تيارات سورية السياسية التائهة

من الانقلاب العسكري للشيشكلي إلى «اشتراكية الفقر»

TT

«الحروف التائهة» لوليد إخلاصي، الصادرة عن وزارة الثقافة السورية، هي حكاية مسرودة في صيغة روائية، أو رواية في صيغة حكائية، تأخذ من الحكاية اطارها، بعض عبرتها، بساطتها وأحيانا سذاجتها، وإهمالها للتفاصيل لحساب سياقها وأمثولتها.

الرواية ترصد التحولات السياسية التي طرأت على سورية خلال ثلاثة عقود، بدءا من الخمسينات حتى السبعينات. يبدأ الفصل الأول «بالبدايات» فيعرفنا سرد ضمير الغائب، المهيمن على المعرفة، الخالي من مفاجآت درامية أو لغوية، على حسناء الجميلية «فضيلة»، الطالبة في الصف التاسع والتي تخلب ألباب أهل حارتها، ومن ضمنهم الأصدقاء السبعة (سبعة رقم مقدس ونمطي وحكائي)، طلاب المرحلة الثانوية هايل وحامد وسليم ورشيد واحمد ومجاهد وتركي. ينجح الطلاب في الثانوية على إيقاع الانقلاب العسكري للشيشكلي، الذي يلعب في الرواية دور حفظ التوقيت والتأريخ الزمني، ويختار كل واحد منهم كلية دراسية. وبين الفصل الأول والثاني، عشر سنوات زمنية، يبدأ الفصل الثاني (الزمن يمشي على هواه) فتتزوج فضيلة من تاجر سوري يعمل في الخليج. يترك حامد كلية الطب ليحل محل والده المرحوم في مشيخة الزاوية، ويجد هايل الذي صار طبيبا نفسه مأخوذا بالإخوان المسلمين وساخطا على إعدام سيد قطب، ويصبح تركي نقيبا في حزب البعث يطارد الناصريين الوحدويين، ثم تعلو به المراتب ليصير الرجل الأول في أمن حلب. ويسعى إلى ود فضيلة ليخطبها، فيصاب بالاحباط بعد ان يعرف أنها متزوجة في الخليج. ويسافر احمد إلى ايطاليا فنجده مع صديقته الفرنسية وهو يرسم لوحة أسطورية عن جمال فضيلة تثير غيرة الصديقة، ويصبح مجاهد الذي يلقب بالماركسي الليبرالي، أو المليونير الزهري، ناشرا معروفا في بيروت ومتزوجا من حسناء مثقفة اسمها قمر يذكر بريق عينيها بفضيلة، وسليم يمسي محاميا يتولى إدارة شركة الغزل والنسيج، ورشيد المعجب بلينين وماو يصير مهندسا يطير إلى الكويت بفرصة عمل محترمة.

يعرفنا السارد بملامح من مرحلة المراهقة والشباب عند الأصدقاء السبعة بالعدل في القسمة السردية، لكنه يقرر فجأة إهمال أربعة والتركيز على ثلاثة هم الشيخ حامد نهر العلوم الذي رفعت نكسة حزيران من عدد مريديه وأتباعه، والنقيب تركي الذي حاز رتبة مقدم في الأمن، والحسناء فضيلة التي تلجأ إلى الأخير لانتزاع شقتها التي استولى عليها أقرباء زوجها السابق، فيصعق الضابط البعثي من المفاجأة السعيدة التي جاءته بقدميها، ها هي الحسناء التي حلم بها، تصير في متناول يده فيبادر إلى طلب يدها فتوافق ويتزوجها في عرس كبير يرصد له تجار حلب الهدايا والولائم. ومشهد العرس هو الوحيد الذي تحس فيه بشميم خاطف من الرائحة الشعبية الحلبية.

ثم تبدأ مضايقات السلطة البعثية للمثقفين، ممثلين بأستاذ التاريخ وهب، فيطلبه تلميذه السابق المقدم تركي للتحقيق، وينبهه إلى ضرورة تجنب إثارة النقد ضد ما يسميه وهب"اشتراكية الفقر"، وإلى عدم الكتابة في الصحافة الخارجية الاستعمارية ويرشوه بسيارة وسائق، فيتحول من الصحافة الناقدة إلى الانكفاء على الترجمات التراثية والفنية، قانعا من الغنيمة بالسلامة والجاه.

«بما تشتهي ولا تشتهي السفن» فصل تجري فيه تحولات درامية فيتحول المقدم تركي الذي تزوج من فضيلة إلى مطارد، بعد الحركة التصحيحية (مجرد ذكرها جرأة رقابية وان بقي موقف الرواية منها غائما)، ويلجأ إلى خلوة الشيخ حامد صديقه القديم، فيدبر له مفرا إلى تركيا ثم إلى العراق، ويترك رسالة لزوجته فضيلة مع الشيخ، فيلتقي الشيخ بحلم الشباب الأول. تجد فضيلة نفسها مأخوذة بجلال الشيخ حامد، وتطلب منه فتوى طلاق فيبتلى الشيخ ابتلاء كبيرا، فيخلع جبته ويلبس بدلة مدنية، ويجد السلطة الجديدة قد وكلته بتنظيم المساجد و تعيين خطبائها ( يقصد الأوقاف)، فيعتبرها الشيخ تقديرا لمكانته الجديدة ويتجه قاصدا دار فضيلة ليطلب يدها.

وفي الصفحات الأخيرة من الرواية تندلع بوادر ذروة صراع روائي لاهب ومتأخر عن موعده الدرامي، فالمقدم تركي الهارب قد جرّه حبه لزوجته الحسناء إلى مصيره المحتوم، فيجد الشيخ في داره مع زوجته، لا تأخذ الظنون به الى السوء بالرغم من طلب الزوجة الحسناء الطلاق! وفي هذه الآونة تدقّ قوات الشرطة المسلحة الباب وتأخذه سجينا سياسيا، فيما يهرب الشيخ من الدار حامدا الله على عدم وقوع فضيحة كبيرة، ويتذكر أصدقاء الشباب ويتساءل ماذا إذا كانت حروفهم ستتجمع من جديد.

هذا ملخص رواية لا نندم على تلخيصها، فهي رواية قول سارع الكاتب في بدايتها الى رسم مصائر بعض شخوصها الأساسية التي أوحى ببطولتها، ويمكن اجمال قولها وهو: أنّ السلطة السورية انتهت الى تحالف بين الحزب التقدمي والدين التصوفي ، وان ممثل الدين الصوفي المتحالف مع السلطة التقدمية البعثية، الذي خلع الجبة وارتدى الزي المدني العلماني الحديث، كاد أن يخسر فضيلة الأخلاق في سبيل شهوات الدنيا من نساء وجاه.

يمكن القول ان شخصيات رواية اخلاصي تعبر عن أفكار وتيارات سياسية وأنماط، وتفتقر إلى حرارة الحياة. أما حوارات الشخصيات الفصيحة السهلة التي تشبه حوارات مسلسلات الفنتازيا التاريخية فهي اقل من أن توصف «باللغة الثالثة»، لأنها قليلة الحمولة بالروح العامية والشعبية كما في روايات نجيب محفوظ ، فتبدو وكأنها مترجمة من لغة أجنبية. الشيخ حامد نفسه الذي من المفروض أن تشغل الجملة الدينية البلاغية حياته وعبارته، يبدو للقارئ جاهلا بالدين شريعة وسلوكا، وتظهر لغته مثل لغة أصدقائه، ولا تشفع لها بعض العبارات الدينية السائرة.