من الأسماء الجديدة يتسرع ويظن نفسه أنه يحق له أن يكون له كتاب باسمه طالما أنه قادر على كلفته، بينما في الماضي لا يخرج ديوان الشعر علي سبيل المثال دون أن يحوز إجازات من شعراء كبار كصلاح أحمد إبراهيم والفيتوري، وأنا كمدير لدار نشر مرموقة تحرص على سمعتها الأدبية، أستشير لجنة تحرير أو مرجعية فنية من أدباء ومفكرين أو شعراء فصحى أو عاميين وغيرهم من ذوي الصلة بالموضوع المراد نشره ليراجعونها فنيا ويقيّمون أحقيتها للنشر. والكثير منهم ينصح بألا يتسرع الشخص المعني بالنشر، وإنه يحتاج الى فترة من الزمن لكي يصقل تجربته، وأنا بدوري أنقل هذا الرأي بطريقة دبلوماسية. بعضهم يعمل بنصيحتي ويؤجل النشر حتى تنضج موهبته والبعض الآخر يتحول الى دور نشر أخرى تطبع كل ما يقدم إليها».