عكاظ الألفية الثالثة وحمّى التصويت

TT

تشهد أيامنا هذه ميلاد مشاهير بمقاييس جديدة في المنطقة العربية. فلم يعد الإبداع الذى يقرّه الخبراء المتخصصون هو المقياس، بل تشارك جماهير المشاهدين التلفزيونيين، بمختلف أذواقهم ومشاربهم في اختيار نجومهم المستقبليين عبر الهواتف ثابتها ومتحركها، وبدأ ذلك مع البرامج الخاصة بالغناء كـ«ستار أكاديمي» و«سوبر ستار» و«ألبوم نجوم العرب» التي طرحت في عالم الغناء أسماء جديدة، كان أصحابها يتوسلون شعوبهم عبر الشاشات للتصويت لهم عبر الـ SMS لكي يصبحوا فنانين مشهورين! وخلقت هذه البرامج ما يمكن أن يسمى «نجوم عصر الاتصالات»، ممن يهتمون بإبراز عضلاتهم وتسريحات شعرهم قبل إبراز جماليات أصواتهم وحسهم الفني الراقي. وجاء فوز بعضهم في حملات قومية متعصبة أشبه بالمظاهرات، لذا لم يكن مدهشا أبدا أن كانت أول أغنية يغنيها الفائز في إحدى دورات «سوبر ستار» العرب هي «أنا بحب الدورة الدموية»!

وانتقلت المنافسات الجماهيرية عبر الـ«SMS» من الغناء الى الشعر، قلعة العرب الحصينة، وشهدنا مؤخراً مسابقة «أمير الشعراء» التي تجري حالياً على قناة أبوظبي. إلا أن لجنة التحكيم تصوت بنسبة 50% للشاعر الأمير المنتخب وللجمهور البقية الباقية من النسبة. وبعد أن كان الشعراء قديما يقفون أمام أبواب السلاطين استجداء للعطاءات، نراهم اليوم يقفون أمام شعوبهم يستجدون الدعم «السمسي» نسبة إلى الـSMS. ولك أن ترى الجماهير وكأنها تشجع فرق كرة القدم ببلادها، ترفع علم بلد الشاعر المشارك عاليا أمام الكاميرات، وعلامات النصر بالاصبعين دون أن تهتم بمتابعة القراءة الشعرية لشاعرها. ثم تقرأ على الشريط أسفل الشاشة «أصوّت الى بنت بلادي» أو «أرشح ابن بلدي»، لتتواجه النزعات القومية المتعصبة مع النزعات الجمالية المحايدة في أقسى معاركهما، ونجد ان الغلبة غالباً ما تكون للأولى. ولو كان للنقاد المخضرمين فى لجنة التحكيم ان يقولوا الكلمة الفصل لكانت القيمة الأدبية للجائزة أرفع، ولكنها متطلبات السوق ودخول شركات الاتصالات وأرزاقها على الخط. والعزاء الوحيد أن أمير الشعراء الأول تم اختياره داخل بلده ولم يشارك بقية النقاد العرب في التصويت!

ورغم أن البرنامج نجح في إخراج شعراء مغمورين الى الضوء، وتصفية مواهب شعرية حقيقية، ونعوّل في ذلك التقييم على نسبة لجنة التحكيم أكثر من «لجنة» الجماهير المنتخبة، إلا أن هناك ملاحظات منها أنه ما زال بعض الشعراء العرب يقرأون أشعارهم، وهم يلوّحون بأيديهم أمام الميكروفون ويصرخون ويتشنجون، ويظنون أنهم في معارك حماسية أمام الأعداء مباشرة. وهذه قراءة جرت على سنة الأولين من شعراء الجاهلية الذين كانوا يفتقدون الميكروفونات والكاميرات، لذا كانوا يضطرون للصراخ لإسماع كل مرتادي «سوق عكاظ»! بالإضافة الى طبيعة الشعر القديم الذي تتأرجح قوافيه ما بين الثأر والفخر. ولكن ليطمئن الشعراء الحاليون أننا نسمعهم ونراهم بسهولة من القطب الشمالي الى الجنوبي، ومن جاكرتا الى طنجة بل نكاد نحصي دقات قلوبهم المتوثبة ونرى حلوقهم. ونقول لهم أن الشعر لا تستطيبه النفس إلا إذا جاء هادئا مهموسا، وأحيانا مصحوبا بنغمات موسيقية رقراقة. بل أجمل الشعر ما تقرأه من كتاب لتسكن الروح فيه وتجوب بحرية في عوالمه القوس قزحية، فرفقا بالمشاهدين.

أما الشعر نفسه، فما زال معظمه يدور في مدح ولاة الأمر والشعر الوطني وبكاء العروبة الممزقة، وتتكرر كثيرا عملية استنهاض الشخصيات البطولية التاريخية في الأشعار العربية الحديثة، والنداء لاستجلاب صلاح الدين وبن زياد وغيرهم ليفكوا أسر المنطقة العربية من جلاديها وسجانيها. وقد رأينا رأي العين أن العنتريات العربية الحديثة ما قتلت ذبابة كما أقرّ قباني بنفسه بل وانقلبت وبالا علينا من الجهاديين والانتحاريين وكل واحد منهم يظن أنه صلاح الدين زمانه! وبما أن ذكر التاريخ العربي المجيد يعد لازمة الشعر العربي، فالاقتراح يكون أنه على الشعراء الشباب إبراز شخوص تاريخية جديدة في مجالات أخرى في أشعارهم غير أبطال الحروب والمعارك كاستحضار ابن الهيثم والفارابي والكندي وحتى الغزالى وابن بطوطة وابن خلدون وغيرهم من الفلاسفة والعلماء. فالعصر الحالي عصر علم وبحوث واكتشافات، والذين يحملون رايات النصر من الشعوب هم من تفوقوا في هذه المجالات. بل حتى صلاح الدين الذي يريده شعراؤنا الحماسيون ليقتص لنا لن ينجح في غزواته في الألفية الثالثة إلا بعد أن يدرس الفيزياء والعلوم والاقتصاد والاجتماع، ويكون محاطا ومدعوما بوسط اجتماعي مثقف ومتعلم. وبما أن الشعر عشق العرب ويجري كالدم في عروقهم، فقد وصل عدد المشاهدين الى 16 مليون مشاهد للبرنامج، مما يعد نجاحا ساحقا. وجاءت الأنباء بما هو متوقع، وهو أنه تم استنساخ وجوه عدة من البرنامج في القنوات الأخرى، منها برنامج جديد باسم «شاعر المليون». وكان السؤال أهو شاعر المليون قصيدة؟ أم المليون قضية؟ أم شاعر المليون ديوان أم المليون قارئ ومعجب أم المليون SMS ؟ فكان الجواب بل هو شاعر المليون دولار!